23 ديسمبر، 2024 10:05 م

تجاذب منظومة الحدوس وأغواءات التوهجات اللفظية في ” حافة كوب أزرق”    

تجاذب منظومة الحدوس وأغواءات التوهجات اللفظية في ” حافة كوب أزرق”    

يتوحد الناقد والشاعر في داخل النص الشعري برؤيتين، الأولى سرية غامضة باطنية، بالذهاب إلى قول اكتافيوباث “بلغة الشعر الباطنية ” والعودة إلى الرؤية البصرية داخل وهج اللغة التي يتسامى بها النسيج الشعري، من هذا المدخل نقرأ ديوان- حافة كوب ازرق- للشاعر والناقد مقداد مسعود، يحتفل الشعري في نصوص الشاعر بالمقولات الثخينة القريبة من المعرفي الابستيمولوجي والفلسفي الطبيعي والمتيافيزيقي والصوري الشكلاني والدرامي بكل بناءاته الفكرية الحسية وتضاريسه الذهنية ، تتعالق بهذه البنى مجسات التأويل المفتوح وانحياز الشاعر إلى معرفة العالم بصرياً، ودفع الضخ الشعري في عبارته الطويلة واستنطاق التشكيل والرموز معاً وتشييد بنى التقابل والتضاد وتكريس سيمائية الإشارة في رفد الكتابة بطرازية شديدة الشبه بالتعريف، كما برز هذا في التصوير المسهب من “فهرس أول” : “المرايا: لوعة نرسيس/ ريح الجنوب: بوق المطر/ الكتابة: كدح/ أنا: أكثر من أعدائي/ المسبحة: سلام السماء/ رئتي: مكتبتي/ دمشق: باب توما/ المرايا: خطأ الماء/ المسلسلات العربية: قوادة .. التعريفات: تبئير…ص5-6-7)) ترشح شعرية النص من خلال لغة اشارية متوترة في لحظتها البنائية وفي تبئيرها وتتشارك في حركتها وبنائها الشعري تبادل حركة الأشياء والكائنات. إن الشاعر مقداد مسعود، يجتهد في بناء مشهدية تتناوب من فضائها الشعري الذات الشاعرة أي الطبيعة الداخلية والأخر الخارج الذي يسعى لفك شفرات النص الداخلية العصيّة على الفتح وقراءة تموّجات الفكرة أو المقولات الشعرية الكائنة في التوالدات الصورية، حيث “تجري أحياناً عملية تناوب بين خارج مفتوح وداخل مغلق في حركة ايقاعية تموجية داخلية غير مرئية قد تستقر أحياناً عند قطب الداخل حيث التفجير الأعمق لطاقة المشهد ولسيكلوجية الوعي المقموع” حسب كلام الناقد فاضل ثامر. وتتوقف القراءة عند مهيمنات أسلوبية عديدة منها هذه الصيغة لمهيمنة النداء: “يا ..قطيفة عرف الديك/ …يا سرج حورية الغابة/ يا نجم الأرض المطوق/ يا…قطر الزنجار…/ يا… صدأ القمح…./ أنا كائن شعري ص11- 12 أضوية الهديل” تتعد بنيات الاعلان بالأنوية باستدعاء الضمير “أنا” في مساحات عريضة من معظم نصوص الكتاب، وتجترح لها الذات الشاعرة مستويات دلالية متعددة ,تتراكب من خلال شروحات المعاني الدالة على استنبات الغرائبي والفانتازي وغوايات الإشهار الذاتي الذي يقطع الدلالة الى ما هو أكثر عرفانية وإبلاغية بل يذهب بعيدا في كشوفاته السحرية والذي يقود الشاعر الى الكشف الشعري باستغراقه لنثر كثافة المعاني وشعرية الافكار وتشظي النبى الانزياحية التي تجدد تأويل العلامة النصية واستبصار الحدس في متاهة النص وعلاقاته الداخلية التي تتزاوج فيما بينها بكثافة الملفوظات الشعرية، وبهذا يسعى الشاعر إلى كشف المزيد من الهواجس وتوهجات المنظومة اللفظية في سلسلة من الابتكارات التي تنفتح على الأفكار وحضور انطولوجيا الذات وتكرار شفرات الاستعارة عبر كشف المزيد من التوهجات اللفظية، وحضور استعادة الصور المتنافرة وسط هذا الاستغوار الذهني واستنفار تحولاتها عبر مجموعة من الأقنعة والايهامات حيث تتراكم كل هذه الشفرات الاستعارية  وتعمل على استكناه الرؤيا البصرية وتغريب الذات عبر منظومة حدوس تشتغل فيما وراء الدلالة وهواجس الأنا واستعراضاتها أمام لعبة الإغواءات اللفظية: “نبات قابل للتبني: أنا/…. أنا جيد التوصيل…./ أنا نبات التبني والهمس/ أنا الزهرة في ثلاجات البراري البيض…./أنا نبات هوائي…./ أنا أنتمي لعشيرة نباتية: الأوركيديات…./ أنا نبات لا أطيق الـ….ص29 سيرة نباتية” تمثل بنى التقابل والتماثل والتوصيف عمارة من الإبتكارات النصية التي تنثال عبر سلسلة من الصور التي تنفتح في تحولاتها ولعبة ابتكار الذات الشاعرة لبنى الانطولوجيا الشعرية، وذلك عبر أستغوار ما توفره الرؤيا من غوايات الجهاز اللغوي وكيمياء اللفظة الشعرية وشفرات الاستعارة والجوهر الحسي والذهني للرؤية الشعرية واستحضار التخييل: “ويجاور هذا الاشتغال بني افتراضية تترجم مسارب أقنعة النص مقابل الاغتراب الوجودي للذات الشاعرة التي تعاني من تشفير العالم في مسوح استعراضية تقع بين النفسي واللغوي والانطولوجي والميتافيزيقي: “هذا آذاني….غصن أصلع من الأوراق/ بهذا الأذان تصدى لعمى حكمة الرمل: تطرز الغيوم/…..الصحراء : عتبة السماوات/ الصحراء قصيدة المغفلين/ الكتابة: نهود الظمأ../الصحراء لغة الجمل. “الصحراء ترجمان الشجرة ص81) يسعى الشاعر في صميم العملية إلى تحقيق الأنوجاد في الاشياء واستثمار لها بنى في الوجود مقابل وجوده الشيء والمادي وتنشغل الذات الشاعرة بتأسيس كيان ثنائي في “المحو والوجود/ والتراسل بينهما، إذ تشكل هذه الاشتغالات الهواجس الكلية للشاعر ورؤياه الشعرية، ويدعم هذا التأسيس برفد النص ببنيات بصرية تقوم على أساس الأفتراض يشاطره الحلم والرغبة وأغواءات الاستبصار والحدس واقتراح معانٍ جديدة عبر الحفر باللغة وسياقاتها الاستعارية “في صيغ الإعلان والتصريح والبث الدلالي: “أنا…./حجر عين الشمس…/ أنا الحجر العين الشمس./أنا… عين الشمس وعين الحجر/ أنا شمس العين/ حجر الشمس/ أنا عين الشمس ترجمان المعادن…لا الأشواق…ص 53 صانع البروق” يكتب الشاعر مقداد مسعود سيرة شعرية للشاعر سركون بولص عبر تمشهدات نصية يغوص فيها، ويستل منها عوالمه الشخصية وعدد من عنونات نصوصه الشعرية، ويتماهى مقداد مع سركون في هيجان الكينونة الشعرية الشخصانية وتأويلات الإرموزات التي يكتشفها مقداد في دورانه والتفافه وبحثه المضني في عالم سركون الشعري، من محنته الشعرية، في الحلم واليقظة والرؤى الكونية التي تتعالق بين عالمي الشاعرين، حيث تبدو واضحا تناصات الشاعر في تنصيصات ثيمية وهاجة هذي التي توحي بالالام والعذابات وحالات الاستلاب عبر زمنية مفتوحة منداحة وسط عالم مفتوح من الأغتراب النفسي واللغوي والانطولوجي، تتراكم عبر هذا الاستمناء اللغوي استعادات الاختناق والعزلة والحزن واليأس والعوالم الخفية الغائرة المسفوحة عبر مجسات اللغة والزمن والكون وتجليات الذات المقهورة: ” أيها الشاعر…/يا دليلنا الى الأكربول/ الشاعر الجميل الجميل/ ياأجمل الشعراء/ أخانا الذي في المنفى/ يا سركون…بينما ترقد في سريرك../يركض نعلاك وحدهما في طرقات الوطن../ ياسركون أيها الألف: تتلعثم اسلاك اللغة/ والخطى تتفرق… دجاجات مذعورة…أمام دبابة/ تحرث قرية../ أيها الشاعر الشاعر/ يا معلم الطير، منطق الشجرة/ هل عليك أن تخطو كمن يصوب مسدسه بعناية…لأنه لا يملك إلاّ…طلقة واحدة؟! ص101 حامل الفانوس في ليل الذئاب” إن نصوص الشاعر تغدق على القراءة بتشربّها الكثيف، في أستغراقها باستعادات حياتية وتجليات استبطان الذات وتقابلها مع الآخر عبر كشوفات لا حدود لها في استمكان الشعري والقبض عليه في الومضة، في الجملة، في العبارة، في المقطع في السلسلة اللغوية التي تمتد من البداية وحتى نهاية النص، وكأنها عقدة الجوهرة التي تنفرط في قلب ومن قلب الشاعر لترسل للقاريء المكنون الشعري في نظم العلامة والإشارة ، في سلسة تجليات وإيحاءات، في الإشراق اللفظي الثخين أحيانا، لتقود القارئ إلى كشف اللهاث الذاتي لاصطياد بنى دلالية مفتوحة، متعددة في ومن وهج الكتابة التي يستمرؤها الشاعر وملاحقة لذة النص بالأستغوار في باطنه وكتابته وهدمه والعودة الى بنائه في غائية الرغبة الذاتية اللجوجة الساخنة بين الحلم واليقظة، في لحظة حرجة من لحظات الكتابة الشعرية المتوهجة، وهنا نقرأ بإمعان نصه  الرائع الموسوم “شفق في جبة السهروردي” الذي يتقطر منه نسق الإنزياح في المنظومة اللفظية والدلالية معاً وبقوة واشعاع شعري أخاذ وفذّ: “في يقظتي…/كان الرتاج يحلم بابا/ الباب…يحلم بيتا البيت غادر سهرورد/ في كراسه رسم/ ثم احتجزته خزانة بلا ذاكرة…./ أنا السهروردي المويد بالملكوت/ لا أتهم قمراً…/ ليلتي ماطرة…ص120” تتجاذب متن النص منظومة الحدوس العرفانية الصوفية التي تقطر شعراً من خلل نوافذ اللغة الإشراقية وحضور المعاني المتدفقة واستبصارات الرؤيا الإستعارية والجوهر النفسي الشخصاني وحلول الجوهر الشخصي الآخر في الروح الشعري والروح الشخصي للشاعر، ومحايثة شفراتهما في تأويل كينونة اللغة وإشاراتها العرفانية الفلسفية، وقد تجلت هذه الكشوفات في معظم نصوص الكتاب وأكثرها تجسداً واشتغالات هذا النص الرائع: شفق في جبة السهروردي: “في قلعة حلب… كيف زها هذا السراج النحيل؟/ ليلة…/ليلة ماحلة يا حلب../الماء يستفز الآس فيتأرجُّ عطرا… في أناملي: ومضة السندلوس…/ على مقبض الفأس… سيدي السهروردي… يا وارث النور الطامس في لحية أفلاطون/ لن أرمم ..تجاعيد  طين أرسطو…/ يا سيدي… كيف طابقت بين الخميرة الأزلية والخطب العظيم؟ أراك تعوم في أي ليل تعوم يا أبن مسعود ؟ سيدي السهروردي أنا لست مانعة صواعق….ص124
*مقداد مسعود/ حافة كوب أزرق/ دار ضفاف/ بغداد – الامارات العربية المتحدة-ط1- 2012