3 أكتوبر، 2024 1:24 م
Search
Close this search box.

التيار الاسلامي , هل يشكل بديلاً لإخفاقات الليبرالية والقومية والاشتراكية العربية

التيار الاسلامي , هل يشكل بديلاً لإخفاقات الليبرالية والقومية والاشتراكية العربية

ما من موضوع أثار ويثير من الجدل والاهتمام والترقب مثل ما أثاره التيار الاسلامي وحركاته الدينية المسيّسة. فهناك اليوم حركة عنيفة في بعض الاقطار العربية وهادئة في أُخرى . قوام هذه الحركة هو الإسلام . وهناك بالمقابل تحسس وتخوف ، وبالتالي تعامل متعدد الأوجه مع ما اتفق على تسميته بـ تيار الصحوة الإسلامية ، فبعض الجهات تعمد إلى التقليل من شأنه والتعامل معه كظاهرة عادية وطارئة ، في حين تعمد جهات أُخرى إلى الاهتمام الشديد به وفتح باب المواجهة الساخنة مع مختلف مظاهره .
ولكن أين يكمن جوهر المشكلة؟ هل المشكلة في بعض المجتمعات العربية  التي ضاقت حركة التطور فيها فوجدت في الإسلام مخرجاً للحل؟ وهل المشكلة في ذلك الانفلات الجديد لظاهرة الإسلام بعد حصار تاريخي طويل وبعد فشل الأيديولوجيات التي قدمتها الحركات الكبرى  في التاريخ؟ وهل يكون الإسلام الذي فرض عليه الحصار هو السبيل الأخير كما كان السبيل الأول كإطار للتعامل مع ظواهر الحياة البشرية وبالتالي يكون  التيار الاسلامي هو الفتيل الذي سيشعل لهيب حركة جديدة في العلاقات المختلفة وعلى جميع الأصعدة؟
لقد تنامت ظاهرة التيارات الإسلامية المسيّسة وتصاعد أدوارها وتأثيراتها السياسية والاجتماعية في العديد من الاقطار  العربية وبخاصة في أعقاب اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، إذ أصبحت هذه التيارات تشكل تحديات للنظم الحاكمة في العديد من الاقطار العربية  .. لذلك حظيت باهتمام كبير من قبل العديد من الباحثين العرب والأجانب ، وكذلك من قبل مراكز البحوث العربية والأجنبية المعنية بالدراسات العربية والشرق أوسطية والإسلامية ، وما ترتب عليه ظهور عدد كبير من الكتب والدراسات والتقارير التي تناولت الإسلام والسياسة في الوطن العربي من مداخل عدة ورؤيا مختلفة وذلك تحت قائمة طويلة من المسميات والعناوين مثل:- الإحياء الإسلامي ، الانبعاث الإسلامي ، الصحوة الإسلامية ، الاصولية الإسلامية ، الإسلام السياسي ، الحركات الإسلامية ، التطرف الإسلامي ، الحركات الإسلامية الراديكالية ، الجماعات الإسلامية المسلحة  .. ولا يتسع المجال للتفصيل في تعريفات هذه المفاهيم كما وردت في أدبيات حركات وتيارات الصحوة الإسلامية المسيّسة ، ولكنها تشير في معظمها إلى ظواهر تعكس اشكال وتجليات العلاقة بين الإسلام والسياسة في الوطن العربي ، كما إنها تعتبر محملة بالعديد من الانحيازات القيمية والايديولوجية مما يجعلها موضع خلاف وتنازع شديدين ما يحد من الأهمية النظرية والتحليلية لمعظمها .
       فإن الدراسات التي ظهرت خلال السنوات الماضية قد اهتمت بصفة أساسية بالبحث في عوامل ظهور التيار الاسلامي وأسباب تنامي دور بعض حركاته المسيّسة التي كانت موجودة بالفعل . وإذا كان البعض قد نظر إلى هذه الحركات كجزء من ظاهرة الإحياء أو الانبعاث الإسلامي التي اتخذت أشكالاً عدة: سلوكية ، وسياسية ، واقتصادية ، واجتماعية ، وثقافية ، منذ بدايات الربع الأخير من القرن العشرين ، فإن دراسات عدة أوردت أسباباً كثيرة لتفسير هذه الظاهرة . ومن أبرز هذه الأسباب : الأزمة المجتمعية بأبعادها السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، والثقافية ، التي شهدتها اقطار عربية عدة بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة منذ منتصف السبعينات من القرن العشرين والتي تصاعدت حدتها خلال عقدي الثمانينات والتسعينات ما جسَّد إخفاق النظم العربية فيي تحقيق الشعارات التي رفعتها منذ الخمسينات بشأن التنمية المستقبلية والعدالة الاجتماعية والعيش الرغيد واحترام حقوق المواطنة وصيانة الوحدة الوطنية وسيادة الوطن…
ومن هنا طرحت حركات هذا التيار شعار (الإسلام هو الحل) باعتبار أن البدائل التي تبنّتها النظم العربية من ليبرالية وقومية واشتراكية قد فشلت ووصلت إلى طريق مسدود . ومن الأسباب الأُخرى التي طرحت في معرض تفسير الظاهرة المعنية ، تزايد مظاهر وأشكال تبعية الاقطار  العربية للخارج ، واتساع موجة الغزو الثقافي الغربي للمنطقة ، وبخاصة مع تقدم وسائل الإتصال والإعلام ما أوجد أو كرس قناعة لدى قطاعات اجتماعية واسعة في الوطن العربي والعالم الإسلامي مفادها أن ذلك يمثل خطراً على الإسلام .
