22 نوفمبر، 2024 9:45 م
Search
Close this search box.

إنقلاب (1960) في “تركيا”  لماذا؟؟ وبماذا؟؟ وماذا بعد؟؟

إنقلاب (1960) في “تركيا”  لماذا؟؟ وبماذا؟؟ وماذا بعد؟؟

تمــهـيـــــد
أثارت المحاولة الإنقلابية الأخيرة في “تركيا” التي فرضت أوزارها منذ مساء (الجمعة-15/تموز/يوليو2016) وحتى فجر اليوم التالي، والمتوقع أن تتواصل ذيولها وإرهاصاتها في قادم الأسابيع والأشهر، شجوناً عميقة في شخوص قادة الدولة والحكومة والقوات المسلحة وزعماء الأحزاب ومختلف فئات المجتمع التركي ما بين مؤيد ومعارض، وستظلّ مُثيرة لتساؤلات عديدة عن الأسباب الكامنة وراءها وتابعية مدبّريها وكيفية تخطيطهم لها وتفاصيل تنفيذها ومكامن إخفاقهم في تحقيقها.         

ولكني لستُ تواقاً في هذا الشأن لتحليل ملابسات هذه المحاولة العقيمة وغير المخطط لها برصانة إلى جانب ضآلة معنويات المنفذين أو تراجع عزمهم بعد ساعات من المباشرة بها… بل أني لـمّا إنتبهتُ لطروحات عدد من المحلـّلين السياسيين العرب بشكل خاص -وحتى البعض من الخبراء الأتراك- ووجدتها بعيدة عن وقائع الإنقلابات الأربعة السابقات والمواقف التي فرضت تحقيقها في حينه، وما آلت إليها من نتائج وصراعات من بعدها، فقد راودتني رغبة جامحة بأن أخدم التأريخ المعاصر فأعدّ ((دراسات مختصرة)) أسلـّط من خلالها بعض الضوء على الإنقلابات الأربعة والمحاولات الفاشلة التي شهدتها “تركيا” خلال النصف الثاني من القرن العشرين… إذْ وضعتُ المراجع والتراجم العربية جانباً لأعتمد مصادر ومراجع تركية لوحدها والبعض من المترجمة للإنكليزية، كونها تمتاز بوافر الدقة وتحتوي على حقائق نأت عنها مثيلاتها العربيات لأسباب أو لأخرى ناهيك عن ركاكة التعريب وسبك العبارات والأخطاء الشنيعة في كتابة الأسماء والألثاب، من حيث إيماني المطلق بأن ((الحاضر غرس الماضي والمستقبل جني الحاضر))، وأن أيّ إنقلاب يتمخّض عنه إنقلاب ثانٍ ولو بعد حين.
          وقبل كل شيء وددتُ أن أخصّ (القارئ العربي) الكريم بمفهوم مصطلح (إنقلاب/iNKiLAP) –الذي إستخدمته كعنوان وكررته بكثرة وسط هذه الدراسة- كون مفهومه لدى الأدبيات السياسية التركية يتعاكس تماماً عن مرادفه باللغة العربية، كون “الإنقلاب التركي” يشير إلى (ثورة إصلاحية) على عكس المفهوم العربي لـ(الإنقلاب) الذي لا يأتي سوى بحكومة عساكر يتبعون الأساليب الدكتاتورية في الحكم… أما المصطلح السياسي التركي (ضربة/DARBE) فهو المرادف للـ(الإنقلاب العربي) الذي يكمن في خلجاته نوعاً من الغدر والخيانة.
          وفي حين شهدت الدولة العثمانية الكبرى (3) إنقلابات عسكرية وقعت على التوالي في الأعوام (1808، 1909، 1913)، وهي لا تعنينا كثيراً نظراً لزوال تلك الإمبراطورية الإسلامية، كي نركّز جلّ إهتمامنا نحو الإنقلابات التي وقع أولها بعد إنقضاء ما يقارب (4) عقود تفصله عن تأسيس الجمهورية التركية (1923) والتي تميّز عقداها الأولين بتحكم الحزب الأوحد وتسيير قائد واحد لمقاليد الأمور من دون أن يجرأ المحيطون به على منازعته في أي شأن يُذكَر.       

