خاص : ترجمة – سعد عبد العزيز :
منذ نجاح الثورة الإسلامية عام 1979 سيطر رجال الدين على أغلب مؤسسات الدولة في إيران، ولم يكتفوا بذلك بل تغلغلوا في كافة مناحي الحياة العامة للشعب الإيراني؛ وبمرور الوقت أخذت مكانة رجال الدين تتدنى شيئاً فشيئاً بين أبناء الشعب الإيراني إلى أن وصلت إلى أدنى مستوياتها في المرحلة الحالية.
وفي هذا السياق نشر موقع “منتدى التفكير الإقليمي” الإسرائيلي، مقالاً للبروفيسور “راز تسيمات” الباحث في مركز “إليانس” للدراسات الإيرانية بجامعة تل أبيب، يسعى من خلاله إلى إعادة تعريف العلاقة بين رجال الدين وبين جماهير الشعب الإيراني، من خلال رصد متعمق لما يصدر عن الصحافة الفارسية وما يدور على منصات التواصل الاجتماعي في إيران.
سلوكيات مشينة لبعض رجال الدين..
بداية يرصد البروفيسور “تسيمات” قائلاً: “نشر (مسيح مهاجري)، رئيس تحرير صحيفة (جمهوري إسلامي) الإيرانية، مؤخراً مقالاً استثنائياً ينتقد فيه سلوكيات كثير من رجال الدين الإيرانيين. وتطرق (مهاجري)، الذي يعتبر رجل دين هو الآخر، في مقاله إلى عدد من الظواهر التي يرى أنها تسيء للصورة العامة لرجال الدين وتضرب القيم الإسلامية وتقوض مبادئ الثورة”.
ويضيف الكاتب الإسرائيلي أن من بين ما تناوله “مهاجري” في المقال؛ قيام عدد من رجال الدين باستغلال خطبهم ومواعظهم في الدعوة لتعدد الزوجات وتشجيع الجماهير عليها، كما انتقد تعيين رجال دين في المستشفيات ومحطات مترو الأنفاق للإجابة على الأسئلة الفقهية للمواطنين، كما ألقى الضوء على تنامي ظاهرة استضافة وسائل الإعلام لعدد ممن وصفهم بـ”المحتالين”، الذين ينتحلون صفة رجال دين، وكذلك انتقد التعاطي السطحي والتناول الساذج لعدد من الخطباء والدعاة للقضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية.
أخطاء البعض تسيئ للكل..
ينقل “تسيمات” عن “مهاجري” رأيه أن تلك السلوكيات ليست مجرد انحراف عابر عن الدور التقليدي المنوط برجال الدين، ولكنها تضر بسمعتهم وتُسقط هيبتهم، كما أن البعض يستغلها للسخرية من الدين والاستهزاء بالعقيدة، لا سيما على شبكات التواصل الاجتماعي. وأكد “مهاجري” على أن الحيلولة دون انهيار ثقة الجمهور في رجل الدين ستتحقق إذا قام كبار رجال الدين بتشديد رقابتهم على مضامين الخطب والمواعظ في المساجد، وإذا تم منع بث المضامين الشاذة على وسائل الإعلام الرسمية، وإذا اقتصر وجود رجال الدين على المساجد والمعاهد الدينية.
ويشير البروفيسور الإسرائيلي إلى أنه بعد أيام قليلة من ذلك المقال، نشر “مهاجري” مقالاً جديداً يستكمل فيه ما بدأه في المقال السابق، فقال: “إن التعليقات الإيجابية التي حظي بها مقالي الأول – لا سيما من جانب بعض رجال الدين – تشير إلى حساسية المجتمع الإيراني وتحفظه على السلوكيات السلبية المزعجة لبعض رجال الدين، فتسيء لجميع رجال الدين في إيران وتخدش هيبتهم”.
وأهاب “مهاجري” بكبار رجال المؤسسة الدينية الإيرانية أن يخرجوا عن حالة الصمت وعدم الاكتراث من أجل مجابهة تلك الظواهر المشينة.
شعور بالجفاء تجاه رجال الدين..
يقول البروفيسور “تسيمات”: “في السياق نفسه نشر موقع (عصر إيران) مقالاً مثيراً تناول ظاهرة انخفاض أعداد رواد المساجد في إيران، ورصد المقال ظهور حملة تعليق لوحات إعلانية في شوارع طهران لحض الجماهير على الصلاة في المساجد، كما ربط المقال بين تلك الحملة وبين تزايد شعور الجماهير بالجفاء تجاه رجال الدين”.
وينقل الكاتب الإسرائيلي عن صحيفة “عصر إيران” قولها: “على مر القرون حافظ رجال الدين الشيعة على علاقات وثيقة وطيبة مع الجماهير؛ فقد كانوا يقدمون لهم النصح والإرشاد، ويشاركونهم الاحتفالات والمناسبات الدينية، ويفضون النزاعات العائلية ويحلون المشكلات الأسرية، ولم تكن الإمامة في الصلوات وإلقاء الخطب والمواعظ سوى جانب صغير من أعمالهم. أما اليوم فقد بات رجال الدين في إيران يفضلون الوظائف الإدارية العامة ويبحثون عن الاشتراك في عضوية مختلف الهيئات والمؤسسات. بل إن معظم من يذهب منهم إلى الحوزات العلمية المقدسة في مدينة النجف العراقية أو مدينة قم الإيرانية لإتمام الدراسة الدينية والحصول على أعلى المؤهلات الشرعية، يسعى عند عودته إلى تولي منصب إداري بدلاً من الاشتغال بتدريس علوم الدين”.
استمرار الانشغال بالسياسة والإدارة يعني فراغ المساجد..