بواعث الظاهرة وماهيتها
 ان العرب اليوم يعانون اشد المعانات ، آلام جراح عميقة في جسد وطنهم ، وفي اجسادهم.من تجزئة سياسية وانقسام داخلي ،وتخلف حضاري، وعدوان خارجي، فنتج عن ذلك كله :استباحة لمقدساتهم الدينية والوطنية، واستضعاف لشأنهم،واستهانة بمواقفهم، وفرض ارادات غيرهم عليهم، فسارت فيهم احوال واتجاهات اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية متناقضة متصارعة.فكان لابد من بذل الجهد لتمييز كل ذلك لمعرفة الاصيل من الدخيل،والثابت من المتغير،والنافع من الضار ،والمدسوس المفروض من الذي اختير بأرادة حرة. فكان من الطبيعي ان يهرع الناس الى دينهم يلتمسون فيه الشفاء ويبحثون فيه عن دواء لكل داء اصاب وطنهم ، واصابهم في وطنهم. فكان التيار الاسلامي بكل حركاته…      
فالحديث عن التيار الاسلامي وحركاته المسيّسة هو حديث عن المسلمين، في مرحلة معينة من مراحل حياتهم، وعن التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية التي اصبحت تنسب اليهم، وأصبحوا ينتسبون اليها، بحكم اجتهادات خاصة في فهم الاسلام او تفسيرات لبعض فروعه واحكامه.
وليس الحديث عن هذا التيار حديثاً عن الاسلام، واركانه وعقائده ومبادئه وأصوله، اذ ان كل ذلك ثابت، لايتغير بتغير المراحل، ولايتعرض في ذاته لغفوة ولا لصحوة، الا من خلال عقول الناس وفهمهم ومواقفهم. فنحن اذن نتحدث عن ظاهرة اجتماعية تتمثل في اساليب تعامل مجموعات من المسلمين، مع قضايا عصرهم ومشكلات حاضرهم وتحديات مستقبلهم، في هذا العالم الدنيوي، وان كان المنطلق هو الاسلام الثابت ذاته، ولكن من خلال فهم متجدد او جديد، يقدمه عقل بشري دنيوي.
برزت ظاهرة التيار الاسلامي وصحوته كحركة سياسية اجتماعية في الربع الاخير من القرن العشرين. وطرحت نفسها كبديل للحركات القومية التحررية التحديثية (الليبرالية) ولاسيما تلك التي تتبنى  القومية والعلمانية التي اخفقت في تحقيق مشاريعها.. وقادت الى العرب سلسلة من الهزائم المحبطة التي لم يتمكن العرب حتى الان من الخروج منها وتجاوزها والتحرر من آثارها المضنية.
ومن اللافت للنظر، كانت الحركات القومية في مطلع القرن العشرين قد طرحت نفسها وقامت بدورها كبديل للحركات الدينية المتمثلة بالخلافة الاسلامية العثمانية التي انهارت في نهاية الحرب العالمية الاولى. وكما حاولت الحركات القومية تلك بطريقتها الخاصة ان تملأ الفراغ الذي احدثه هزيمة الخلافة العثمانية، كذلك حاولت الحركات الدينية في نهاية القرن العشرين وأثر تجارب مريرة ان تملأ الفراغ الذي احدثه اخفاق الحركات القومية.
لقد أشر التيار الاسلامي الى تنبه الامة الاسلامية لذاتها وسعيها للخروج من ازمتها، وتلمسها حاسة الاتجاه والتحرك العقيدي للعودة الى جذوة الاسلام. فالحضارة الغربية وجدت نفسها وبالتحديد في منتصف القرن العشرين، وجهاً لوجه امام عقيدة اسلامية متينة الأصول بعقائدها ومقوماتها، ولم تنهج تلك الحضارة الغربية نهج التفاعل الحضاري في امتدادها الى العالم الاسلامي، بل انتهجت مخططات استغلال الموارد او انتشار العقائد، مما كان له الدور الفاعل في إيقاظ الحس العقيدي الذاتي لدى الشعوب الاسلامية.
وثمة عامل آخر ذو أهمية بالغة في ايقاظ ذلك الحس، وهو التحدي الصهيوني الذي بدأ يفصح عن مخططاته في استلاب تراث الامة الاسلامية وتهديد مقدساتها، وتهديد قدسها، في ظل احتلال شامل لفلسطين.
ازاء هذه التحديات أحست الامة العربية بأنها امة موصولة التاريخ والجذور، وليست منقطعة عن أصولها ومنابع ذاتها، وهو الاسلام، فأستقطب الاسلام اهتمام الامة، واصبح رمزاً للتحدي الحضاري في الوطن العربي. كما نشطت الحركة الفكرية الاسلامية وأخذت تتصدى للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية التي تواجهها المجتمعات العربية بوعي وادراك وبصيرة.