  وفي دراستنا الأولى وددتُ التركيز على الإنقلاب العسكري الـبِكْـر الذي عاشته “تركيا” عام (1960) وحقيقة القائمين به والتشكيلات السياسية التي إنبثقت في الخفاء داخل القوات المسلحة التركية، وكيف خطّطوا لتنفيذه، والمفارقات التي حصلت قـُبَيلـَه وحال البدء به، والنتائج التي تمخّض عنه… متمنياً أن أكون عند حسن ظن القارئ الكريم، واعداً إياه أن أعدّ دراسة ثانية أو تزيد عن الإنقلابات الثلاثة اللاحقات (1971، 1980، 1997)، وأضعها أمام ناظريه بقادم الأيام بعون الله تعالى.”عدنان مَندَرَس” رئيساً للوزراء
          وقتما تشكّـلت “الجمهورية التركية” عام (1923) على أنقاض الإمبراطرية العثمانية الكبرى، فقد أسس “مصطفى كمال آتاتورك” بزعامته “حزب الشعب الجمهوري” المعروف إختصاراً (C.H.P)، والذي فرض ذاته بمثابة حزب سياسي أوحد حتى وفاته عام (1938)، بل ظلّ من بعده على ذات النهج تحت زعامة خليفته “عصمت إين ئونو-ISMET IN ONU ” –(وليس إينونو)- لغاية أواخر (1945)، قبل أن يتجرّأ “محمود جلال بايار” -رئيس الوزراء الأسبق في عهد “آتاتورك”- يوم (10/11/1938) وإلى جانبه النائب الشاب “علي عدنان أرتـَكين مَندَرَس” (وليس مندريس، كما في معظم المراجع العربية) -وبصحبتهما أصدقاء آخرون في ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية وطروحات التعددية والديمقراطية- على الإنشقاق من حزب (C.H.P) مؤسّسين رابع حزب سياسي مرخّص في تأريخ “تركيا الحديثة” أسمَوه “الحزب الديمقراطي”، ومختصره (D.P)، والذي علا صيته لطروحاته التي إستساغتها قاعدة عريضة من المجتمع حتى أحرز (62) مقعد بإنتخابات عام (1946) رغم كونه في أوّل الطريق… ولكن ما أن آن أوان الإقتراع التعددي العام لسنة (1950) حتى إكتسح حزب (D.P) مقاعد مجلس النواب التركي بواقع (318) مقابل (32) فقط لصالح منافسه (C.H.P)!!! ليرأس “عدنان مَندَرَس” يوم (22/آيار/مايو/1950) حكومة ذات أغلبية كاسحة أجرى عن طريقها تغييرات جريئة وجوهرية على الواقع الذي فـُرِضَ على “تركيا” طيلة (3) عقود إنصرمت، والتي إستساغها معظم الجماهير ونالت إستحسانها، حتى حلـّت إنتخابات (1954) ليتعاظم عدد مقاعد (D.P) إلى (326) مقابل تراجع (C.H.P) إلى (24) مقعداً فحسب!!!إنجازات “عدنان مَندَرَس”
كانت نظرة “عدنان مَندَرَس” نحو الأمور ما بعد تأسيس الجمهورية، أن “تركيا” يجب أن تعود إلى جذورها الإسلامية وتـُحَسِّن وشائجها مع جيرانها العرب ودول الإسلام، إلى جانب ضرورات الحفاظ على مبادئ “آتاتورك” العلمانية ومواصلة فصل الدولة عن الدين ولكن من دون إمحاء الدين عن نفوس المواطن التركي… ولذلك أعاد الأذان باللغة العربية للصلوات الخمس إلى مآذن الجوامع والمساجد، وسمح بإرتداء أي لباس شرقي وسواه من دون التحدّد بالمرتديات الغربية، وأجاز تدريس الدين الإسلامي وتلاوة المصحف الكريم باللغة العربية حتى المرحلة الثانوية، وأمر بتعمير الجوامع والمساجد المهمَلة وإنشاء المزيد منها وإخلاء تلك التي حُوِّلَت إلى مخازن للحبوب وإعادتها