لا شك أن التفقه في الدين هو من الأمور المهمة التي حثّ عليها الشارع المقدس. ويندرج تحت عنوان التفقه في الدين مصاديق كثيرة؛ منها: معرفة الأحكام الشرعية عن طريق استنباطها (الاجتهاد)، وتعلم الأحكام الشرعية والاستفادة منها من خلال التطبيق والعمل. لأن الامتثال واجب شرعاً وعقلاً على كل مكلف؛ وهذا الامتثال الواجب يتوقف على معرفة الأحكام الشرعية. وتكتسب المسائل الشرعية الابتلائية الأهمية العظمى؛ وعلى هذا الأساس افتى الفقهاء بوجوب تعلم المسائل الابتلائية وخير شاهد ما جاء في الجزء الأول من منهج الصالحين كتاب الاجتهاد والتقليد للسيد محمد الصدر(قدس) حيث قال: (مسألة 20):- يجب تعلم مسائل الشك والسهو التي هي في معرض ابتلائه الشخصي، وأما غيرها مما هو محل الابتلاء نوعاً فلا يجب وخاصة فيما إذا كان مظنون العدم أو نادراً.وكذلك قال في المسألة التي قبلها: (مسألة 19):- يجب تعلم أجزاء العبادات الواجبة وشرائطها …. إلى آخر المسألة؛ انتهى. إن المهم في هذا التعلم هو العمل والتطبيق(الامتثال) كما صرّح ذلك الشهيد محمد الصدر(قدس) في بعض الاستفتاءات، حيث جاء في الرسالة الاستفتائية الجزء الثاني ما نصه: س6: هل ترك التعليم للمسائل الشرعية التي يُبتلى بها يعتبر عاصٍ؟ بسمه تعالى: إنما يكون العصيان في نتائجه وهو عدم تطبيق أحكام الشك والسهو ونحوها. انتهى ومن خلال هذا الجواب يتضح أن وجوب تعلم المسائل الابتلائية لأجل الامتثال والتطبيق. وبعد هذه المقدمة المختصرة أود التعرض إلى مسألة ابتلائية تتعلق بأحكام السفر وهي مسألة حد الترخص… وقبل الخوض في موضوع حد الترخص لا بد من الإشارة إلى حكم السفر وشروطه. أما حكم السفر هو القصر والإفطار ولكن لا بد من اجتماع الشروط؛ يعني أن السفر الجامع للشرائط هو الذي يجب فيه القصر والإفطار. وشروط السفر مذكورة في الرسائل العملية، وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: قطع المسافة.
الشرط الثاني: استمرار قصد قطع المسافة.
الشرط الثالث: أن لا يكون ناوياً من أول السفر إقامة عشرة أيام قبل بلوغ المسافة أو يكون متردداً في ذلك.
الشرط الرابع: أن يكون السفر مباحاً. فإذا كان السفرُ حراماً لم يقصر.
الشرط الخامس: أن لا يتخذ السفر عملاً له.
الشرط السادس: أن لا يكون ممن بيته معه كأهل البوادي الذين لا مسكن لهم معين في الأرض.
الشرط السابع: أن يصل المسافر حال خروجه إلى حد الترخص.
وبعد الإشارة إلى حكم السفر وشروطه اتضح أن الوصول إلى حد الترخص هو أحد شروط السفر. وحيث أن الشرط يلزم من عدمه العدم أو أن المشروط عدم عند عدم شرطه، وبعبارة أكثر وضوحاً أن عدم الوصول إلى حد الترخص يؤدي إلى عدم القصر والإفطار.
وينبغي الآن معرفة ما هو المراد من حد الترخص؟
إن الجواب عن هذا السؤال متوفرٌ في جميع الرسائل العملية التي كتبها الفقهاء؛ وقد اتفقت أجوبتهم على أن المراد من حد الترخص: هو المكان الذي يخفى فيه شخصُ المسافر عن الناظر الواقف في آخر بيوت المدينة. وعلامة ذلك بشكل تقريبي أن المسافر لا يرى الشخص الواقف في نهاية البلد ولا يسمع صوت آذانه.