ان العرب اليوم يعانون أشد المعاناة، آلام جراح عميقة في جسد وطنهم، وفي اجسادهم. من تجزئة سياسية وانقسام داخلي، وتخلف حضاري، وعدوان خارجي، فنتج عن ذلك كله: استباحة لمقدساتهم الدينية والوطنية، واستضعاف لشأنهم، واستهانة بمواقفهم، وفرض ارادات غيرهم عليهم، فسارت فيهم احوال واتجاهات اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية، متناقضة متصارعة. فكان لابد من بذل الجهد لتمييز كل ذلك لمعرفة الاصيل من الدخيل، والثابت من المتغير، والنافع من الضار، والمدسوس المفروض من الذي اختير بإرادة حرة. فكان من الطبيعي ان يفزع الناس الى دينهم يلتمسون فيه الشفاء ويبحثون فيه عن دواء لكل داء اصاب وطنهم، واصابهم في وطنهم. فكانت الصحوة الاسلامية.بكل تياراتها وحركاتها …
لقد شهد الربع الاخير من القرن العشرين انشغالاً واسعاً بدراسة هذا التيار وحركاته في الاقطار العربية والبلدان الاسلامية  وجرى البحث في حقيقته واسبابه ومظاهره وآفاقه ومستقبله وعلله وامراضه، والتحديات التي تواجهه، وآثاره في مختلف المجالات الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وعلاقته بالتقدم العلمي والتقني.
وقد حاولت العديد من الدراسات تعريف ماهية  هذا التيار و صحوته الاسلامية  وتحديد مفهومه وقراءة اطروحته فقد شاع مفهوم  التيار الاسلامي في مانكتبه عن اوضاعنا الاجتماعية والفكرية والسياسية، وفي مايكتبه عنها غيرنا خارج الوطن العربي بغير اللغة العربية. وتعددت مدلولات  هذا التيار وصحوته وحصل بين هذه المدلولات تضارب في المضمون والمقاصد.
ويمكننا ان نعرفه : إنّه حالة تجد الامة فيها نفسها وقد وعت ذاتها وعرفت من حولها وادركت ابعاد عصرها، فاستشعرت قدرتها على الاستجابة للتحديات التي تواجهها وعلى التحرر من التبعية للآخرين، واعتمدت منطق الفعل وصاغت إرادته .
والتيار الاسلامي اصطلاح مترجم عن اللغات الاوربية، ويقصد به العودة الى الدين كأسلوب حياة وحكم يضمن حل المشكلات التي تواجه المجتمع واستخدام الاسلام كأداة سياسية لاكتساب الشرعية والوصول الى الحكم او الاحتفاظ به.
شاع استخدام  هذا الاصطلاح  للدلالة على هذه الظاهرة. وهناك من استخدم اصطلاح (الاحياء) لما يعنيه من بعث روح جديدة في نفوس الناس. وبدت الصلة وثيقة بين هذين الاصطلاحين وبين اصطلاحي (اليقظة) و (النهضة) اللذين شاعا منذ اكثر من قرن في وطننا للدلالة على طور انبعاث حضاري، تنتقل به الامة من حالة النوم والقعود الى حالة اليقظة والنهوض، وتتجاوز السكون الى الحركة.
وارتبط اصطلاح (الصحوة) ايضاً والاصطلاحات الثلاثة الاخرى بإصطلاح (التجديد) الشائع في تاريخنا، والمنطلق من القول المأثور بأن الله يبعث على رأس كل مائة سنة في امة الاسلام من يجدد لها دينها.
ربما يكون هذا الموضوع  من المواضيع الساخنة والمثيرة على امتداد الساحة العربية والعالمية. وقد يكون السبب في هذه الاهمية، عوامل فكرية ومادية ولاسيما ان القوى الاسلامية قد تبدو في يومنا هي القوة الفاعلة على ارض الواقع، بل ومثار دراسة وتحليل وجدل.
ان التيارات الاسلامية وحركاتها ليست دعوة جديدة، فقد وجدت في كل مرحلة من مراحل التاريخ العربي الحديث حركات فكرية وسياسية تدعو للصحوة الاسلامية في سبيل الخروج من المأزق والمعضلات العربية، وكانت اقوى ما كانت عليه الحركة الاسلامية في المرحلة الاولى خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الاولى، ثم ضعفت امام صعود الحركات القومية والوطنية.
ان ما تعتمد عليه التيارات الاسلامية لتحقيق اهدافها وسائل تجمع بين الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجهاد في سبيل الله بمفهومه الواسع الذي يشمل اقامة المشاريع العملية في مجالات الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتربية والصحة ومواجهة الاعداء بالقوة.
لقد وضعت التيارات الاسلامية المعاصرة نصب عينها اهدافاً تعمل على تحقيقها وبلورتها من خلال ادراكها لطبيعة الخطر الخارجي وحقيقة فشل التغريب. وهذه الاهداف هي اهداف  هذا التيار منذ بواكيره الاولى ، وهي تتضمن تحرير الوطن من الاحتلال الاجنبي والقضاء على الاستعمار، وسيادة الشورى ورعاية حقوق الانسان، والقضاء على الاستبداد، وتحقيق الوحدة والقضاء على التجزئة وبلوغ العدل والقضاء على الاستغلال وتحقيق التقدم من خلال ذلك كله، والقضاء على التخلف وصولاً الى تجسيد الهوية والانتماء. وواضح ان اهداف هذه التيارات هي في كل وطن اسلامي، وهي من ثم أهداف الصحوة العربية الاسلامية التي ظهرت في الوطن العربي معبرة عن الانتماء الى الاسلام عقيدة، والى اللسان العربي والعرب قوماً.
ان مناقشة مصطلح  التيار الاسلامي او الصحوة الاسلامية تدفع الباحث الى العودة الى عصر النهضة العربية (القرن التاسع عشر) حيث الحركات الدينية تأخذ جانباً مهماً من النشاط والحيوية في الحياة الاجتماعية والسياسية للمجتمع آنذاك. الا ان مايلفت انتباه الباحث في هذه الحركات هي دعوتها الى التجديد، وان الفكر الاسلامي قد دخله المزيد من الخرافات والتشويهات خلال عصر الانحطاط، وان النهضة الحقيقية للدين، والفكر الديني، لن تتم الا بتخليص الفكر الاسلامي من هذه الشوائب.