إلى الحياة، وفتح معاهد لتخريج الوعاظ والخطباء ومعلـّمي أمور الدين، وإصدار مجلات وكتب ذات صبغات دينية وتوجيهية، فضلاً عن تقاربه المضطرد مع الدول الإسلامية والعربية، وتحقـيق ديمقراطية وتعددية مشهودة كانتا مبعث إرتياح الشعب التركي بعد تسلـّط الحزب الأوحد، ولكن من دون الإبتعاد عن التحالف مع الغرب الآوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، إذْ شارك الجيش التركي ميدانياً بتشكيلات برية عديدة في أتون “حرب كوريا” منذ (1951) وقدّمت المئات من الشهداء والجرحى على الأرض الكورية فكانت سبباً رئيساً لقبول “تركيا” مطلع (1952) عضواً فعالاً في “منظمة حلف شمالي الأطلسي” -المعروفة إختصاراً بـ(N.A.T.O)- قبل أن تغدق “واشنطن” مساعدات عسكرية ضخمة على “تركيا” لتغدو صاحبة ثاني أضخم قوات مسلحة على مستوى ذلك الحلف الإستراتيجي الأعظم في تأريخ الكرة الأرضية، فيما إعترفت “تركيا” بـ”دولة إسرائيل” كواقع حال، وأقدمت على تشكيل “الحلف البلقاني” عام (1953) كمبادرة صداقة ورأب صدع حيال عدد من دول البلقان -ومنها اليونان ويوغوسلافيا الإتحادية- والتي رضخت تحت الحكم العثماني لقرون عديدة، قبل أن تبرم “تركيا” “ميثاق/حلف بغداد” الخماسي عام (1955)- إلى جانب “العراق، إيران، وباكستان” -بزعامة “بريطانيا العظمى” ودعم الولايات المتحدة الأمريكية، وتزعّمت مقارعة الشيوعية والمدّ اليساري في الشرق الأوسط.
ولكن “مَندَرَس” أبدى نوعاً من التقارب مع الإتحاد السوفييتي بعد وفاة زعيمه “جوزيف ستالين” (1953) وبروز الإصلاحات المضادة للدكتاتورية الستالينية التي أطلقها الزعيم الجديد “نيكيتنا خروتشوف”، وكان عازماً على زيارة “موسكو” عشية الإنقلاب. وكان من بين أهمّ أولويات الخطوات والإصلاحات التي أقدمت عليها حكومة “مَندَرَس” -بالإفادة من أموال “مشروع مارشال” الأمريكي- مكننة الزراعة وتربية المواشي والخيول والصناعات التراثية الشعبية اليدوية، وإنشاء السدود والنواظم في عموم البلاد حتى أمست “تركيا” خلال فترة قياسية من أعاظم أقطار العالم المنتجة للقمح، الحبوب، القطن، العنب، الشاي ومعظم الفواكه والخضراوات، إلى جانب اللحوم ومختلف المواشي والخيول والدواجن والطيور وتصدير الفائض منها إلى العديد من البلدان المستهلكة، ناهيك عن التقدّم الملحوظ في صناعات الجلود والأحذية والنسيج والدهون والمنظفات.
إلاّ أن هذه المنجزات الديمقراطية والإجتماعية والإقتصادية قابلها نفاد مبالغ “مشروع مارشال” فضلاً عن الصرفيات الهائلة على تطوير القوات المسلـّحة وتفاقم مشكلة البطالة جراء المكننة في غضون النصف الثاني من الخمسينيات، فإستغلـّت الأحزاب الأخرى -وفي مقدمتها (C.H.P)- تلك المعضلات لتسيء إلى شخص “مَندَرَس” وحكومته وحزبه، مُضيفة إليها تـُهَم ((الإبتعاد عن مبادئ “آتاتورك” المسطـّرة في الدستور التركي وإقحام الدين في الدولة والخروج على الثورة الكمالية))، فنظمت بإنقضاء الأيام مظاهرات وإعتصامات وإضرابات خلخلت أمور البلاد وتسببت في تفاقم المشكلات.
