لم يشهد قطر له كيان دولي معترف به كالعراق حيزا من التدخل الأجنبي المصحوب بالنفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي كالعراق منذ اكثر من عقدين من الزمن ولغاية اليوم . بعد حرب الخليج الثانية خضع العراق لعقوبات غادرة شرعنتها قرارات من الامم المتحدة منها الحصار الجائر ثم تحديد مناطق تابعة له بخطوط منع الطيران واخضاعه لإجراءات الفصل السابع فيما يخص صادراته وموارده ومنح فرق التفتيش صلاحيات تفتيش مؤسساته ومقرات السلطة فيه . وقد اعتبرت جميع هذه الإجراءات موضع استنكار كبير من الدولة والشعب وارغم العراق على قبول هذا الواقع المرير بسبب الظروف الصعبة التي احتسبها الواقع الدولي في حينها عقوبات واجراءات مفروضة لها دور في فك الاشتباك المسلح وطبيعة الصراع المفروض .
بعد الغزو في نيسان عام 2003 اصبح مفعول الحصار وحظر الطيران منتفيا وبالرغم من شرعنة الاحتلال الامريكي دوليا بقى العراق تحت رعاية الفصل السابع لغاية فترة متأخرة وما زال تحت احكام البند السادس فيما يخص الرقابة والإشراف ، صوَّرَيا اعتبر الإنسحاب الأمريكي بعد توقيع إتفاقية الذل إنهاء لحالة الاحتلال واعتبر العراق محررا واقاموا فيه عملية سياسية وانتقاء للسلطات من خلال انتخابات ودستور جديدٍ كُتَبَ بعد الاحتلال . و وفقا لذلك يفترض ان يكون العراق دولة استردت سيادتها واستقلاليتها بشكل كامل .
واقع الحال لا يحمل مؤشرا واحدا يدلل ان العراق دولة مستقلة لها السيادة ، على العكس من ذلك يشير الواقع أن العراق اليوم لا جغرافياً ولا عسكرياً ولا سياسياً او اقتصادياً هو بلد مستباح تحكمه سلطة لا تمتلك مقومات الحكم المدني او الدولة العصرية من خلال المؤشرات التالية :
1.الإنسحاب الأمريكي كان انسحابا تكتيكيا اضطراريا بسبب الخسائر الفادحة المادية والمعنوية التي منيَّت بها الولايات المتحدة خلال تواجدها المكثّف . انسحبت امريكا من العراق ولم يكن فيه العراق آمنا أو مستقرا او معافيا ، إيران حققت خلال فترة الاحتلال نفوذا في العراق فاق النفوذ الامريكي في الساحة العراقية، والبنية التحتية فيه كانت محطمة بالرغم مما تدعيه مجموعة الإعمار وبرامجها والمقاومة العراقية وفصائلها فاعلة والصراع السياسي الطائفي والعرقي متأزم والفساد المالي والإداري في أوج استفحاله . وأميركا بنت لها سفارة ضخمة لا وجود لمثيلاتها في العالم وتركت خلفها طاقما متكاملا من آلالاف العسكريين والخبراء والمستشارين والاعلاميين وانسحبت ولها مركزا اعلاميا ومخابراتيا فريدا في التقنية والمهارات في كردستان ، وانسحبت وهي تعرف جيداً ان اكثر من اربعين تنظيما مسلحاً ينشط في الشارع العراقي . لكن اميركا استمرت ولغاية اليوم في برنامج القتل المستهدف واستخدام الطائرات بدون طيار تشير معلومات استخبارية امريكية حديثة منشوره انه استهدف ابرياء بنسبة اكثر من 80% في العراق وفي دول اخرى.
2. امريكا من خلال الحاكم بريمر وشلته ، شكلت أكبر منظومة سلطوية فاشلة وفاسدة في العراق وثبتت في السلطة القضائية والجيش البديل والسلطة التنفيذية شخوص عميله ولصوص وقطاع طرق باعلى الرتب والمناصب ، تقاسمت فيها السلطة أحزاب عميلة جاءت مع الاحتلال من اوكار العمالة خارج العراق .
3.أميركا عند غزوها للعراق فتحت الحدود لكل من هبَّ ودبَّ ليدخلوا العراق ودخلت في حينها كل تنظيمات التشدد والتكفير والميليشيات التي استمرت بتاجيج الصراع الطائفي وعصابات الخطف والقتل والتفجير والعنف .
4. المناصب الرئاسية والوزارية لم تكن تتشكل الا بتوافقات اميركية وايرانية من خلال الزيارات المكوكية التي كانت تمارسها الادارة الامريكية وسلطة الملالي التي كانت تعقب كل فترة انتخابية وتشكيل حكومي .