هكذا يبرز لدينا ان الخطاب العربي الاسلامي بنوعيه النهضوي والعصروي، مازال يركز على ضرورة التجديد الديني بهدف النهوض المجتمعي في الوقت الذي رحنا نسمع فيه شعار صحوة او  يقظة اسلامية. اذن، ماهي مبررات هذه الصحوة اذا كان الفكر الديني مازال يشكو من الخرافة وغيرها، وهو بحاجة الى تنقية وتجديد؟ وهل في أخذ الفكر على علاته دليل عافية؟ وهذا بدوره مايدفع الى القول:- لو ان الفكر الاسلامي منذ عصر النهضة وحتى اليوم قد استطاع ان يتخلص من مشكلاته وعوائقه لكان يمكن ان نقول:- ان هناك صحوة اسلامية او احيائية ، وان الفكر قد اخذ طريقاً صحيحاً وسليماً.
الظاهرة البديل الاشكالية
لقد قدمت الحركات الاسلامية نفسها على انها تشكل الحل الوحيد، مفترضة ان القومية والاشتراكية اخفقتا لانهما بالدرجة الاولى لم تحركا الجماهير في العمق لبعد معتقداتهما عن احاسيس الناس، على عكس المعتقدات الدينية الاكثر التصاقاً بحياة الجماهير وقناعاته وذاكرته وبساطة مفاهيمه.
وفي توصل الحركات الدينية الأصولية الى مثل هذه الفرضية وما يصدر عنها من استنتاجات يبدو انها تناست ان عدم تحرك الجماهير لايعود الى عدم احساسه الاصيل بالقهر القومي الطبقي، بل بسبب تهميشه، من قبل الانظمة التسلطية السائدة في بعض الاقطار العربية.
ليس خطأ حركات التيار الاسلامي او الحركات الدينية، انها تعمل باستقلال عن الحضارة الغربية وتؤكد على هويتها الحضارية الخاصة. ان خطأها الاساسي يتلخص بكونها رد فعل على التحدي الغربي، فتعمل على فرض نموذج مستعار من الماضي السحيق على الواقع المعاصر، المغاير في بنيته واوضاعه ومتطلباته ومصادر مشكلاته لواقع الامس البعيد. ومما يزيد من تعقيدات الامور، الاختلاف الكبير في فهم نموذج الماضي القابل للكثير من التفسيرات والتأويلات المختلفة، بل المتناقضة في كثير من الاحيان والاحوال.
نرى غالبية اتجاهات التيارات الاسلامية الحريصة على التمسك بالتراث والتقاليد ان الابداع انطلاقاً من الواقع المعاصر كفر، وتعلن وصايتها على النموذج السلفي، كفهمه، رافضة أي تفسير او اجتهاد آخر. لذلك يحذر مفكرون اسلاميون من ان الابداع ضرورة قصوى لقيام أية نهضة حقيقية فاذا خمدت القدرة على الابداع المستقل يكون الحديث عن نهضة الامة وتنميتها المستقلة لغواً. ان الابداع مطلوب في المجالات كافة.
من هذا لاتختلف دعوة استيراد النماذج الغربية الجاهزة عن الدعوة السلفية لاستعادة مجتمع الخلفاء الراشدين كنموذج شامل كلي تفرضه قسراً، منتزعاً من سياقه التاريخي الاجتماعي. كلاهما- المشروع الغربي والمشروع السلفي- تقليد لاعلاقة له بالابداع المستقل انطلاقاً من الواقع المعاصر.
ربما كان هذا التوجه بالذات هو الذي دفع ببعض المفكرين الاسلاميين  لأن يعرفوا حالة التقليد بأنها حالة استيراد نماذج كلية جاهزة لاستخدامها المباشر في مجتمعاتنا اليوم. فبالنسبة لاصحاب الثقافة الاسلامية نرى ان اغلب كتاباتهم تقدم مجتمع الراشدين كانموذج تلزم استعادته او يلزم تقليده. ولو كان المقصود هو الروح الايمانية الجهادية او المضمون الجوهري لما مثله ذلك العصر، لما اختلفنا، ولكنهم يتكلمون على التفاصيل، وعلى المؤسسات واساليب العمل، ولاشك في ان هذه محاولة لاستخدام نموذج كلي فتنزع من سياقه الزمني، بل من سياقه الاجتماعي.
ليست التيارات الاسلامية واحدة ولا تختلف من حيث حدة التشدد فحسب، بل من حيث الرؤية والمنهج في تفسير الاسلام ودوره في الحضارة المعاصرة، ان لم نقل الحديثة، ومن حيث علاقته بالحركات السياسية الاخرى بما فيها القومية والتقدمية. لذلك يصعب التعميم واطلاق الاحكام على هذه التيارات على انها شيء واحد موحد.
تعود اصول تيارات او  حركات الصحوة الاسلامية الى الحركة الفكرية الاصلاحية الدينية في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، كما تمثلت خاصة بكتابات وتعاليم ومبادرات    جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، وغيرهم. ونشير هنا، الى ان الافغاني اسس مع محمد عبده جمعية سرية في باريس دعت لوحدة الاسلام واصلاحه، وأصدرا مجلة العروة الوثقى. وقد فسر الافغاني وزملاؤه انهزام الدولة الاسلامية امام الغزو الاوربي بأنه يعود لانقسام المسلمين وجهلهم وفسادهم، وافتقارهم الى الفضائل العامة، تماماً عكس ماكانوا عليه في اوج ازدهار المدنية الاسلامية كما تمثلت بمراحل تكونها الاولى.