التنظيمات السياسية داخل القوات المسلحة
كان قادة القوات المسلـّحة التركية وضباطها ومراتبها ينظرون نحو “آتاتورك” والعلمانية بقدسية بالغة، متشبَعين بشعارات ثورته وإصلاحاته ومبادئه ووصاياه، لـِما كانوا يتلقـّونه من محاضرات توجيهية صارمة بهذا الخصوص منذ نعومة أظفارهم، بينما يخوّلهم الدستور التركي و”قانون المهمات الداخلية للجيش التركي” لعام (1935) ضرورة الحفاظ على “الإنقلاب الكمالي/الثورة الكمالية” وحماية النظام العلماني والتدخل لإستعادة مسيرته وقتما يرون في ذلك ضرورة، وذلك عن طريق “رئاسة هيأة الأركان العامة للقوات المسلحة” وتحت إمرته جميع قادة القوات المسلـّحة الأقدمين (البرية، الجوية، البحرية، الحدود) الذين كانوا في الواقع ذوو سطوة، ليس بالدستور والقانون فحسب، بل بما يمتلكونه من عناصر فرض الرأي بقوة السلاح متى ما تطلـّب الأمر ذلك.         

ولكن إنقلاب (1960) لم يعتمد على هيأة الأركان العامة للقوات المسلحة، بل كان هناك تنظيم مُشكّل سراً في صفوف القوات المسلحة التركية -شبيهاً في العديد من وجوهه بـ”تنظيم الضباط الأحرار” في كل من “مصر والعراق” خلال الخمسينيات- تحت مسمّى “هيأة الوحدة القومية/Milli Birlik Komitesi”.. ومختصره (M.B.G) -ومعظمهم من رتبة “عقيد” فما دون- هو الذي أسس الخلايا وأعد للإنقلاب وخطط له وإستحضر لتنفيذه.. ولم يكن من بينهم -بالطبع- رئيس هيأة الأركان العامة للقوات المسلحة “الجنرال مصطفى رشدي أردَل هون” (وليس “روستو إيرديلهون” -كما في معظم المراجع باللغة العربية) المتبوّئ لمنصبه منذ عام (1958)، والذي رفض -وبكل إباء- عرضاً سخياً قـُدِّمَ له قبل يوم واحد ليكون على رأس الإنقلاب الـمُزمَع إجراؤه باليوم التالي، معتبراً ذلك خيانة لمن وضعوا كامل ثقتهم بشخصه والقوات المسلحة، ونكثاً بالوعد والعهد… فما كان من قادة الإنقلاب سوى إرغامه على تسليم نفسه فجر (27/مايس/مايو/1960) وجرّدوه من قيادته. 
معضلة لم تخطر على بال
ولكن، حالما ألقى “العقيد آلب آرسلان توركَش” البيان الأول للإنقلاب صبيحة ذلك اليوم فقد إنبثق موقف خطير في أقصى الشمال لم يدُر ببال أحد… فما أن إستمع قائد الجيش التركي الثالث “الجنرال (فريق أول) راغب كوموش بالا” إلى ذلك البيان حتى أعلن من مقره قيادته في “أرضروم” رفضه القاطع لتسلـّم أية أوامر تصدر إليه من أي ضابط أدنى منه منصباً أو رتبة، حتى إن كان “جنرال” يليه بالقِدَم العسكري ولو بالإسم، مُهدداً بالزحف بجيشه من بقاع مسؤولياته نحو “آنقرة” لوأد الحركة الإنقلابية.لم يكن بإقتدار قادة تنظيم (M.B.K) إنتظار الأدهى والأمَرّ، حتى هرعوا في تلك الساعة المحرجة إلى “إزمير” حيث كان قائد القوات البرية “الجنرال (الفريق أول) “جمال كورسَل” -(وليس “كورسيل” كما في معظم المراجع)- قد ترك منصبه قبل أسابيع إثر تقديمه إستقالته الخطية إلى الرئيس “جلال بايار” لعدم رضاه عن الإدارة القائمة لحكم البلاد متشبثين بشخصه مترجّينه ليكون فوراً على رأس تنظيم “حركة الوحدة الوطنية” (M.B.K) القائمة بالإنقلاب -والتي هي أشبه لمفهوم “مجلس قيادة الثورة” لدى الإنقلابات العربية- فيحلّ محل الجنرال (الفريق) المتقاعد “جمال مادان أوغلو” الأدنى قِدَماً، ويتزعم جميع السلطات ومقاليد البلاد… ولـمّا قبل “كورسَل” هذا العرض بشروطه التي رضخ لها الإنقلابيون سراعاً، فقد حُلـّت معضلة “الجنرال (الفريق أول) راغب بالا كوموش”، قبل أن يتم تعيينه رئيساً لهيأة الأركان العامة خلفاً لـ”الجنرال رشدي أردَل هون”.       