بحسب “تسيمات” فإن الصحيفة الإيرانية قد شددت على أن رجال الدين غير مطالبين بالامتناع عن التدخل في الشؤون السياسية أو بترك التأثير في إدارة شؤون الدولة، ولكن ذلك لا يستلزم تولي مناصب إدارية. كما أكدت الصحيفة الإيرانية على أنه طالما ظل رجال الدين يفضلون الالتحاق بالوظائف الإدارية على العمل الدعوي فستظل المساجد خالية من المصلين. وعلاوة على ذلك، فإن انخراط رجال الدين بالمجتمع ونصحهم وإرشادهم أصبح الآن أكثر أهمية وإلحاحاً من أي وقت مضى؛ لأن جيل الشباب المتعلم بات أكثر اتصالاً بالعالم ومستجداته وأصبح يتسم بروح ناقدة ويبحث عن أجوبة مقنعة لما يدور في ذهنه من تساؤلات. فإذا كان رجال الدين سيظلون مشغولين صباح مساء في الشؤون الإدارية فإنهم لن يستطيعوا أن يجتذبوا جيل الشباب، حتى لو وضعت آلاف اللوحات الإعلانية التي تدعو للصلاة في المساجد.
وقفة مع النفس لتحسين صورة رجال الدين..
يقول “تسيمات”: “في تطور ملحوظ انضم آية الله (هاشم زاده هريسي)، عضو مجلس خبراء النظام، إلى قائمة منتقدي رجال الدين، حيث أعرب (هريسي)، في حديث له مع صحيفة “انتخاب” الإلكترونية المحسوبة على التيار الإصلاحي في إيران، عن أسفه على فشل المؤسسة الدينية في تخريج كوادر دينية بارزة، مقارنة بما كان عليه الوضع في إيران قبل الثورة الإسلامية وفي بدايات عهدها، ودعا المؤسسة الدينية إلى وقفة مع النفس”.
وأضاف “هريسي” قائلاً: “صحيح أنه لا عيب في مشاركة رجال الدين في السياسة، ولكن العيب كل العيب هو التحريض على الكراهية والعنف، فينبغي تقديم الدين والأخلاق على السياسة. فيجب على رجال الدين أن يتصرفوا برحمة وسماحة وأن يظهروا الود لجميع الناس بغض النظر عن مواقفهم السياسية، تماماً كما يفعل الأب مع أبنائه”. وحذر “هريسي” من أنه في ظل غياب النقد الذاتي وتعديل المسار ستظل الانتقادات اللاذعة تنهال على رجال الدين، لا سيما عبر منصات التواصل الاجتماعي، التي تعتبر ساحة مفتوحة للهجوم عليهم.
مظاهر تآكل مكانة رجال الدين..
يؤكد الكاتب الإسرائيلي على أنه: “في عام 1999 قام رجل الدين والمفكر والفيلسوف الإيراني (محسن كديور) بنشر مقال يؤكد فيه على أن أكبر مشكلات إيران هو حكم ولاية الفقيه المعمول به منذ نجاح الثورة. وقال (كديور)، الذي يعتبر واحداً من رواد المدرسة النقدية للمذهب الشيعي، إن معظم رجال الدين في إيران مسؤولون عن أخطاء النظام. وفي شباط/فبراير 1999، ألقت قوات الأمن القبض على (كديور) بتهمة نشر الأكاذيب والتحريض ضد النظام والمطالبة بفصل الدين عن السياسة”.
ويرى البروفيسور “تسيمات” أن موجة الانتقاد الحالية ضد رجال الدين تعكس التآكل المتواصل لمكانتهم في الشارع الإيراني؛ فقد باتوا الآن محسوبين على النظام ومسؤولين عن أخطائه. كما أن الوضع الاقتصادي الجيد نسبياً لكبار رجال الدين جعلهم معزولين إلى حد كبير عن المواطنين العاديين. كل تلك العوامل أسهمت ولا تزال في مسيرة العلمنة التي يمر بها المجتمع الإيراني.
ويلفت الكاتب الإسرائيلي إلى أن أحد مظاهر التراجع المستمر في مكانة رجال الدين لدى الشارع الإيراني، ما شهدناه قبل ثلاثة أعوام من قيام كثير من مستخدمي المنصات الاجتماعية بإبداء مظاهر الفرح والتعليقات الساخرة من تدهور الحالة الصحية ثم من وفاة آية الله “محمد رضا مهدوي كني”، رئيس مجلس خبراء النظام وأحد أبرز رجال الدين في تاريخ إيران المعاصر. ويضيف أن الجميع يشهد دائماً استخفافاً شعبياً كبيراً ونقداً علنياً حاداً لمواقف رجال الدين في إيران.
تحديات كبيرة بانتظار رجال الدين..
ختاماً يرى البروفيسور الإسرائيلي “راز تسيمات”، الباحث المختص بالشأن الإيراني، أن وضع رجال الدين يبدو الآن أنه قد ازداد سوءًا في نظر الشعب الإيراني، فلم تعد الانتقادات الموجهة إليهم تقتصر على فئات محدودة من المثقفين أو رجال الدين أو السياسيين المحسوبين على اليسار الإصلاحي. وعلى الرغم من أن رجال الدين الرسميين لا يزالون يتمتعون بالسطوة والسلطة بفضل هيمنتهم على بعض المؤسسات السياسية التي لا تخضع للانتخاب الشعبي، إلا أن استمرار تراجع مكانتهم العامة سوف تشكل تحدياً كبيراً لـ”نظام الملالي” في قادم الأيام، ولا سيما بعد أن يرحل المرشد الحالي “علي خامنئي” عن عالمنا.