على صعيد الاصلاح والتغيير في مواجهة التحدي الاوربي، شدد الافغاني وزملاؤه المصلحون على التعقل والعقلانية والتمحيص والاجتهاد، وهاجموا الطاعة العمياء للتفسيرات التقليدية، وشككوا بسلطة المؤسسة الدينية القائمة. ولكنهم في تشديدهم على العقل، افترضوا على الاقل ضمنياً انه ميزة من مزايا النخبة لا من مزايا الجماهير التي تسلك طريق الايمان. وقد عنى العقل في اساسه اعادة فتح باب الاجتهاد والتطهير الداخلي مما لحق بالاسلام ومؤسساته من تقاليد ومافرض عليه من مؤسسات، وتحريره من التقليد، وفهم الدين فهماً صحيحاً، وجعل السلطة الاخيرة في القرآن والسنة والعودة الى ينابيع الاسلام الاصيلة.
لم تتمسك الحركات الاسلامية منذ عقد الثلاثينات، وخاصة في الربع الاخير من القرن العشرين بهذا الفهم العقلاني للاصلاح وبرحابة الصدر واتساع الافق، والحرص على الاصلاح التحديثي الا في حالات نادرة، بل ان الحركة الاصلاحية الاولى نفسها بدأت تتغير، فتحولت تدريجياً من حركة تمرد، وانتهت في مراحلها الاخيرة بالتعاون مع السلطات الحاكمة في زمنها.
وفشل المصلحون المسلمون ان يؤسسوا حركة سياسية منظمة، الا ان التيار الفكري الذي احدثوه اسهم في ظهور منظمات دينية عدة من اهمها حركة الاخوان المسلمين التي اسسها حسن احمد البنا في مصر عام 1928. وخلال أقل من عام انتقل الاخوان علناً من النشاط الديني الى النشاط السياسي حين قال البنا ان الاسلام نظام شامل متكامل، وهو السبيل النهائي للحياة بكل نواحيها.
وفي الاسماعيلية- مركز تأسيس الاخوان- كان يتمتع الاوربيون المقيمون فيها بالامتيازات والسيادة والبذخ والرفاهية وبقية مظاهر الحياة الاوربية، فلم يكن من الغريب ان تشدد حركة الاخوان في مبادئها وبرامجها الاصلاحية، على ضرورة مقاومة التيارات الغربية ومااعتبرته منكرات. ارادت اقامة حكومة اسلامية يتساوى بها المؤمنون في الحقوق والواجبات، معتبرة الاسلام اكثر الانظمة الاقتصادية مثالية وعدالة، فقالت بمبدأ الملكية الخاصة مادام لايتعارض مع المصلحة العامة، وهو مبدأ بحسب رأيها يستنكر تجميع الثروات في ايدي القلة ويحد من البذخ، في الوقت الذي يسمح فيه بتعزيز رفاه الامة وزيادة الانتاج القومي. وانطلاقاً من ذلك، طالب الاخوان بتمصير المؤسسات والاموال الاجنبية، وتأميم المرافق، في محاولة لوضع حد للاستغلال.
ومن مصر انتشرت الحركات الاسلامية الى مختلف الاقطار العربية، وكل منها لها أصول خاصة ومنهج عمل تتميز به عن غيرها وخاصة الى الجزائر وتونس والسودان وفلسطين والخليج العربي…
ملء الفراغ
الذي يهمنا هنا، هو الاقتصار فقط على البحث في اسباب صعود هذه الحركات الاسلامية وسعة انتشارها في الربع الاخير من القرن العشرين  و بداية  القرن الواحد والعشرين ، وقد جرت عدة محاولات في هذا المجال منها نستنتج ان الاسباب متنوعة ومتعددة، فيركز بعضها على العوامل الاجتماعية والاقتصادية، او على الجوانب النفسية والاخلاقية والثقافية، او على التصادم بين الحداثة والتقاليد، او على اخفاق اغلب الانظمة العربية والحركات القومية والاشتراكية والليبرالية والعلمانية فكان لابد من ملء الفراغ، او على ازمة المجتمع المدني بسبب سلطوية الدولة، وتهميشها لكل القوى الفاعلة في المجتمع، او غيرها من العوامل الاخرى.
وبين العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي جرى التشديد عليها – والتي تعتبر احدى المسببات لظهور هذه الحركات – الهجرات الواسعة من الريف الى المدينة، واتساع الفجوات بين الاغنياء والفقراء ومارافقها من تهديد للطبقات الوسطى، والعطالة عن العمل بما فيها بطالة خريجي الجامعات وارتفاع الاسعار، والتبعية او الهيمنة الغربية على الموارد العربية كافة وسياسات الانفتاح ومانتج منها من مظاهر الترف والابتذال والاستهلاك وسط الحرمان، وانتشار المحسوبية والفساد والرشوة، وفشل خطط التنمية ومشاريعها، والتفسخ الاجتماعي والازمات السكنية وغيرها.
وقد استفادت الجماعات الاسلامية من ذلك خاصة في احياء الصفيح الشعبية الفقيرة، في المدن العربية المتوسعة كسرطان لاعلاج له، فقدمت المعونات والخدمات الاجتماعية للمرضى والارامل والعاطلين عن العمل المنتج، وركزت اهتمامها على الطلبة في مراحل التعليم المختلفة، كما فعلت التيارات القومية والاشتراكية من قبل.