 هل كان “عصمت إين ئونو” وراء الإنقلاب؟؟؟
وأعظم ظني أن هذا الإنقلاب العسكري، وهو الأوّل في تأريخ “جمهورية تركيا” كان -لربما- بإتفاق ثنائي بين قادة (M.B.K) و”المارشال (الـمُشير) عصمت إين ئونو” -الذي يعدّه حتى الجنرالات الأقدمون (الفرقاء الأوّلون) قائد قادتهم وأستاذ أساتذتهم، كون “إين ئونو” قد تبوّأ منصب رئيس أركان الجيش التركي الحديث (1920-1921) -إثر إعادة هيكلته أثناء “حرب الإستقلال”- قبل أن يغدو رئيساً للوزراء ويؤلـّف (سبع) وزارات في غضون (14) سنة، (خمس) منها متلاحقات لغاية عام (1937) في عهد الزعيم “مصطفى كمال آتاتورك”، حتى خلفه -ويُقال بوصية من “آتاتورك”- إثر وفاته سنة (1938) رئيساً للجمهورية وقائداً أعلى للقوات المسلحة التركية لـ(12) عاماً متلاحقاً (1938-1950)، وقتما كان جميع هؤلاء القادة المخططين والمنفذين لإنقلاب (1960) إما أطفالاً أو فتياناً أو ضباطاً في مقتبل أعمارهم يحملون رتباً صغيرة ومناصب دنيا، ناظرين إلى “المارشال عصمت باشا إين ئونو” بقدسية وإعجاب وإجلال قبل (30-40) سنة.تحقيق الإنقلاب
ووفقاً لتوجيهات مُسبَقة وتوقيتات لتحركات تشكيلات محددة وحسب خطة مفصلة معدّة سلفاً، لم يكن إطلاق وحدات المشاة المحمول على العجلات من معسكراتهم مع حلول فجر (27/5/1960) بصحبة الدبابات والمدرعات وإنتشارهم في الشوارع سوى أشباه تمارين خاضوها لعشرات المرات وسط جيش عريق أضحى يحتل المرتبة الثانية وسط جميع جيوش الـ(N.A.T.O)… لذلك -ومن دون أية مقاومة- أحكموا سيطرتهم على مفارق الطرق وطوّقوا مبانٍ تعود إلى قيادات سياسية وتشريعية ودوائر حساسة، فيما توجّهت مجموعات مكلـّفة بمهمات خاصة لتلقي القبض فجراً على رئيس هيأة الأركان العامة “الجنرال رشدي أردلهون”، وبسهولة ويُسر على رئيس الجمهورية “جلال بايار” ورئيس الحكومة “عدنان مَندَرَس” وعدد من الوزراء وكبار المسؤولين، حتى إستتبّ كل شيء خلال ساعة واحدة أو تزيد، وقتما كان “العقيد آلب آرسلان توركَـش” يلقي على مسامع الشعب بياناً مُعَدّاً بهذا الخصوص من دار الإذاعة التابعة للدولة.