5. عقود النفط وتراخيص الاستثمار لسبع شركات نفطية عقدت بصيغ استثمار بشكل مريب تسببت في اكتمال هيمنة اميركا وحلفائها على النفط العراقي بشكل غادر لحقوق العراقيين ومواردهم . أما الإتفاقية الأمنية وملحقاتها التي مررها البرلمان الفاشل ففي بنودها وتفاصيلها الكثير من الخروقات التي تتعارض مع سيادة الدولة واستقلالها والله اعلم بما خفيَّ منها .
6. جغرافيا الأرض العراقية اليوم مقطَّعة ومحتلة ومقسمَّة . اكثر من ثلث مساحة العراق يسيطر عليها تنظيم الدولة في العراق والشام الذي استولى عليها بعد ان هزم فيالق الجيش خلال ايام واستولى على اسلحته ومعداته ، فيما يشكل الاقليم الكردي حكومة وسلطة بصيغة الدولة المنفصلة في التصدير والاستيراد والقوة العسكرية والتعامل الدولي .
7. التحالف الدولي الذي يظم أكثر من خمسين دولة يدخل بكل امكانياته العسكرية ومدربيه ومستشاريه ومقاتليه وبكل امكانياته الجوية الاراضي والاجواء العراقية يحسب بحد ذاته احتلال آخر يتعارض مع ثوابت السيادة والاستقلال حتى وصل الأمر لتصاعد شكوك وتصاعد تصريحات تشكك في وجود نوايا حقيقية لدى التحالف في التعامل مع مقاتلي تنظيم الدولة . مما كثف الجهود لتشكيل الحشد الشعبي ذو الخلفية الطائفية لمجابهة التنظيم .
8.استخدام العراق ممرا جويا وطريقا بريا لعبور الاسلحة والمعدات وتسهيل تسفير افواج الميليشيا ت من العراق الى سوريا يتعارض مع ثوابت السيادة ومفهومها .
9. محاولة تشكيل التحالف الرباعي (الروسي الايراني العراقي السوري) وتشكيل نواته بعنوان المركز المعلوماتي الاستخباري ونواته في بغداد ودخوله في ساحة الصراع وطريقة تشكيله ومباشرته بالعمل أيظا يشكل اختراق كبير لسيادة العراق المنتزعة اساسا . ناهيك من أن اسرائيل يهمها انتكون فاعلة وعلى اطلاع لم يزوده هذا المركز من معلومات وهذا مايفسر زيارة بوتين للكيان الصهيوني ولقائه مع نتانياهو والقيادة العسكرية!.
10. سلوكية العبادي وحكومته وتلكؤه بتنفيذ منهجية الاصلاح وتحقيق التوازن والقضاء على الفساد ، وظهوره بلباس الخوف والتردد في اتخاذ الخطوات الفاعلة يشكل دليلاً واقعيا عن غياب الارادة العراقية واستقلالية اتخاذ القرار .
من النماذج الواقعية التي تظهر مواقع الضعف في مفهوم السيادة العراقية المخترقة :
أ.تصريحات المسئولين الايرانيين : تصريحات جاءت على اكثر من مسئولي النظام الايراني وزراء ومراجع وعسكريين منها :بغداد بالنسبة لنا هي عاصمة الامبراطورية الفارسية ، ايران لم تعد حدودها الشلامجة اليوم وانما البحر الآبيض المتوسط ، ايران تسيطر اليوم على اهم اربعة عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء . وعندما دخلت القوات الايرانية ودباباتها داخل العراق بعمق 40كم في ديالى وعلى طول الحدود قال سليماني نحن نقاتل في عمقنا ، وايران تفتخر وتشيع قادتها وقتلاها في معاركها بالعراق ولا تنكر ذلك ويفتخر سليماني بنشر الصور واللقاءات التي يجريها في جبهات القتال العراقية في صلاح الدين وديالى والانبار محاطاً بمقاتليه وميليشياته وبنفس الوقت يلتقي المسئولين دون مواعيد مسبقه ويزور العراق بلا دعوات رسمية ؟ ويلتقي المراجع وزعماء الكتل والاجتماعات الحزبية والقيادات العسكرية بلا سابق ترتيب وكأنه مسئول عراقي لا يتطلب بروتوكول ولا بترتيب مسبق . وإيران تضغط اليوم على العبادي باطلاق السلاح الجوي الروسي في العراق ومثل هذه الدلائل والوثائق والتصريحات التي تضهر تعامل ايران مع العراق خارج حدود اللياقة الدبلوماسية والسيادة العراقية كثيرة ولا تحصى .
