العلاقة معقدة ما بين الحدث وتدوينه , وتخضع لمؤثرات متنوعة تتسبب بصياغات كتابية قد لا تمت بصلة للحدث , وفي الزمن المعاصر أصبحت الصورة المدوّن الأصدق للحدث , ولو أن البعض يرى أن التلاعب بالصورة ممكن , وأنها تنقل الحدث وفقا للزاوية التي تطل بها عليه.
ومعظم المدوّن على أنه تأريخ , مكتوب بعد فترة زمنية طويلة من حصول الحدث , فينقل إلينا وفقا لرؤية الكاتب وموقفه وما يتصوره ويريده , أي أن نسبة المصداقية ضعيفة في هكذا حالات.
ولو عاينا أحداثا قريبة وقعت قبل بضعة أشهر , وقرأنا ما كتب عنها ودون سنجد الإختلافات واضحة , والمعلومات تمثل مواقف أصحابها تجاه ما حصل , لكن الصورة تفند وتدافع , ومع ذلك فأنها تُدان ويُركن إلى المكتوب.
ولكي نفهم التأريخ ونقرأه بمعقولية وواقعية , علينا أن نمارس كتابة تأريخ الأحداث من حولنا , ونرى كيف نكتبها ونضعها في كلمات وعبارات , عندها سنعرف أن من يكتب التأريخ لا ينقله كما هو بل كما يراه , ولكل منا رؤيته وموقفه وآلياته في التفسير والتأويل والتقدير والتقرير.
أما إذا تناولنا أحداثا منقولة عن فلان وفلان , فأن نسبة التشويه والتغيير ستكون كبيرة , ومتناسبة طرديا مع المسافة بين المدوّن والحدث , ومع عدد الناقلين أو الراوين.
وعندما نعود لتأريخنا نرى أن الذين كتبوه من ثقافات أخرى وقد تعلموا العربية وخبروها , والمسافة بينهم وما كتبوا عنه تتجاوز عشرات العقود , فالتدوين العربي كان متأخرا , ولم يكن في وقته , وكان الإعتماد على الرواية والتناقل الشفاهي , مما تسبب بإنحرافات وعدم صدق ولا موضوعية في العديد من الأحداث.
ولا ننسى أن للشعراء دورهم , وأكاذيبهم ومدائحهم التي تعبر عن تصورات وخيالات تُضفى على الممدوح , فلم يكن رسمهم للصورة واقعيا بل خياليا , ومتوافقا مع قدراتهم في إظهار جمالية الشعر الذي به يتكسبون.
وحتى لو إتخذنا المنهج العلمي لقراءة التأريخ , فلن نصل إلى نتيجة قريبة من الحدث , لأننا سنتعامل مع تصورات وخيالات وتفاعلات وهمية , ذات نوازع وأهداف متنوعة وأغراض سياسية , وغيرها لتأمين القوة والهيبة والسلطان , وفي هذا تكمن محنة قراءة التأريخ , وضرورة وعي كيف تحصل الأحداث وكيف تدوّن!!