ما بعد الإنقلاب
وفي حين أرى -بذاتي- وزير الداخلية “نامق كَديك” أشجع المعتقلين وأعظمهم إعتزازاً، وقتما قرر الإنتحار وقذف نفسه من إحدى نوافذ الأكاديمية العسكرية وسط جزيرة “ياصي آدا” التي كان معتقـَلاً فيها، كونه لم يرضَ المهانة والإذلال والإزدراء وراء القضبان على يد أفراد شرطته السابقين الذين كانوا -قبل أيام معدودات- يتمنون مجرد إشارة منه كي ينفذوا فوراً ما يبتغيه ويرتضيه، فيما مَثـُلَ الآخرون أمام القضاء الذي أصدر حكم الإعدام -بعد محاكمات إستغرقت (14) شهراً- بحق “جلال بايار وعدنان مَندَرَس، والجنرال رشدي أردَل هون” ووزيرَي الخارجية “فطين رشدي زورلو”، (وليس “فاتن روستو زورلو” كما في البعض من المراجع)، والمالية “حسن بولات قان”، والذي نُفـِّذَ بثلاثة منهم صبيحة (16/أيلول/سبتمبر/1961)، حيث أُستـُثنيَ الرئيس “محمود جلال بايار” و”الجنرال رشدي أردَل هون” وأُستـُبدِلَ حكمهما بالسجن المؤبد، قبل أن يصدر رئيس الجمهورية اللاحق “جمال كورسَل” قراراً رئاسياً بالعفو عنهما عام (1964).
أما وزير الصحة الدكتور “لطفي عبدالصمد قيردار” (وهو إبن مدينة كركوك العراقية العريقة، وقد تجذر فيها أبناء عمومته، ومعظم أفراد عائلته ما زالوا يعيشون في ربوعها) فإن له قصة محزنة مغايرة، وقتما وافته الـمَنيّـة أثناء مثوله أمام المحكمة جراء جلطة قلبية آنيـّة جعلته يترنـّح قبل أن يهوي على قواطع قفص الإتهام الخشبية إثر تلقـّيه عبارات لم يستطع تقبّلها من رئيسها لمجرد إستئذانه بالجلوس جراء مُعاناته من مرض في القلب وذبحة صدرية موجعة ألـمّت به في تلك الدقائق أثناء الجلسة(*).بروز نجم “الجنرال جمال كورسَل”
وبعد إنقضاء شهر واحد على ذلك الحدث غير المسبوق في “تركيا الحديثة”، فإن “الجنرال جمال كورسَل” -الذي أضحى رابع رئيس للجمهورية التركية- مترئساً حكومتين عسكريتين متتاليتين لإدارة البلاد، تم في غضونهما تعديل الدستور خلال (1961) وفقاً لرؤى القادة العسكريين، معززين دور القوات المسلحة في التدخل لتغيير أمور السلطات المدنية متى رأوا لذلك ضرورة.
وبعد أن أيقن الساسة مدى سطوة “العين الحمراء” والذراع الأقوى، وبعد التأكد من كون الأمن مُستتباً في عموم البلاد فقد أعيدت سلطات الدولة بين أيدي المدنيين، حيث أُستـُدعي “عصمت إين ئونو” ليشكّل (3) وزارات متتابعة (1961-1965)، قبل أن يفوز “حزب العدالة” الذي تزعمه “سليمان دَميرَل” ويرأس (3) وزارات متلاحقة (27/10/1965–26/3/1971)، في حين أمسى السياسيون يخشون الإقدام على أية تصرفات لا يرتضيها قادة القوات المسلحة، وإلاّ سيكون مصيرهم السياسي والشخصي مشابهاً لـ”مَندَرَس” ورفاقه.وإذا ما إستثنينا تلكم الإعدامات الثلاثة، فإن الإنقلاب لم يكن دموياً، إلاّ أن المئات من الضباط والقضاة والأساتذة والمعلمين والآلاف من مراتب الجيش المتديّنين أُحيلوا على التقاعد أو سُرّحوا أو فـُصِلوا جراء حملة تطهير إشتملت مؤسسات الدولة من الملتزمين بفرائض الإسلام، ولو كان مجرد أداء الصلوات وبعض التسابيح.