وهذا يعني أن المسافر يجب عليه القصر والإفطار عند وصوله إلى حد الترخص يعني: قبل الوصول إلى المسافة الشرعية بكثير ما دام قصد قطع المسافة مستمراً.
لأن المسافة الشرعية: هي ثمانية فراسخ امتدادية ذهاباً أو إياباً، ؛والثمان فراسخ تساوي بحسب وحدات القياس الفرنسية 43 كيلو متر و776 متر.
أو ملفقة أربعة ذهاباً وأربعة إياباً؛ والأربع فراسخ تساوي 21 كيلو متر و888 متر.
أن خفاء الشخص أو خفاء صوت آذانه يمكن تقديره بالكيلو مترات، وقد حدده السيد عبد الأعلى السبزواري في رسالته العملية جامع الأحكام الشرعية حيث جاء ما نصه:-
((السابع: أن يصل إلى حد الترخص فلا يقصرَّ قبله، والمراد به ما إذا بُعد عن منزله أو حيهِ، كيلو مترين تقريباً …. الخ)).انتهى
وقد اتضح من هذا الكلام أن وجوب القصر والإفطار هو عند الوصول إلى حد الترخص وليس عند الوصول إلى نهاية المسافة الشرعية، كما يتوهم الكثير.
وهذا ما رأيته بأم عيني خلال المسير إلى الإمام الحسين عليه السلام في زيارة الأربعين، وسمعته من الكثير حيث أنهم وبصوت عالٍ يقولون: لا تصلوا قصراً إلا بعد أن تقطعوا المسافة الشرعية.. وهؤلاء ليسوا من أهل الاختصاص أكيداً.
وأرجو من جميع طلبة الحوزة العلمية والمشايخ الأفاضل أن يبذلوا كل جهدهم من أجل توعية الناس، وتحريرها من سيطرة الوهم والجهل.
ولا بد من التمييز بين مبدأ حساب المسافة الشرعية وحد الترخص؛ فإن مبدأ حساب المسافة الشرعية يكون عند نهاية المدينة. أما حد الترخص فهو يأتي بعد نهاية المدينة بمقدار كيلو مترين تقريباً.
وبعد هذا الكلام أصبح من السهل تطبيق المسألة على مدينة بغداد وخصوصاً عند المسير إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام في يوم الأربعين..
فإن حدود مدينة بغداد معلومة عرفاً وهو ما يُسمى بـ (القوس)، بحيث يكون هذا الموضع هو مبدأ حساب المسافة الشرعية بالنسبة إلى سكان مدينة بغداد وعليه فإن حدّ الترخص يكون بعد أن يقطع المسافر مسافة كيلو مترين أو أكثر عن القوس.
أما بالنسبة إلى من يسكن مدينة الكاظمية المقدسة فإن مجرد دخوله إلى مدينة بغداد فإنه قد خرج عن الكاظمية، وعندها يبدأ بحساب المسافة يعني: أنه لا ينتظر الوصول إلى ما يُسمى بـ (القوس).
وكذلك الحال بالنسبة إلى حد الترخص فإنه بعد أن يخرج من مدينة الكاظمية بدخوله إلى مدينة بغداد يحتاج إلى قطع مسافة كيلو مترين أو أكثر لكي يصل إلى حد الترخص.
وهذا الأمر مذكور في منهج الصالحين الجزء الأول(مسألة 1281): إذا كانت بلدتان أو منطقتان مختلفتان في التسمية عرفاً، فهي بحكم الاثنتين وإن اتصلتا كالكاظمية وبغداد أو النجف والكوفة، فيعتبر في الخروج من أي منهما باتجاه الأخرى حدها العرفي دون حدها الإداري. انتهى…
ويتضح أن الحدَّ الإداري لا اعتبار له. فمثلاً مدينة المحمودية من الناحية الإدارية تابعة إلى مدينة بغداد ولكنها عرفاً ليست كذلك. انقر هنا من أجل الرد أو إعادة التوجيه