مما لا شك فيه الدور التاريخي الذي لعبته المرجعية الدينية في المعترك السياسي، فمنذ قدوم الشيخ الأنصاري للنجف الاشرف وتأسيس حوزتها قرابة سنة ١٠٥٧م، لعبت دورا جوهريا في تحريك حياة الناس لما لها من صوت مسموع وما تمتع به من قوة وتأثير لاعتبارات عدة قد لا تغيب عن ذهن القارئ الكريم.
وإحدى أهم نقاط قوتها هو استقلالها المادي والمعنوي, مما انعكس إيجابا على نتاجاتها الفكرية وقراراتها الموضوعية، فكان الناس ترجع الى المجتهد العادل الجامع للشرائط في الأمور الدينية والدنيوية, وإضافة الى دورها الديني، قد برز الطور السياسي لها وظهر جليا في عهد السيد حسن الشيرازي مؤسس حوزة سامراء وكان في حينه المرجع الأعلى للطائفة قرابة سنة ١٨٩٢م، حيث أفتى بتحريم التنباك (وهو نوع من أنواع التبوغ يستخدم للتدخين)، وملخص الموضوع أعطى الشاه في حينه لشركة بريطانية حق التصرف بالتنباك في عموم ايران لمدة (٥٠ عام) وكان فيه إجحاف ومصادرة لحقوق الناس، فحرم السيد الشيرازي التعامل واستخدامه حتى وصلت الفتوى الى قصر الشاه نفسه، وتعتبر هذه الحركة الاحتجاجية من أوائل المؤشرات على بروز الدور السياسي للمرجعية الحديث.
ومن بعدها الحركة المشروطة في ايران سنة 1906م والتي تعني حكم الملك بشرط اقامة برلمان وتشريع دستور، وبعدها ثورة النجف الاشرف سنة ١٩١٨م والتي كانت ولازالت مظلومة تاريخيا، فهي من اوائل الثورات ضد الاحتلال في العالم العربي الحديث حتى قبل ثورة مصر سنة ١٩١٩م، وهي ممهده للثورة الاشهر بتاريخ العراق المعاصر الا وهي ثورة العشرين ١٩٢٠م ، فكان للمراجع العظام دور رئيسي وفاعل في التصدي وقيادة جموع العشائر العراقية والمنضوين تحت لواءها من طلبة علم ومشايخ وعامة الناس وعلى رأسهم السيد محمد سعيد الحبوبي والشيخ مهدي الخالصي والسيد محسن الحكيم والشيخ النائيني والشيخ الشريعة الاصفهاني .
وتوالت الاحداث حتى مجئ مرجعية السيد محسن الحكيم، فشهدت مرجعيته تحول بالتعامل السياسي، فقد قامت السلطة في حينها بعمليات تصعيدية واسعة ضد المراجع وطلبة العلم من اقامة جبرية وتسفير وسحب اقامات حيث ان نسبة لاباس بها من فضلاء الحوزة وطلابها هم من اصول غير عراقية فحوزة النجف الاشرف منارة للعلم والمعرفة تستقبل طالبي العلم من كل اصقاع العالم، فأخذت المرجعية على عاتقها التصدي لهم وفتح افاق جديدة لم يكن لحوزات النجف الاشرف عهد بها من قبيل التحرك السياسي متمثلا بمباركتها لتشكيل حزب اسلامي واظهار دور اسلامي اكثر فاعلية في الساحة العراقية, ولكن بمرور الايام ازدياد الضغط عليها حتى وصل الحد للمواجهة ورأت المرجعية حينها من الاجدر الحفاظ على الدين والمذهب فليست للناس طاقة للمواجهة اكثر, بصفتها الحامية والصائنة للاسلام .
ومن بعدها مرجعية السيد ابو القاسم الخوئي والسيد عبد الاعلى السبزواري والسيد محمد صادق الصدر, ولاننسى موقف السيد محمد باقر الصدر الفريد من نوعه الذي ترك البصمة والعلامة الفارقة في تاريخ المراجع.
حتى مرجعية السيد علي السيستاني، فقد قاد العراق في احلك واصعب المواقف والظروف من ٢٠٠٣م ومارافقها من احداث لا سعة لنا بذكرها، وقد تدخلت المرجعية الدينية بثقلها فمع ام ضد ولاية الفقيه كان لابد من اخذ زمام المبادرة وتصحيح مايمكن تصحيحه، فكانت تقول حين يسكت الجميع لما فيه صلاح البلاد والعباد بكل طوائفهم واديانهم فلا تفرق بينهم فشملهم عطفها الابوي, وما حثها على المشاركة في الانتخابات لدليل واضح على مانقول كذلك انتخابات المصادقة على الدستور وهي توصل رسالة واضحة مفادها العراق للجميع.
وما فتواها الاخيرة بالجهاد الكفائي الا هزة لمن ظن واخذته الاقاويل بصمت المرجعية وسكوتها، فقد اطمئن لخطواتها الرشيدة بوصفها حكيمة تنشد السلام والعيش المشارك للناس جمعاء, فجاءت الفتوى بعد اكثر من8٠ عام من انطلاق فتوى ثورة العشرين التي سبق ذكرها بواجب الجهاد والدفاع عن المقدسات، فلولاها لكان مالايحمد عقباه قد وقع وحصل, مااريد أن اختتم به هو هنالك ابواق مأجورة تخرج علينا بين الفينة والاخرى تريد تشويه هذا الارث الكبير والعلم العظيم بترهات الكلام والتي لينأى المرء عن ذكرها فضلا عن الرد عليها, يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله الا ان يتم نوره.