ويسجّل لصالح “جمال كورسَل” إنتباهه لخطورة إقحام السياسة وسط القوات المسلحة بأي عذر وحجة، ولذلك أقدم على خطوات جريئة قبالة كل من أصرّ على إستمرار بقاء الحكم بيد العسكريين لأعوام مضافة، وإتخذ إجراءات تميزت بالصلابة حتى تجاه أقوى أعضاء (M.B.H) الذين جاءوا به ليكون على رأس سلطات الدولة، ومنعهم من العمل السياسي داخل القوات المسلحة بصرامة وقضى على تنظيمات الضباط الذين عملوا إنقلاب (1960)، حتى أمضى على تنفيذ حكم الإعدام بحق “العقيد طلعت آي دَمير” عام (1963). محاولتا الإنقلاب للعقيد “طلعت آي دَمير”
فلنعد قليلاً إلى الأعوام الثلاثة الأولى من الإنقلاب، فنلقي نظرة سريعة على مجريات الأمور وكيف ((تأكل الثورة رجالها))، إذْ نستشف بأن العلاقات بين كبار منفذي الإنقلاب ذوي الثقل من الضباط الذين إنضووا تحت مظلة “هيأة الوحدة القومية-Milli Birlik Komitesi” -ومختصرها (M.B.K)- لم تكن على ما يُرام، فلم تنقضِ على نجاح الإنقلاب سوى بضعة أشهر حتى بدأت الإنشقاقات وسط الهيأة، حين تخلـّت عن العشرات من الضباط كان في مقدمتهم “العقيد آلب آرسلان توركَـش” المترئس لمجموعة الـ(14 عقيد) وأُبعِدوا ليس عن القوات المسلحة فحسب بل وحتى من أرض الوطن، بتعيينهم ملحقين عسكريين أو مستشارين لدى السفارات التركية في الخارج لدى دول نائية، حتى تزعّمَ “العقيد طلعت آي دَمير” (69) ضابط في محاولة إنقلابية تم كشفها قبل المباشرة بتنفيذها يوم (22/شباط/فبراير/1962)، فألقي القبض عليهم وأُحيلوا على التقاعد.
ولكن “العقيد طلعت آي دَمير” العضو الفعال وسط تنظيم (M.B.K) منذ تشكيله عام (1956) ولغاية (1959)، والذي لم يشارك في إنقلاب (1960) بعد أن أُوفِدَ إلى “كوريا الجنوبية” لغاية (حزيران1960)، قبل أن يُعاد عضواً مُرَحَّباً به بعد نجاح الإنقلاب، حتى عُيِّنَ برتبة “عقيد ركن” قائداً لـ”الأكاديمية العسكرية للقوات البرية”، فإنه يبدو متميّزاً بقدرات قيادية وتنظيمية، مصحوباً بالكثير من الشجاعة الفردية والطموح المصحوب بالتهوّر والإندفاع غير المحسوب، ولم يكن من الطراز الذي يرضى بالقليل ويرضخ للأمر الواقع… فقد إستثمر الغضب الساري في صفوف العديد من ضباط القوات المسلحة حيال الإحالات على التقاعد وقوائم الفصل والطرد والإبعاد عن الوطن، حتى توفق في:-
1.    ضمّ (22) ضابطاً تحت ظلاله مباشرة.
2.    إنضمام مجموعة “العقيد آلب آرسلان توركَـش” -سالف الذكر- للتخطيط معه.
3.    إقناع “العقيد الطيار حليم مَنتـَش” المترئس لـ(11) ضابطاً من القوة الجوية للمشاركة معه.
4.    ترغيب ضباط أكاديميته العسكرية بالسير وفقاً لتوجيهاته في هذا الخضم، وتحريك تلاميذهم  لتنفيذ مهمات محددة تجاه مواقع مستهدفة.
5.    إنخراط مجاميع من أساتذة الجامعات والقضاة وأعضاء من حزب (C.H.P)، والذين كانوا أعضاء ضمن هيأة (M.B.K) قبل إعفائهم من عضويتها، في حركته المزمعة.
إلاّ أن التنسيق مع عدد من كبار الجنرالات وكسب تأييدهم، والتخطيط للإنقلاب وأعداد المنخرطين لتنفيذه والإستحضارات الميدانية المطلوبة لإنجاحه، لم يكن بالمستوى اللائق عند ساعة الصفر مع فجر (20/مايس/مايو/1963)… ولذلك أخفق “العقيد الركن طلعت آي دَمير” والقائمون بتحقيقها، حيث أُلقِيَ عليه القبض مع معاونيه، وحُكمَ عليه مع ساعده الأيمن “الرائد -الخيال- فـَتِح كـُرجان” بالإعدام، وعلى (15) ضابطاً آخرين من معاونيه بالسجن المؤبد، و(37) سواهم لمدد مختلفة، قبل شنّ حملة تطهير واسعة إشتملت إحالة ما يربو على (1400) من ضباط القوات المسلحة ومراتبها على التقاعد أو الطرد أو عدم تجديد عقود تطوّعهم. 

مجموعة (خونتا)
ما يثير الإنتباه ويستجلب الأنظار في هذه الحقبة إنتشار مصطلح “خونتا” وسط معظم وسائل الإعلام العربية والأجنبية المتاحة بُعَيدَ هذا الإنقلاب، وقد أُستـُخدِمَ بكثافة خلال عقد الستينيات، وذلك في إشارة إلى مجاميع الضباط الذين قرروا الإطاحة بحكومة منتقاة ديموقراطياً بموجب إنتخابات عامة، وخططوا لها قبل تنفيذهم إنقلاب (1960)، وكانوا (38) ضابطاً برتب متوسطة إشتركوا بدورات متتالية في “واشنطن” منذ عام (1948) للتدريب على مقارعة المنظمات الشيوعية واليسارية المتطرفة.
وما ينبغي ذكره، أن هذا المصطلح من حيث الأصل هو الكلمة اللاتينية (جونتا-JUNTA)، التي يتلفظها الإسبان “خونتا”(**)، والذي يعني:- ((إستحواذ البعض من العسكريين على سلطات الحكم دون الرجوع لرأي الشعب)).
وقد تابعتُ ذلك في أكثر من مصدر فلاحظتُ أن مصطلح “خونتا” يحتمل قد إنتشر بشكل واسع أثناء الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) وبعدها، وذلك في إشارة إلى دور “الجنرال فرانسيسكو فرانكو” الذي هزم الفصائل اليسارية المسلحة وأمسك زمام الحكم في البلاد، وفرض ذاته “وصياً على العرش” لغاية يقينه بقربه من الموت عام (1975)، حيث إستدعى ولي العهد “خوان كارلوس” من منفاه الإختياري إلى مملكته ليعيد إليه إستحقاقه من التاج والكرسي الملكي المرصّع بالمجوهرات النفيسة.(***)
===============================================================
(*) المعلومات التي أدرجتها عن السيد “لطفي قيردار” وافاني بها صديق العمر والعالم الفاضل والمتابع الحريص الأستاذ “أرشد هرمزلو”، الذي شغل منصب (كبير مستشاري فخامة رئيس الجمهورية التركية السابق “عبدالله كول”) طيلة سنوات عديدة لغاية (آب/آغسطس/2014)…..”الباحث”.
(**) الأستاذ “أرشد هرمزلو” هو الذي أوضح ما يخض مصطلح “خونتا” وعلاقته بـ”جونتا”…..”الباحث”.
(***) فضلاً عن الأستاذ “أرشد هرمزلو” لا بد أن أسجل جلّ إمتناني وتقديري لصديق العمر “البروفيسور الدكتور ماهر عبدالقادر النقيب” لمعاونتي في إعداد هذه الدراسة، إذْ لم يألُ جهداً في إيضاح البعض من إستفساراتي عن أمور عديدة لم أكن مستوعباً لها….”الباحث”.

أحدث المقالات