لم يكد يفرح العراقيون ويستبشرون بالانتصارات الكبيرة التي حققتها قوات الجيش والحشد الشعبي على تنظيم داعش في قضاء الفلوجة التابع لمحافظة الأنبار وتحريره بالكامل من شرذمة ذلك التنظيم، حتى صدمتهم فاجعة الكرادة، بما خلفته من صور ومشاهد مأساوية مؤلمة الى ابعد الحدود، وأضيف إليها فيما بعد الهجوم الإرهابي الانتحاري على مرقد الامام محمد بن علي الهادي عليهما السلام في قضاء بلد جنوب سامراء.
فاجعة الكرادة وهجوم بلد الانتحاري أشارا الى ان تنظيم “داعش” يمتلك قدرة كبيرة على المناورة وفتح جبهات اخرى بديلة عن الجبهات التي يتعرض فيها لهزائم وانكسارات عسكرية، ولعل واحدًا من اهم وابرز نقاط قوته هو غياب الوازع الاخلاقي والانساني والديني لديه، الامر الذي يجعله يذهب حيثما تواجد الناس بأعداد كبيرة في الاسواق والمساجد والمدارس والمتنزهات لتحصد مفخخاته وأدواته الدموية الاجرامية أكبر عدد من الأرواح البريئة.
وتشترك في هذا المنهج الاجرامي كل التنظيمات الإرهابية المسلحة أيا كانت مسمياتها وعناوينها، فعلى مدى ثلاثة عشر عاما شهد العراق طبيعة ردود الأفعال الإنسانية الاجرامية لتنظيم القاعدة ومن بعده تنظيم داعش، حينما يجدون أنفسهم محاصرين ومفكرين.
لايقتصر ذلك الامر على العراق، بل ان مصاديقه باتت وتجلت في سوريا ودول اخرى غير قليلة.
ولعل نظرة سريعة وخاطفة لعموم المشهد العالمي خلال عام، تكشف لنا ان خطر الإرهاب الداعشي راح يتسع ويتمدد بصورة ملحوظة وملموسة جدا ولم تعد ميادينه مقتصرة على منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل ان العالم الغربي بات يمثل هدفا رئيسيا له، وإلا كيف يمكن تفسير العمليات الإرهابية التي شهدتها خلال الشهور القليلة الماضية كل من فرنسا وبلجيكا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، ليس هذا فحسب، بل ان قوى إقليمية عرف عنها مهادنتها- ان لم يكن دعمها ومساندتها-للتنظيمات الإرهابية، مثل تركيا والسعودية باتت من بين أهداف تنظيم داعش، والتفجيرات التي وقعت في كلا الدولتين مؤخرا تعد من بين ابرز المؤشرأت على ذلك.
لعدة أعوام كانت العمليات الإرهابية المسلحة التي تستهدف المدنيين مقتصرة بنسبة كبيرة على دول بعينها، كالعراق وافغانستان وباكستان ونيجيريا ولبنان دون ان يعني ذلك، ان العالم الغربي، وبقية أنحاء العالم الاسلامي كانت بمنأى عن اي استهداف إرهابي، في الوقت الذي لم يكن الإرهاب قد استفحل وتوسع كما هو الحال اليوم.
واللافت ان الدول التي تعرضت خلال العام الأخير لعمليات إرهابية، هي ذاتها التي صدَّرت الإرهابيين الى العراق وسوريا ليفجروا أنفسهم، او يثيرون الحرب والصراعات المسلحة على أسس مذهبية وطائفية، والى وقت قريب، لم تعبأ حكومات دول غربية، كفرنسا وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية بالارهاب الدموي في العراق وسوريا وليببا واليمن وغيرها، بيد ان ما كان يقلقها هو إمكانية عودة الإرهابيين الحاملين لجنسياتها الى بلدانهم ليكرروا فيها مشاهد القتل والتخريب والتدمير في الشرق الأوسط والعالم الاسلامي، وكانت مخاوفها مبررة ومنطقية ومعقولة، وما لم يكن مبررا ومنطقيا، هو المعايير المزدوجة في تعاطيها مع الإرهاب وإفراغه من الانسانية وإخضاعه لقوالب سياسية براغماتية.
ومن الحقائق الثابتة والبديهية، ان أعدادا لا يستهان بها من الإرهابيين قدموا من الغرب، او من دول شرق اوسطية ترتبط بعلاقات إيجابية معه، وتحديدا مع القوى الكبرى فيه، وان جزءًا غير قليل من الإمكانيات والموارد المالية لتنظيم داعش، اما انها تتحرك في إطار منظومة مصارف وشركات ومؤسسات مالية واقتصادية غربية، او من تجارة تهريب النفط والمخدرات والسلاح والنساء، التي لا يبذل العالم الغربي الجهود الجادة لمنعها رغم امتلاكه القدرات والأدوات والوسائل المطلوبة.
ومن الحقائق الثابتة والبديهية ايضا، ان العالم الغربي ساهم في اتساع نطاق الإرهاب في منظومة العالم الثالث، معتقدا ان مثل هذا التوجه يمكن ان يبقيه بعيدا عن دائرة الاستهداف، وكذلك فإن دولا في المنطقة دعمت الإرهاب من زاوية مذهبية-طائفية، لتضرب عصفورين بحجر واحد، الاول، يتمثل باضعاف الخصم المذهبي الطائفي الاخر، والثاني في تحييد الإرهاب وابعاد خطره عنها، والبعض الاخر استغل امكانياته المالية الضخمة، وراح يشتري أمنه من الجماعات الإرهابية بالمال الذي ينتهي الى تفجير السيارات المفخخة والاحزمة الناسفة وتدمير وتخريب البنى التحتية والمنشآت الحيوية في الدول المستهدفة سياسيا وطائفيا.
ومن الحقائق الثابتة والبديهية الاخرى، ان ارتدادات الإرهاب راحت تبرز وتتجلى وتنعكس على منابعه البشرية والمالية والسياسية والأيديولوجية، وَإِلا ماذا يعني تعرض فرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة والسعودية وتركيا للعمليات الإرهابية، بنفس مستوى التدمير والرعب في العراق وسوريا وأفغانستان وباكستان واليمن؟… وماذا يعني ان يعيش العالم الغربي ومن دعم وساند الاٍرهاب في المنطقة-ومازال-هواجس قلق لا مثيل لها، ويترقب في اية لحظة ان يتعرض لزلازل ارهابية مماثلة لزلازل بروكسل وباريس ونيس وأورلاندو واسطنبول؟.
ليس هذا فحسب، بل ان دولا صغيرة وكبيرة في المنطقة، تبدو في ظاهر الامر بعيدة حتى الان عن موجة الإرهاب الدموي الداعشي، أخذت تعيش مخاوف وهواجس كبيرة وأمست اسيرة لكوابيس الارهاب، ولسان حالها يقول “ما الذي يمنع ما حصل في تركيا والسعودية والأردن وتونس من ان يحصل في قطر او الإمارات او غيرها من الدول التي انفقت الكثير من اموالها لشراء أمنها من الإرهابيين على حساب أطراف اخرى تقع على مرمى حجر من حدودها”.
وبسبب النظرة القاصرة والأفق الضيق، والنزعات الطائفية والمصالح والأجندات السياسية الخاصة، يخيم الاستغراب وتسود الدهشة دوائر سياسية ومخابراتية واكاديمية في عواصم متعددة، وهي ترى ان الارهاب الدموي الداعشي راح يلقي بحمم نيرانه على دولها، في مشاهد شديدة الشبه من مشاهد الاجرام الدموي في بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت وكابل وطرابلس الغرب.
صحيح ان فاجعة الكرادة انست وبددت فرحة العراقيين بانتصارات الفلوجة، الا ان هجمات اسطنبول ونيس الدموية، سرقت الاضواء من مشهد الكرادة المرعب.
ومن شبه المؤكد ان يشهد العالم عمليات اخرى تنسيه وتشغله عن هجمات اسطنبول ونيس، ومسيرة الإرهاب الدموي الداعشي او غير الداعشي لن تتوقف ما لم تتصحح المسارات المنحرفة والمنهجيات الخاطئة لمن دعم وساند واوجد الاٍرهاب بالامس ليكون هدفا له اليوم.