ب : التعامل الأمريكي : قاتل الامريكان ويتواجدون على ارضه لغاية اليوم باشتراط الحصانة وقتلوا الكثير من العراقيين المدنيين جوا وارضا وفي سجونهم ومارسوا الاغتصاب والسرقة والنهب والتعذيب وهربوا ارشيفه و وثائقه وآثاره ومخطوطاته وهربوا الاموال والسراق والقتلة والفاسدين بلا حساب ولا تعويضات او اعتذارات . وتصرفوا بالمال العراقي دون حساب . وهم يدخلون اليوم الى العراق بلا سابق انذار ويقصفون الاهداف والمدن الآمنة ويقتلون السكان بلا تنسيق او إعلام ويتعاملون مع عملائهم وصحواتهم بشكل مباشر دون تنسيق مع السلطة .
ج. تخترق الاجواء العراقية شرقا من قبل الطيران الايراني وشمالا من قبل الطيران التركي بشكل متكرر دون رادع .وتتحرك تجمعات مسلحة بكل حرية وبتشجيع من السلطة الحاكمة للعبور الى سورية لمساندة هذا الفريق او ذاك لدولة مجاوره تشهد صراعا عسكريا سواء من شمال العراق او من وسطه وجنوبه ، الا يمثل ذلك اختراق دولي ، كيف ستتعامل دول الاقليم مع العراق ضمن ثوابت السيادة العراقية بالمقابل ؟
د. عندما تتعامل السلطة في العراق تحت مفهوم طائفي إثني يبرر لإيران حق التدخل في العراق او وسوريا او البحرين او اليمن بتبرير حماية طائفة معينة وعندما تبرر فتاوى المراجع والزعامات الدينية للطوائف وتخضع لها سياسيا و واقعيا ، في الوقت الذي يتواجد فيها تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة التي تصرح تكرارا ومرارا ان خطر الميليشيات الايرانية في العراق وسوريا هو أخطر من ميليشيات ومقاتلي تنظيم الدوله ، كيف تتوقع السلطة الحاكمة في بغداد ان تتعامل معها في القتال ضد التنظيم وفي التعامل مع مقاتلي الحشد الشعبي الذي يحمل ويقاتل بسمة طائفية ، وكيف يستطيع العبادي ان يبت في موضوعة اتخاذ قرار بمشاركة حلف روسي ايراني لقتال تنظيم الدوله في العراق في ظل وجود قوات التحالف الدولي التي تعترف بخطورة التدخل الايراني في العراق ، الا يعني ذلك ان السلطة الحاكمة في العراق نفسها لا تستطيع بسبب الاجندات التي تكبل صلاحياتها ان تفرض سيادتها واستقلاليتها في اتخاذ القرار الصائب ؟.
ه. اذا صحت فرضية وجود توافق دولي على خلفية الاتفاق النووي بين مجموعة (5+1)وايران بتسويات وحلول لصالح الدول المشاركة بالتفاوض ومنها الصراع الروسي مع كرواتيا في القرم والتواجد الروسي في سوريا ضمن صفقة الحلف الايراني الروسي السوري العراقي المفترض ،فإن مجرد وجود مثل هذا الافتراض وموافقة العراق على تدخل روسي لمجابهة تنظيم الدولة لقاء صفقة لا علاقة للعراق فيها وتشكيل المركز الاستخباري لتبادل المعلومات ومقره بغداد كما اعلن يعد بحد ذاته اختراق لسيادة العراق التي يفترض ان التحالف الدولي قد شكل وتمت الموافقة على القيام بهذه المهمة وليس لتحالفات جديدة اخرى .
و. من المعروف ان منصب رئيس الجمهوريه العراقية هو منصب يقره التصويت للبرلمان الاتحادي،في الازمة السياسية الحالية في اقليم كردستان تفاقم الخلاف بين الاحزاب الكرديةمما دعا الرئيس البرزاني يطالب بتبديل الرئيس فواد معصوم بمرشح يختاره من حزبه ، لمحاولة حل المشكلة التي هي اساسا صلاحية السلطة الاتحادية وليست سلطة الاقليم ، تتدخل الادارة الامريكية وايران وبريطانيا لايجاد حل لهذه الازمة لانها أطراف كانت صاحبة القرار بتوزيع المناصب الرئاسية على المرشحين ، أي سيادة هذه للعراق الذي تتحكم فيه ايران واميركا بتعيين رئاساته
خلاصة القول تكمن في ان طبيعة العملية السياسية التي اسسها الاحتلال في العراق والقائمة على المحاصصة الطائفية والعرقية ، هي عملية خائبة وفاشلة لا يمكن أن تؤسس لمفهوم الدولة العصرية التي تحترم سيادتها وسيادة الدول التي تحيط بها او تتعامل معها ، والتي افقدت مفهوم السيادة واستقلالية اتخاذ القرار فيه وانعكست على طبيعة الواقع المؤلم الذي يعاني منه العراق ويفتك به ليصبح العراق ساحة صراع عسكري اقليمي ودولي مدَّمِر ومنهك قد يطول أمده وتتفاقم نتائجه بشكل لا تحمد عقباه على مستقبل العراق ومصيره .
15تشرين الاول 2015.