في مشهدٍ ينضح بخيبة الأمل والهزيمة السياسية، تستمر “بغداد” في حفر قبر طموحاتها الإقليمية، تاركةً العاصمة “الرياض” لتحصد الأضواء وتستضيف لحظاتٍ تاريخية كمصافحة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” والرئيس السوري “أحمد الشرع” بينما كان يُفترض أن تكون “بغداد” بتاريخها العريق وموقعها المحوري، منصةً لهذا الحدث الدبلوماسي العالمي، اختارت النخب السياسية العراقية أن تغرق في مستنقع وحل الخلافات العقيمة والعبثية، مُبددةً فرصةً ذهبيةً لاستعادة مكانة العراق العربية.
بعض من قادة الأحزاب ونواب الإطار التنسيقي، في تصريحاتهم المُتلفزة التي تُثير الذهول والدهشة وخيبة الأمل ، لا يزالون يُصرون لغاية اللحظة على فكرةٍ تُناقض أبسط قواعد العرف واللياقة الدبلوماسية: المطالبة بالقبض على “الشرع” فور وصوله إلى مطار بغداد الدولي. بل وصل الأمر إلى المطالبة بتدخل سلاح الجو العراقي لإجبار طائرة “الشرع” على الهبوط قسرًا في قاعدة عسكرية لغرض اعتقاله! هكذا يفكر ممثلو الشعب العراقي، في خطوةٍ تُجسد مدى ما وصل إليه الاستهتار السياسي وتُعري انعدام الرؤية الاستراتيجية لدى برلمانٍ غارقٍ في صراعاته الداخلية مع حكومة رئيس الوزراء السوداني.
وبدلاً من أن تُحول “بغداد” هذه المصافحة التاريخية إلى لحظة انتصار دبلوماسي، كما فعلت “الرياض” بذكاءٍ ومهارة، اختارت الحكومة العراقية أن تُضيع الفرصة في ظل خلافاتٍ وصفتها تصريحات “ترامب” في منتدى الاستثمار الأمريكي-السعودي بـوصفه “الحكومات العراقية بالفاشلة ” كلماتٌ وعبارات مؤلمة وقاسية، لكنها تعكس معها مرارة الحقيقة: قادة العراق، المشغولين بصراعاتهم البيزنطية، يفتقرون إلى أدنى درجات البصيرة السياسية. وفي خطوةٍ تُكرس من هذا الفشل، دعا بعض (النواب) إلى إلغاء قمة بغداد المقررة السبت المقبل، معتبرين أنها “فاقدة للجدوى”، في تجاهلٍ صارخٍ لأهميتها كمنصةٍ للحوار العربي. وحتى شعار القمة المتمثل بـ “حوار وتضامن وتنمية” الذي تزينت به شوارع العاصمة بغداد من المطار إلى المنطقة الخضراء، بدأ كمجرد زخرفةٍ إعلاميةٍ فارغة من محتواها . أين الحوار الحقيقي ومسألة ترسيم الحدود بين “العراق والكويت” لا تزال عالقة؟ أين التضامن العربي والخلافات “الجزائرية-المغربية” تُلقي بظلالها على أي تقارب محتمل في ظل حرب دبلوماسية شرسة قائمة فيما بينهما لغاية الان ؟ وأين التنمية المشتركة في ظل اقتصاداتٍ عربيةٍ تُعاني من التشرذم؟ الشعارات البراقة لم تُترجم إلى أفعال، بل تحولت إلى صدىً لخيبة أملٍ تُثقل كاهل المواطن العربي والعراقيين على حد سواء .
بينما تتألق “الرياض” كعاصمةٍ للدبلوماسية والتأثير، تقف بغداد شاهدةً على إخفاقاتها الذاتية، غارقةً في وحل الصراعات الداخلية وغياب الرؤية. “قمة بغداد”، التي كان يُفترض أن تكون لحظة تألق، تُواجه خطر الفشل والانهيار حتى قبل انعقادها، تاركةً العراق في مواجهة مرآة فشله السياسي.