وانتشرت الحركات الاسلامية بسبب الفراغ الذي احدثه اخفاق الحركات والاحزاب القومية والاشتراكية التي استعانت بالانقلابات العسكرية للوصول الى الحكم، بدلاً من العمل الثوري الشعبي، فلم تتمكن، او لم تعرف كيف تتخذ المبادرات الشعبية اثر اخفاق الانظمة العربية في سلسلة من الهزائم… لذلك كثرت تلك المقولات التي تؤكد ان اخفاق المشروع القومي وانهيار تجربة التحديث التنموية هي في مقدمة اسباب سعة انتشار ظاهرة الحركات الاسلامية.
ولانتشارالتيارات او  الحركات الاسلامية علاقة حميمة بحالة الاغتراب السياسي او بأزمة المجتمع المدني وهيمنة الدولة على جوانب الحياة كافة وتهميشها الشعب بعدم اشراكه في الحياة العامة وتعطيل قدراته. وكان من نتائج غياب الديمقراطية وتهميش الشعب اخفاق عملية التغيير التنموية في ابعادها كافة . ولم تقتصر عملية التهميش هذه على السلطات الحاكمة ، بل ان الاحزاب القومية والاشتراكية كانت لا تقل قمعية داخل صفوفها، فاهتمت بمسائل الوحدة السياسية المجردة مهملة أهمية العمل على قيام نظام دميقراطي تعددي. وقد وظفت الانظمة نفسها الدين كأداة للسيطرة ومصدر من مصادر شرعيتها، وليس صحيحاً مايقال ان هذه الانظمة كانت علمانية.
وبين اسباب صعود الجماعات/ الحركات الاسلامية… الاوضاع النفسية والقنوط العام، فهي صرخة احباط بعد زمن طويل من الاخفاق والقمع. انها ردة فعل لليأس العام وحالة الاغتراب، وعدم القدرة على تحمل الاهانات في الداخل ومن الخارج، ونتيجة لأزمات متراكمة من دون حلول لزمن بعيد، وليس بسبب اخفاق التحديث والحداثة فحسب. وقد شكل الدين دائماً ملجأ في الازمات للفئات والطبقات العالقة في أسر شبكات الفقر والحرمان والقنوط، خاصة حين يرافقها حدوث خلل في صلب القيم العامة التي اخذت تنهار الواحدة بعد الاخرى ان لم يكن معاً. من هنا ان البعض يرجع سر قوة الاصوليين الى امتلاكهم برنامجاً اخلاقياً.
ولكن هناك من يتساءل: أي برنامج اخلاقي هذا الذي يسمح بذبح الاطفال والرجال والنساء العجز والابرياء، ويستهدف اقليات دينية اخرى لمجرد انتمائها المختلف ولاغراض سياسية؟ ما يسمى برنامجاً اخلاقياً هو العودة الى القيم التقليدية، ومنها الاعراف العائلية والطائفية والقبلية، كما حدث في السودان واليمن بشكل خاص. ومنها ايضاً ظاهرة الحجاب وتزايد الضغط الاجتماعي لأجل انسحاب المرأة من الحياة العامة وعودتها الى شؤون المنزل، والفصل بين البنين والبنات في المدارس وغيرها، واللجوء الى مصادر المعرفة التقليدية التي تقوم على الحفظ والنقل والاستدلال على الحقيقة بالخطابة الانتقائية او بما قيل خارج سياقه التاريخي والاجتماعي، وليس بالقرائن والبراهين المستمدة من الواقع الحياتي واستعمال العقل والتحليل النقدي.
من هنا نصل إلى الاستنتاج الذي يقول:- ان منهج معظم الحركات السياسية الاصولية، في طرح رؤيتهم للاسلام عموماً هو منهج طوباوي، مغرق في مثاليته وفي تجريده، ويتجاهل وقائع التاريخ، وينكر حقائق الاجتماع، ويرفض الاستفادة من غنى وتنوع التجارة الانسانية لغير المسلمين.
لقد حلت الحركات الدينية مكان الحركات القومية والاشتراكية، ولكن من دون ان تتجاوزها وتتعلم من تجاربها واخطائها، فلم تتمكن من تقديم برنامج للتغيير ومعالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. انها في خطابها المتعدد وممارساتها ردة فعل ورفض لما يحدث وليس حركة انقاذ. لذلك، يتوقع اكثر المفكرين العرب مرحلة اخرى من الاخفاق والهزائم حيث تتمكن الحركات الاصولية من التوصل للسلطة، وستكون اكثر قسوة ومأساوية. وهذا هو المصير المنتظر الى ان تنشأ تيارات ثورية حقيقية تعمل على انقاذ المجتمع العربي من محنته التي طال امدها. فهل يكون بإمكان المجتمع العربي ان ينتظر التثبت من هذه الحقيقة قبل ان يبدأ البحث في تكوين حركة ثورية ذات رؤية تقدمية؟.

الحوار القومي ـ الاسلامي
في محاولة لردم الفجوة بين الحركات القومية والحركات الاسلامية، عقد مركز دراسات الوحدة العربية ندوة (الحوار القومي- الديني) في القاهرة عام 1989، وكان من مسوغاتها من منطلق قومي اعتبار (العلاقة بين القومية العربية والاسلام علاقة عضوية، فالاسلام هو محتوى اساسي للقومية العربية نفسها).
في هذه الندوة، حذر طارق البشري من خطر الانقسامات، الا انه اوضح من منظور ديني ان (محك الصدام بين الاسلام والعروبة هو في الجانب العلماني، فالعروبة قريبة من الاسلام ماابتعدت عن العلمانية وهي بعيدة عنه مااقتربت من العلمانية).
