من اكبر اخطاء تيار الحكمة وما تبقى من المجلس الاعلى هو ابتعادهم الغريب عن ارث شهيد المحراب, فاصبح لا يذكر شهيد المحراب الا في مناسبة استشهاده, واصبح من النادر ان نجد كاتب تابع لتيار الحكمة او للمجلس الاعلى يكتب مقالا عن شهيد المحراب! الا في ذكرى شهادته, فاصبح الحديث عن الشهيد محمد باقر الحكيم بروتوكولي ونادرا, حتى ان المنظومة الاعلامية لتيار الحكمة والمجلس الاعلى اصبحت شبه منفصلة عن تقاليد الامس, والتي كانت ترتكز على ارث شهيد المحراب.
لذلك واحساسا مني بالمسؤولية الاخلاقية, وللتراث الغني الذي تركه لنا شهيد المحراب, ولأهمية ايصال هذا الفيض الكبير للجماهير, قررت ان اكتب سلسلة مقالات عن فكر شهيد المحراب.
الكلام اليوم سيكون عن محور هام, الا وهو القمع والحرية السياسية, وكيف ينظر لها شهيد المحراب.
· هل القمع جائز ؟
وضع الإسلام حدوداً لممارسة الحرية السياسية, وشدد الدين الاسلامي على عظمة الذنب لمن يخالف الحدود، وهنا يتساءل السيد الحكيم عن الموقف الذي يتخذه الولي الجامع للشرائط, في ما لو أن شخصاً مارس عملاً يخالف مصلحة الإسلام ومصلحة الأمة، هل هناك مساحة لقمع هذا الشخص باعتبار مخالفته للمصلحة العامة؟
ويجيب شهيد المحراب بالقول: «إن الفكر الإسلامي الأصيل يختلف عن الاتجاهات الفكرية الأخرى, في انه يعطي الحرية للإنسان في الموقف، فهو بالرغم من أنه يراه إنساناً مخالفاً لا يلتزم بالشرع, ولا يلتزم بالأحكام الشرعية, ولكن لا يرى للولي حق استخدام القوة في منعه».
وهناك أمثلة كثيرة تشير إلى طريقة التعامل مع المنافقين في صدر الإسلام، فبالرغم من معارضتهم السياسية العلنية وإثارتهم للإحباط, والإرجاف, والتثبيط، وقد عاب القرآن الكريم ذلك عليهم, وبيّن نواياهم وما يخططون له سراً من محاولات للقضاء على التجربة الإسلامية, من خلال التحالف مع اليهود, وإيصال الأخبار إلى المشركين، فكانوا أداةً للشغب وعلى الرغم من كل التخريب الذي قاموا به, ولكن الرسول (ص) لم يتخذ أي إجراء سياسي قهري ضد المنافقين.
فإن الرسول (ص) والقرآن الكريم كان يكتفي بأن يعيب عليهم, ويتحدث عنهم وينتقدهم ويبين مخالفاتهم وانحرافهم عن الأحكام الشرعية, بفضح تصرفاتهم وأعمالهم لكنه (ص) لم يتخذ إجراءً قمعياً بان يعتقلهم أو يسجنهم أو يقتلهم أو ينفيهم.
كما أن الإمام علي (ع) خلال فترة حكمه لم يتخذ موقفاً قمعياً تجاه الذين نكثوا البيعة ونقضوا العهود, إلا بعد أن اعتدوا ومارسوا الأعمال الإجرامية, فوقعت معركة الجمل.
· العدوان على الحريات محرم
الحرية السياسية في إطار الأفكار والنقاش ووجهات النظر المخالفة تكون مقبولة, ما لم تصل إلى حد العداء وتهديد المصالح العليا، ولا تقمع من قبل ولاة الأمر, الحرية السياسية أحياناً تكون حرية غير مشروعة, ولكن مع ذلك لا يتخذ في مقابلها الإجراء السياسي القمعي، ما لم تتطور هذه الحرية إلى حدٍ تهدد فيه المصلحة الإسلامية العليا والمجتمع الإسلامي, وعندئذٍ يُتخذ القرار والموقف السياسي المناسب تجاهها.
أو تتحول هذه الحرية إلى عدوان على حريات الآخرين, أو مخالفة للقوانين والتشريعات, التي يضعها المجتمع لتنظيم حركته وحريته.
فالإسلام لا يجيز الحذف والتهميش والتغييب لمجرد وجود رأي اخر أو وجهة نظر مخالفة، فلا يقمع الفكرة وإنما يرد عليها بالتي هي أحسن، ويبّين مفاسدها لأنه أعطى حرية للتحرك, وخير مثال على ذلك كيفية تعامل الإمام علي (ع) مع الخوارج.
· المرجعية والحرية والتشخيص
المرجعية الصالحة تمثل المقوم الذي يحدد المصالح العامة، حيث إن تفاوت الآراء وعدم القدرة لدى عموم الناس في تشخيص ان الحرية تضر بالمصالح العامة أو لا تضر، وهل تؤدي إلى الوهن والضعف أو لا تؤدي.
ويشير الشهيد الحكيم إلى ذلك بقوله: “إن المرجع في التشخيص هو الولاية الشرعية، والمصالح العامة ومصاديق الاخطار العامة يحددها المرجع, والمرجع الذي له الولاية العامة أصبح من خلال المواصفات التي يتصف بها بيده التشخيص”.
ويشترط الحكيم بان يسير المرجع بنفس نهج محمد وال محمد, فلا يحارب الراي الاخر, ولا يدعو لاعتقال المخالف بالرأي, ولا يسجن ولا يقتل على النيات, بل يجب ان يكون الحكم على الاعمال التي تتجاوز الحدود الشرعية, واذا كان في الافعال اعتداء على الحقوق والمجتمع والوطن.
· الختام:
يتضح من كلام شهيد المحراب انه لا يمكن قمع الحريات, ولا يجوز السجن والقتل لمن يخالفنا بالراي , ما لم يصدر منه ما يمثل اعتداء على الوطن والمجتمع, فلا يجوز الحكم على النيات, بل على الافعال, وهكذا كانت سيرة خاتم النبيين (ص) وامير المؤمنين (ع), وهي رسالة مهمة للحكام في كل الاماكن والازمان, بعد ان ابتعدوا بألاف الاميال عن تعاليم الاسلام, ان ما يجري لا يمثل نصرا للدين بل هو تجاوزات باسم الدين, وعلينا ان نعيد للساحة فكر شهيد المحراب, ليكون مشعل الضوء للطبقة السياسية لتنهل منه, ولكي تدرك خارطة الطريق للخروج من فتن الواقع الضحل.