وبينما تقوم العاصمة “الرياض” وبرعاية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بتحقيق نصر دبلوماسية استراتيجي تاريخي يحسب لها وتحقيقها ما عملت عليه منذ أسابيع في جمع كل من الرئيس “ترامب” والرئيس “الشرع” وبدعوة منه ومن خلال دعم المباشر من “ترامب” وقد قال في حق “الشرع” ما لم يقل مالك في الخمرة وانضم إليه الرئيس التركي “أردوغان” هاتفيًا وأشاد بدوره بالرئيس “ترامب” لرفعه العقوبات عن سوريا، وتعهد بالعمل مع السعودية لتعزيز السلام والازدهار في سوريا. كما أشاد ولي العهد بالرئيس ترامب لقراره رفع العقوبات، واصفًا إياه بالشجاع وأخبر الرئيس “الشرع” أن لديه فرصة عظيمة لإنجاز شيء تاريخي في بلاده. وشجعه على القيام بعمل رائع للشعب السوري، وحثه على:
1. التوقيع على اتفاقيات إبراهيم مع إسرائيل
2. اطلب من جميع الإرهابيين الأجانب مغادرة سوريا
3. ترحيل الإرهابيين الفلسطينيين
4. مساعدة الولايات المتحدة على منع عودة داعش
5. تحمل مسؤولية مراكز احتجاز داعش في شمال شرق سوريا
واختتم الرئيس “الشرع” كلمته معربًا عن أمله في أن تكون سوريا حلقة وصل أساسية في تسهيل التجارة بين الشرق والغرب، ودعا الشركات الأمريكية إلى الاستثمار في النفط والغاز وهذا ما سوف تعمل عليه جاهدة جميع الشركات الأمريكية وبمختلف مجالات الطاقة والإعمار. وحتى الأمس القريب، يُخشى الجميع التقاط صورة معه أو حتى مصافحته خوفًا من وصمة الإرهاب، يقف اليوم على منصة التاريخ ليُعيد كتابة قصة سوريا بحكمة ورجاحة عقل، ناقلاً بلاده من حضيض الحروب الداخلية والعزلة الدولية إلى مصاف الأمم الكبرى. هذا التحول، الذي يحمل بصمات التوفيق ، يُجسد قول المولى جل جلاله: “إن الله يغير من حال إلى حال” ولكن اللحظة الأكثر إثارة في هذا الصعود المذهل جاءت من الرئيس الأمريكي “ترامب” نفسه، الذي لم يبخل بعبارات وجمل المديح والاعجاب وفي كلمات قلما تُسمع من “ترامب” وصفه بأنه “شاب وسيم وقوي، له ماض قوي جدًا، مقاتل قاد الثورة، ومذهل بصراحة” ولم يكتفِ “ترامب” بذلك، بل أضاف للتاكيد : “إنه رجل جيد جدًا، ولديه فرصة حقيقية للحفاظ على وحدة سوريا” هذا المديح، الذي يحمل نكهة المثل العربي “ما لم يقله مالك في الخمرة” يعكس ليس فقط تقديرًا شخصيًا من رئيس أقوى دولة بالعالم ، بل تحولًا جذريًا في الموقف الأمريكي تجاه قائد كان يُنظر إليه سابقًا كـ”زعيم متمرد” ومنذ أن تولى “الشرع” قيادة سوريا بعد سقوط نظام (الأسد) أظهر قدرة استثنائية على توحيد الفصائل المتناحرة، وإنهاء الصراعات الداخلية، وإعادة بناء دولة كادت أن تتلاشى في دوامة الفوضى. بعقلية استراتيجية وبراغماتية، نجح في كسب ثقة المجتمع الدولي، ليس فقط بتفكيك شبح العقوبات الاقتصادية، بل بتحويل سوريا إلى شريك إقليمي لا يُستهان به. هذا الإنجاز، الذي بدأ مستحيلاً قبل سنوات قليلة، جعل من الشرع رمزًا للقائد الذي يتحدى المستحيل.
وقد أحدث إعلان الرئيس الأمريكي زلزالًا معنويا ونفسيًا واقتصاديًا إيجابيًا في سوريا، حيث يُتوقع أن يشهد الاقتصاد السوري، للمرة الأولى منذ عقود، انطلاقة نوعية نحو “الاندماج بالاقتصاد العالمي” هذا التحول المرتقب يستمد شرعية قوته من رفع العقوبات الأمريكية، ويتعزز بتوقعات قوية بانضمام الاتحاد الأوروبي إلى هذا المسار التنموي ، وارض اقتصادية خصبة لجلب الاستثمارات ليس العربية فقط وإنما الغربية وعبر رفع عقوباته عن قطاعات إضافية ومجالات جديدة وافق تنموية ، مقارنة بالتخفيف الحالي المحدود لمدة عام واحد. هذه الخطوة، وإن تحققت خلال الفترة المقبلة وكما هو متوقع لها، ستُشكل نقطة انعطاف تاريخية، تُعيد فتح الأبواب الاقتصادية وحتى السياسية على مصارعيها أمام سوريا لاستعادة مكانتها ودمجها في الاقتصاد الدولي، وتُنهي عزلتها الطويلة، مُمهدةً الطريق لتنمية مستدامة لا رجعة فيها.
وبين آمال دمشق المشرقة وفوضى بغداد المظلمة يسارع بخطى ثابتة رئيسهم “الشرع” برسم ملامح التنمية لبلده ونواب العراق يغرقون في العبث والفوضى السياسية وفي دمشق، يترقب الشعب السوري بلهفة كلمة رئيسه، المقررة اليوم في الثامنة مساءً بتوقيت العاصمة، حيث يُنتظر أن يكشف عن مكتسبات اقتصادية وسياسية وتنموية استراتيجية حصدها من مفاوضاته مع الرئيس الأمريكي “ترامب” وقادة دول مجلس التعاون الخليجي. هذه المكتسبات، التي يُتوقع أن تُترجم إلى خارطة طريق لتنمية اقتصادية ومجتمعية طموحة، تُعيد الأمل لسوريا المتعطشة للاستقرار والتقدم وإعادة الإعمار بالحجر والبشر. “الشرع” بذكاء دبلوماسي، يُحول الفرص الإقليمية إلى أحرف واضحة تُنير مستقبل بلاده.
في المقابل، تغرق “بغداد” في ظلام دامس من الخلافات السياسية العقيمة، حيث تتصارع النخب الحاكمة في وحل الصراعات الداخلية التي تفتقر إلى أي رؤية بناءة. بدلاً من استثمار موقع العراق المحوري لقيادة حوار عربي مثمر في قمة بغداد المرتقبة، ينشغل نواب الإطار التنسيقي بمعارك عبثية، تُغرق آمال الشعب العراقي في مستنقع الإحباط. بينما تتأهب دمشق لرسم ملامح نهضتها، تظل بغداد أسيرة فوضاها، مُبددةً فرصة استعادة دورها الريادي في ظل قيادة تائهة ومنقسمة.