ورأى  المرحوم محمد عابد الجابري في الندوة ذاتها، من منطلق توفيقي، ان العلاقة متكاملة رغم ان الرابطة القومية شيء والرابطة الدينية شيء آخر، ولكن هذا التغاير بينهما لايعني ان الواحدة منها تنفي الاخرى، فتكون (مهمة الفكر القومي العربي والفكر الديني الاسلامي معاً هي العمل على تمتين العلاقة بين الرابطتين وتوجههما نحو المصلحة العامة المشتركة).
ومن المنطلق التوفيقي نفسه دعا السيد يسين الى (انشاء دولة عربية عصرية مقوماتها الدين كمكون اساسي للهوية الحضارية، ونظام لايتعارض مع مباديء الشريعة الاسلامية، ومساواة كاملة بين المواطنين عرباً او غير عرب، ومسلمين وغير مسلمين، وتحقيق الحرية بكل ابعادها واحترام حقوق الانسان، وتحقيق العدل الاجتماعي والتنمية المستقلة).
ليس هذا الحوار جديداً، فـ تجنباً للنزاعات غير المجدية حاول في السابق بعض المفكرين المسلمين مثل رشيد رضا وشكيب ارسلان التوفيق بين القومية العربية والانتماء الاسلامي. وكان بعض هؤلاء يقولون بالولاء للاسلام اولاً. كما كان البعض الآخر يميل للولاء للعروبة اولاً، كما كان البعض الاخر يوازنون بينهما فيقولون بأرتهان النهضة الاسلامية بالنهضة العربية.
قال رشيد رضا ثم شكيب ارسلان بالتوفيق بين القومية العربية والوحدة الاسلامية فـ(الفكر الاسلامي لايزدهر الا اذا ازدهر اللسان العربي، اذ انه اللغة الوحيدة التي يمكن فيها دراسة الاسلام دراسة حقيقية وتفسيره تقسيراً صحيحاً.. ولايمكن ان تقوم وحدة عميقة في امة ما، ان لم تكن موحدة اللغة، واللغة لايمكن ان تكون في الامة الاسلامية الا اللغة العربية). وبهذا المعنى يتابع رضا:- (اسلامي مقارب في التاريخ لعروبتي… قلت انني عربي مسلم، فأنا أخ في الدين لألوف الالوف من المسلمين من العرب وغير العرب، واخ في الجنس لألوف الالوف من العرب المسلمين وغير المسلمين).
الموقف من حق الاختلاف وحرية التعبير
من بين الأسئلة المهمة التي تطرح في مجال الحديث عن التيارات  الاسلامية هو مدى قدرتها على الالتزام بالديمقراطية والتعددية واحترام حق الاختلاف وحرية التعبير، وهي الامور التي لم تلتزم بها القوى والحركات الاخرى. لهذا اطلق الكثير من التعميمات حول ان هناك في صلب الثقافة العربية ما يمنع قيام الديمقراطية.
واكثر ما شدد عليه الثقافة الدينية باعتبارها ثقافة مطلقة، والثقافة الابوية في العائلة والقبيلة والمؤسسات الاخرى المتأثرة بها. ولكن مايتجاهله اصحاب هذه التعميمات الجازمة ان هناك في العقدين الاخيرين من القرن العشرين تعبيرات متنوعة عن رغبة العرب بالديمقراطية وتنشيط المجتمع المدني واشراك الشعب في تقرير مصيره، وقد اضطرت بعض الانظمة العربية للتجاوب مع بعض هذه المطالب الشعبية في ظل ظروف تاريخية محددة. ومن المعروف في التاريخ ان المؤسسات التقليدية كافة منها العائلية والدينية والسياسية في مختلف المجتمعات والحضارات، قاومت الديمقراطية وتنشيط المجتمع المدني الى ان فرضت عليها من قبل الحركات الشعبية. وحين تتم مقاومة الديمقراطية من قبل مختلف الاديان، فإن ذلك يتم ليس لأسباب دينية روحية، بل لأسباب ومصالح اجتماعية واقتصادية تنعم بها الطبقات الحاكمة.
ان التيارات الدينية الاصولية بكل تفرعاتها المتشددة هي بالدرجة الاولى انفعال بالواقع لافعل به، ردة فعل على تحديات تاريخية خارجية وداخلية. بهذا المعنى لا نرى انها تقدم بديلاً فعالاً وحلاً للمشكلات الاساسية المتراكمة. تقول انها الحل الوحيد، والحل الوحيد في رؤيتها يكون بالعودة الى نموذج ماضوي، متجاهلة مسألة استحالة العودة، فالواقع المعاصر هو غير الواقع الذي نشأ فيه الاسلام اصلاً، فهو بدوره حصيلة واقع اجتماعي تاريخي محدد يختلف كل الاختلاف عن الواقع الحاضر. وليس من الغريب ان تطالب الحركات الدينية بهذه العودة الى الماضي البعيد، متجاهلة الواقع الاجتماعي والتاريخي، فهي تنطلق من منهج مثالي طوباوي يناقش الامور خارج سياقها. ونتيجة لذلك لم تتمكن الحركات الدينية من جراء تمييز بين الاصول والتقاليد المتوارثة المكتسبة تاريخياً. ويتجلى ذلك خاصة في نظرتها الى المرأة والاقليات والآخر بشكل عام. هي ليست تجاوزاً لحالة الاغتراب التي تعانيها، بل ردة فعل فحسب. انها نوع آخر من الاغتراب في الدين، فتجرد الانسان من مسؤولياته في صنع التاريخ وقدراته الابداعية، بل هي تجرد الانسان من ميزة الابداع وتسقطها على قوة جبارة خارجة، عن حياته فيصبح دوره طقوسياً وتعبدياً ليس الا، ويكون قد خلق ليعبد لا لان يكون ويبدع متجاوزاً كينونته.
والتيارات  الإسلامية ، على الرغم من انها  شكلت وتشكل تحديات أساسية للنظم الحاكمة في العديد من الدول العربية إلا انها لم تتمكن من تغيير نظام الحكم في أية دولة عربية ، حيث لم تقم أية جمهورية إسلامية في الوطن العربي . وقد حاولت دراسات عديدة البحث عن تفسير لهذه الظاهرة في ضوء تقييم التنظيمات والحركات الإسلامية وبخاصة في ما يتعلق بتصوراتها وبرامجها لمواجهة المشكلات التي تعانيها الدول العربية في الوقت الراهن وطبيعة العلاقات الداخلية في هذه التنظيمات وأنماط علاقاتها بالقوى السياسية الأُخرى ومواقفها من قضايا الديموقراطية والتعددية الحزبية وحقوق الإنسان .
وقد تضمن النقد الذاتي لهذه  التيارات و الحركات رصد العديد من أوجه الخلل التي أوردتها دراسات ومداخل لعدد من المتخصصين بشؤونها ، وتتمثل أهمها في ما يلي: الخلل في فهم التعددية وفي الإيمان بجدواها ، والخلل في علاقة الذات بالآخر ، والخلل في علاقة الحركة بالفكر ، والخلل في علاقة التربية الروحية بالتربية السياسية ، والخلل في علاقة الطاعة بالحرية وغياب التفكير المنهجي ذي المدى البعيد ، وعدم التزام تطبيق الشورى داخلها بل قيام بعض الحركات أيضاً برفض الديمواقراطية بصورة مطلقة . كما أن أكثر الجماعات الإسلامية تفتقر إلى الرؤية الموضوعية الشاملة للواقع العربي والإسلامي ،  وتفتقر إلى خطط فعّالة للعمل الإسلامي ، كما انها تتسم بغلبة النظر الجزئي على النظر الكلي ، وغلبة النزعة الاممية وغلبة المذهبية في التفكير الإسلامي وغلبة الرفض لمكاسب العصر وغلبة الفكر الاطلاقي على النسبي وغلبة النزعة التآمرية في تفسير الأحداث ، وغلبة الانشغال بالسلطة عن المجتمع .
كما ان جُلّ التيارات و الحركات الإسلامية المسيّسة طرحت في الغالب شعارات تعبوية ولكنها برامج ومشاريع واقعية ومقنعة للتعامل مع الواقع الراهن بتحدياته وتعقيداته ما أسهم في تكريس إخفاقها وتعثرها .
كما ان سياسات النظم في التعامل مع الحركات المعنية قد أسهمت في تحجيم دورها ، فحتى في الحالات التي سمحت فيها النظم الحاكمة لبعض الحركات بالمشاركة في الحياة السياسية فإنها حرصت على أن تظل هذه المشاركة ضمن الحدود التي لا تؤثر في طبيعة هذه النظم . ولذلك لم تتردد النظم المعنية في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحجيم مشاركة هذه الحركات في الحياة السياسية أو لمنعها من المشاركة السياسية كجماعة منظمة .

انسداد الافق العربي
على ضوء ما سبق ذكره، يمكننا ان نستنتج بأن هذه التيارت  المعاصرة ان هي الا حلقة في سلسلة تسعى إلى تجسيد فكرة التجديد العميقة الجذور في تاريخنا الاسلامي. كما نستنتج أيضاً ان هذه التيارات  المعاصرة هي –بعضها- الامتداد لتيار الصحوة او  اليقظة والنهضة والاحياء الذي تدفق في العالم الاسلامي منذ الغزو الاستعماري معبراً عن الاستجابة الفاعلة لما مثله هذا الغزو من تحدٍ.
ان التيارات الفكرية في تاريخنا العربي: التحررية التحديثية (الليبرالية)، القومية، الاشتراكية، والحركات الدينية… قد توصلت الى طريق مسدود. كلها وعدت بالتنمية والعدالة الاجتماعية فتعمقت الفجوات بين الطبقات الاجتماعية. وبالتحرير فترسخت التبعية. وبالحرية فعمت السلطوية مهيمنة على المؤسسات كافة، وهمش الشعب، فلم يتمكن من المشاركة في صنع تاريخه ومستقبله على صورته ومثاله.
وفي مناخ الهيمنة والفساد، تبين ان هم البرجوازية الوطنية التي هي في الوقت ذاته متمثلة بالأسر الحاكمة التقليدية، ولا يزال بعضها في الحكم في عدد من الاقطار العربية، هو المحافظة على الاستمرار في الحكم بأي ثمن وعلى حساب الشعب. كما ان تيارات اليسار هي ايضاً لم تتمكن من توعية الطبقات الاجتماعية الوسطى والكادحة وتنظيمها في حركة ثورية تاريخية. من هنا كان انحسار ان لم نقل انسداد الافق العربي في كل قنواته.

المراجع:
1. حسين توفيق إبراهيم –النظم السياسية العربية: الإتجاهات الحديثة في دراستها ، ط1 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 2005 .
2.  حيدر إبراهيم علي – التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية ، ط2 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1999 .
3. ندوة الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي ، ط1 ، منتدى الفكر العربي ، عمان ، 1987 .
4. ندوة الحوار القومي – الديني ، ط1 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 1989 .

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات