مع كتابات.. أحمد رمضان: الجديد القديم في تجربتي هو التحرر من المتحفية والسلعنة للمنتج الفني

مع كتابات.. أحمد رمضان: الجديد القديم في تجربتي هو التحرر من المتحفية والسلعنة للمنتج الفني

خاص: حاورته – سماح عادل

“أحمد رمضان” فنان تشكيلي مصري، كتب عنه الناقد والفنان التشكيلي “عز الدين نجيب” في مقالة تحت عنوان “أحمد رمضان في الطريق المعاكس” يقول: “سبق أن تابعت تجاربه الفنية المثيرة للجدل منذ سنوات عديدة قبل أن ينقطع عن التواجد والمشاركة في أنشطة الحركة الفنية هو فنان مسيس (بتشديد الياء) متمرد على الذوق السائد ومؤسساته وشلله، صاحب موقف ثورى بشأن قضايا الوطن وتحولاته، يقف مع الحرية والعدالة في أعماله لكن بطريقته التي تجمع بين الجد واللعب، وبين الحكمة والسخرية، وبين الفن وتحطيم الفن لقد جرب الكثير من أساليب فنانى ما بعد الحداثة المتمردين على أساليب البرجوازية فنا وحياة ومظاهر، حطم مفهوم لوحة الحامل والبرواز وقاعة العرض الأنيقة، نقل في أعماله ممارسات فنون الشارع من «تعاليق» مجسمة وكتابات ورسوم جرافيت بدائية، واستطاع أن يشارك بأعماله في مهرجانات الفن الرسمية التي تعنى باتجاهات الحداثة، فشد إليه الانتباه، ثم غاب عن المشهد طويلا بغير سبب معروف.. إلى أن عاد بمعرضه الجديد تحت عنوان «اللعبة» ويقصد بها أوراق الكوتشينة فيرسم رموزها فوق صفحات صحف قديمة مصفرة بالية، مقلوبة ومكرمشة، وقد لطخها بلطشات من ألوان متضاربة بفرشاة عشوائية طائشة، لكنه يقبل شروط اللعبة المتوافق عليها اجتماعيا وثقافيا، بإقامة معرضه في قاعة حكومية أنيقة، ويهز وقارها بألوان وخامات رخيصة مثل ألوان الجير على الجدران في الشوارع أيام الانتفاضات الشعبية، من خلال رسوم الجرافيتى وسط علامات أوراق الكوتشينة وأرقام الكومى والآس وصور البنت والولد والشايب.. تختلط الانطباعات المنعكسة على عين المشاهد، بين التسليم بلعبة الحظ العبثية التي تحكم الواقع، أو السخرية منها، أو الغضب من الصحف الكاذبة التي تزيف الوعي، وبين انتحال أساليب الفن العدمى لعصر العولمة باسم فنون ما بعد الحداثة «وقد ظهر هذا الاتجاه منذ أكثر من قرن من الزمن، على أيدى جماعة (الدادا) عام ١٩١٥ واشتهر رائدها الفنان مارسيل دو شامب بمبولته الخزفية التي وضعت في صدارة المعرض، وتوالت بعد ذلك جماعات مثل آرت بوفيرا (الفن الفقير) في الستينيات، حتى انتعشت من جديد في الربع الأخير من القرن الماضي تحت شعار فنون ما بعد الحداثة، وحركات «ضد الفن» و«الفن الفقير»”.

إلى الحوار:

(كتابات) كيف بدأ شغفك بالرسم وكيف طورته؟

  • كان الفصل شديد الازدحام في المرحلة الابتدائية بداية السبعينات وكانت حصص التدريس الفعلية لا تتجاوز الثلاث حصص يوميا، وكان الأستاذ صابر مدرس الحساب قد أنهى حصته المزعجة بالنسبة لي لكنه لم يغادر الفصل وبادرنا قائلا: طلعوا كراريس الرسم.

كان أغلب التلاميذ يشترون كراسات المواد بالكاد فهم أبناء الحي الفقير الذي لم أر فيه في هذه المرحلة مكتبة لبيع الأدوات المدرسية، وكنا نشترى نهاية كل عام ورقة دبل فلوسكاب، يعرفها البقال باسمها المحلى (ورقة امتحانات)، ولم يجد الأستاذ صابر حلا إلا تقسيم الفصل لمجموعات تعمل كل مجموعة معا في كراس رسم أحد التلاميذ من مالكي الكراسات والألوان.

كان موضوع الرسم في عام ٧٤، بعد العبور العظيم لقناة السويس والقصص الشعبية المتداولة بين الناس عن دعم الملائكة لقواتنا المسلحة أثناء الحرب، وكانت رأسي ملئ بالأسئلة التي لا أجد لها دوما إجابات لدى الكبار. بحثت عن إجابات وأنا أتزعم وأدير الحوار بجديه تامة  عن الملائكة ودورهم في المعركة العظيمة.

رسمت طائرات ومراكب فلم يكن هناك أي مصدر للمعرفة سوى كتب الوزارة، وكنت أشاهد هذه الرسومات دوما على بيوت الحجاج، لكن الأمر لم ينتهِ على ما يرام وغضب عليا زميلي صاحب الكراس والألوان، وعند احتدام الخلاف فوجئت بالأستاذ صابر فوق رأسي منذ وقت ليس بقصير، طلب منى العودة إلى دكتى لحظات ندمت فيها كثيرا على تمترسى حول حكايات الملائكة التي كانت لا تقنع جميع أقراني، ولكنى فوجئت بالأستاذ الجميل يفتح (الشنطة الدبلوماسية) ليخرج منها ورقة بيضاء وثلاث أقلام خشبية ويطلب منى إعادة رسم اللوحة، كانت دقائق بلا سقف وإحساس فريد بالتميز، لطفل لا يعرف غير كراريس الوزارة  المصنوعة من ورق أشبه بورق الجرائد، وورقه الامتحان التي نشتريها من البقال نهاية العام الدراسي. من وقتها وأنا شديد الإيمان بما أفعل بعيدا عن السياق الذي وضعتني فيه الظروف.

(كتابات) كيف كانت بداياتك وهل وجدن الدعم من الأسرة والمدرسة؟

  • لم يكن هناك رفاهية لدى أسرتي لدعمي كنا خمسة وترتيبي الرابع، يعود الأب من العمل في الثالثة للغداء، يرتاح قليلا ويجمع إخوتي حول الطبلية للمذاكرة، كان ضليع في كل المواد، فيقوم بنفسه بتدريس اللغة والرياضيات والجبر لإخوتي الأكبر مني في المراحل الإعدادية والثانوية.

أما أنا فأمري سهل، اللي في ابتدائي ناجح ناجح مفيش مشكلة، كان إخوتي الأكبر سنا يشكلون ضاغط كبير عليه، وكان شراء كراس الرسم والألوان قله أدب في ظروف يعانى منها الرجل من شراء مرجع لإخوتي مثل سلاح التلميذ، كان الإبداع الفني دوما خارج السياق الذي تجبرني على السير فيه الظروف الموضوعية للأسرة والمجتمع. ففي المرحلة الإعدادية كنت طالبا فاشلا في كل المواد.. وأجنى الجوائز في مسابقات الفن والشعر من الإدارة التعليمية وأخوض مسابقات على مستوى الجمهورية.

أتذكر عندما تطاولت على مدرس الألعاب مع أقراني وكان الرجل شديد الاعتداد بنفسه وأصر على رفدي من المدرسة، كان شفيعي عنده الأستاذة نعمه مدرسة الرسم والأشغال، حيث بذلت جهدا كبيرا اعتقد عندها الرجل أنى أحد أقاربها فاكتفى بعلقة ساخنة في حضورها، كانت بالنسبة لي أكثر قسوة من الرفد، كانت نعمة صاحبة رؤية في تطوير موهبتي كممارس للفن، أتذكر مثلا عندما طلبت مني رسم عصافير بألوان القماش والراليف على شنطة صنعتها من بقايا ثياب قديمة. كنت مساعد شاطر وكانت تعتمد عليا دائما في تغطية المشاركة في المعارض والمناسبات الفنية داخل المدرسة وخارجها.

وكنت لا أكل من العمل، واسأل نفسي ما فائدة هذا العبث الدراسي،  فأنا فنان ويجب أن أدرس المواد التي تصب مباشرة في هذا الاتجاه، في مرحلة مبكرة قمت لاستخدام الألوان الزيتية والقماش والورق والنحت على الجبس وتعاملت مع الكثير من الوسائط. ولما كان لابد من العمل في إجازة الصيف التحقت بورشة مشهورة لصناعة النجف العربي والفوانيس كانت تملكها فنانة ومديرها فنان ولها سمعة تجاوزت حدود المحلية.

(كتابات) ما سر شغفك بالألوان.. وما هي المواد التي تستخدمها في لوحاتك؟

  • إن الانفتاح الكبير على عدد من المهن التراثية والنشأة وسط الصنايعية الفنانين، والدروس التي يصعب حصرها رسخت في ضميري الفني مبدأين: الأول هو احترام الخامة وإن بدت بالية بالنسبة للآخرين، إن الوسيط الفني ذو التاريخ يدير حوار مع المبدع ويفتح له آفاق لأن يكتشف الفني في اللحظة التي يتطلع فيها لخلقه. والمبدأ الثاني أن أي عمل يمارسه الفنان وإن بدا للآخرين عمل يومي للاستهلاك الإنساني، في جوهره نفحه من روح الفنان لا يدركها إلا صاحب بصيرة.

(كتابات) احكي لنا عن مسيرتك في فن الرسم حتى الآن؟

  • في مراحل تالية انشغلت بالدراما والتمثيل والكتابة الخ. وكنت كمن يدرس الفيزياء ليبحث عن إجابات لأسئلة في الفلسفة. كنت دوما معاصرا وخارج مناطق الجذب للمدارس الفنية الرائجة، تعلمت في سياق أكاديمي دون أن أكون طالبا في أكاديمية، في الدورات الأولى لصالون الشباب قدمت أعمال الفديو أرت والبرفورمانس والاستنساخ والتجهيز البيئي. كنت أبحث في القوالب المتاحة معرفيا عن مساحة تستوعب المفاهيم والأفكار، ولم أقنع يوما أن الفن التشكيلي قد ضاق بالهم اليومي للإنسان.

فانشغلت في مشروعي بربط اليومي بالفني وكانت الخبرات الحرفية صاحبه الإسهام الأعظم في إنجاز أعمالي الفنية. في بداية التسعينيات قدمت القفص داخل أتليه القاهرة، وهو نص درامي للكاتب “سعيد حجاج” وقد تجاوز إطار العمل أدوات المسرح المتعارف عليها، فكان ضمن أدواته البرفومنس (أداء الفنان) أرت والتجهيز البيئي وتلت هذه التجربة تجارب أخرى بمركز “اندريس بييو” بسفارة فنزولا بتجربة في “البادى أرت” (التشكيل على الجسد واستخدامه كوسيط فني) وكان المفاهيم المعبئ بها الأعمال تدور في فلك البحث في حدود الحرية.

كما قدمت (معنى القهر) على مسرح الهناجر في عام ١٩٩١، ولما كان عرض الافتتاح والختام لمهرجان المسرح الحر أثارت جدلا حول ما هو مسرح وما هو إبداع بصري.. في متحف الخزف قدمت (عيل بيرسم خريطة) وكانت الأعمال على وسائط اخترت لها دور في الحياة مغاير للدور الذي صنعت من أجله، وكان العمل  يبحث مفاهيمها عن حرية الإنسان في التجوال وماهية العلامات الجغرافية على الخرائط السياسية والطبيعية.

في بداية الألفية قدمت في مجمع الفنون (أوراق سيئة السمعة) كان مزجا سينمائيا بين ورقة الجنرال وورقة الكتشينة) حملت أعمالي ما ضاقت به أعمال المبدعين من هموم الإنسان المعاصر ومشكلات الديمقراطية كمنتج حداثي، وسيطرة الميديا على العقل البشرى بدلا من إرشاده وتوجيهه. كنت دوما، دون أن انشغل بالتنظير، شديد الحساسية تجاه المنتج الفكري والغنى الحداثي وأحاول سد ثغره لا أدرك على وجه اليقين حجمها ولا ملامح وأبعاد جغرافيتها.

(كتابات) هل تنتمي لمدرسة معينة في الرسم؟

  • لقد ولدت ونشأت على تجليات التحديات الحداثية، واعتقد أن حداثة بديلة أحاول مع المجتهدين في شتى بقاع الأرض أن انتمى إليها. أطلق البعض مصطلح ما بعد الحداثة وفى تقديري فيه تشويه للكثير من المشكلات، وأطلق البعض مصطلح المعاصرة في الوقت الذي يتعاطى فيه الإبداع الفني المفاهيم الأكثر سلفية وزيف. إن الحداثة البديلة قناعتي ومشروعي المؤمن بما أنجزه أسلافي من المبدعين.

(كتابات) هل تحاول لوحاتك توصيل رسالة ما للمتلقي؟

كن مبدعا ولا تكترث للمعايير الجاهزة ولا تنظر خلفك في غضب فقط انظر في حذر وكن على يقين أن الآخر يعانى حالة من الكفر بالإبداع فامنحه القليل من إيمانك باللون والخط وملمس السطح وكلها مرادفات لبصمه الأصبع لا تتكرر إن كان هناك أصبع. أنا مؤمن بالإنسان كمبدع الأنسنة بامتياز.

(كتابات) حدثنا عن معرضك الأخير والتجديد فيه ورد فعل الجمهور؟

  • في معرضي الأخير عانيت كثيرا من الظرف السياسي والاجتماعي العام، فلم أمسك فرشاتى ولم أمارس فعل الإبداع الفني منذ عام ٢٠٠٥، وانشغلت بالشأن العام وتمترست خلف حلم الثورة، لم يكن في تصوره أن أبدأ مجددا في الرسم والتلوين قبل الإسهام في إنجاز مشروع سياسي حليف للمصريين.

اعتقل الكثير من الأصدقاء ومات من مات وسقط من سقط، سيطر الإحساس بالعجز والمهانة، فلم يعد هناك من مساحة لتقديم شيء، سوى انتظار الدور في الشهادة عبر عبوة ناسفة أو عيار طائش عند الاعتراض على ما آلت إليه الأمور في الصراع بين دكتاتورية السلطة وفاشية الإسلاميين.

فأتت الفكرة، قفزت إلى السطح، فكرة تقديم عمل مكمل لعملي في عام ٢٠٠٥، “علبة الصبر” والذي قدمته في المعرض العام ضد السلطة والإخوان ولاقى استحسان كبير من النقاد. فشرعت في عملي “طله العصفور” والذي لم يكن عزفا منفردا في صحراء السياسة التي تحتوينا، كان “طلة العصفور” بإلهام من قصيده الراحل “عبد الرحمن الأبنودي” وأغنية “عصفور طل من الشباك” ل “مارسيل خلفية”.

مارست لعبه التعاطي مع إبداع أقراني من المهمومين بالناس كثيرا. لكن الظروف حالت دون تقديم العمل في موعده وكانت المطبات والحواجز أكبر بكثير من أن أتجاوزها في هذا الظرف المعتم. قبل عشرين يوما من موعد معرضي الأخير حسمت أمري لن أتمكن من إنجاز العمل في موعده وتأملت الوضع من صاحب المبادرة؟ من يفرض إرادته على الآخر؟ من المنتج ومن المستهلك من يزيف وعى من؟

وجدتني أتصالح مع الحواجز وأتعاطى معها، أدركت وقتها أنه من الأصوب ترحيل فكرة مشروع (طله العصفور) ليخرج للمتلقي بشكله المكتمل واللائق والارتداد للأوراق سيئة السمعة التي لم أتشبع من العمل بها في العام ٢٠٠٥، فهي تجربة كانت تتحمل مزيد من الإنتاج ومزيد من التجويد. وتخفيفا لحجم الضغوط الذاتية والموضوعية كان الانحياز للموضع الأقل وطأة والأكثر بهجة. قمت بفرد أعمالي القديمة على جدران المرسم .

حاولت أن التقط شيء من فكرى وأجدد إيماني بمواقف قديمة ولم يتجاوزها الزمن. جاءت فكرة معرض اللعبة الذي أقيم أخيرا في متحف محمود مختار، والذي شغلني فيه تبديد وتبديل الثوابت الصارمة لشكل ورقة الكوتشينة، عشرون يوما أو يزيد قليلا وأنا أتأرجح بين كفري وإيماني بهندسية وتخليص رموز الكتشينة وألوانها التي اكتسبت قداستها بدوام تعاطيها عبر الزمن.

ولم تفارقني ورقة الجنرال كوسيط يحمل بين أعمدته تراجيديا الإنسان المعاصر. مارست اللعبة تارة بحذف المانشتات الصحفية أو تفريغها من معانيها بالخوف الجزئي وتغير وتبديل شكل الكتشينة وألوانها. هنا يجب أن أنوه أن تحميل أي عمل إبداعي لأدبيات أو مفاهيم خارج نطاق الوسيط البصري لا يجب أن تكون شفيعة له في إنجاز التحديات البصرية. كنت شديد التسامح مع جمهور الفن هذه المرة والتي وبقرار مسبق تركت له مساحة من المتعة من دون قيد. ففي معارض سابقة استخدمت قوالب فنية تجبر المتلقي على التموضع في جو نفسي ملائم للعمل.

مثلا في (عبقرية الصبار) ١٩٩٣ في مجمع الفنون قمت بوضع أسلاك شائكة في أرضية القاعة بعد توصيلها بكبس الكهرباء (الذي كان قطعت عنه الكهرباء من المصدر).

لكن هذا الفعل الإيهامي جعل المتلقي يتعامل بجدية وحذر مع العمل وتخلى عن حالة الاستخفاف التي تصادفنا كثيرا عند جمهور قاعات الفن. وفى بداية التسعينيات عندما قدمت القفص في اتيليه القاهرة. لم تكن الدعوة توجه إلى الجمهور لمشاهدة حالة إبداعيه ذات طبيعة خاصة.

كنت أجلس في قاعة العرض منهمكا في تلوين لوحة من جنس الأعمال المعروضة على الأرض والحوائط (من دون قداسة) وعندما يتجاوز عدد الزوار عشرة أفراد أتحرك نحو الباب وأغلقه وأبدأ في أداء الشق الدرامي من العمل، مع كسر الإيهام بشكل مستمر بفتح الباب لدخول متفرج أو رفض خروج متفرج أثناء العرض. وفى نهاية العرض كان التطور الدرامي يؤدى إلى تمزيق اللوحة التي أنجزتها أمام الجمهور. (لحظة مؤلمة للجميع) لكنها كاشفة لحجم الزيف الإبداعي الذي نمارسه.

(كتابات) من الفنانون المفضلون بالنسبة لك وهل تأثرت بأحد؟

  • كانت قناعتي دوما أن الفنان صاحب رؤية يقذفها في وجه الكون من دون شروط مسبقة. دوما كنت منشغل بتصدير فكرة أو مفهوم أو تصويب مسار إنساني حاد عن النسق. لم استوعب يوما أن هناك فعل بلا مضمون. كنت أعي أن هناك جهل بالمضمون للكثير من الأفعال. هذا الجهل واحد من أمراض الحداثة في شيخوختها.

اشتم دائما رائحة الحريق، لكن البحث عن مصدر الدخان جد صعب فما بالك بمعرفة مكمن النار. لقد أصيب مشروع الحداثة خاصة فيما هو فني (بمرض الصدفية) عدد لا حصر له من النسخ الممسوخة للأفكار والقوالب والمفاهيم والتي لا تتبدل أو تتغير بتغير البيئة والأشخاص فتفقد الكثير من دلالاتها الأصلية.

إن تأثير الأنماط الإنتاجية والاستهلاكية على سلوك الإنسان المعاصر كان له دور سلبي على المنتج الثقافي. ذات يوم دخلت معرض للراحل الكبير “حامد ندى” واستفزني كثيرا عدم إحساسي بالدهشة التي استمتعت بها في معرضه السابق. فكتبت له: أن أسوأ ما شاهدته في معرض “حامد ندا” هو أن الأعمال المعروضة ل”حامد ندا”. طبعا ربما خانني التعبير لكنى دائما كنت أتوسم القفز على حاله الإبداع البصري وأرفض التمترس خلفها. وهو ما يحدث دائما عند السواد الأعظم من المشتغلين بالفن..

لو استعرضنا أعمالي خلال الثلاثون عاما الماضية، لن نجد رابط واضح بين الأساليب والقوالب المتبعة، ولن نجد تأثر باتجاه فني أو الوقوع تحت تأثير فنان. فقط المفهوم والرسالة والتفرد بغض النظر عن القيمة، التي لا أملك أن أتحدث عنها.

دائما كانت أعمال الفنانين محل دراسة بالنسبة لي، وكنت بارع في فك شفرة الأداء التقني للفنان، لذلك ذكرت كثيرا أنى كنت شديد الاستفادة من الدكتور (النشار والوشاحى والجبيلى والرزاز) مع حفظ الألقاب.

وكان “الوشاحى” منبهر دوما بجهلي بالمعلومة فأجده في كل لقاء بيننا يحدثني عن نظرية في الإبداع أو تجربة شاهدها عبر رحلاته، أو يضع يدي على مكمن القوة في أعمالي أو نقطة ضعف..

في مصر لا يمارس المواطن الدور الذي يختاره، بل يمارس الدور الذي تختاره له الظروف، والمجانين فقط هم الذين يخرجون عن النص ويفعلون ما يشاءون. في جيلي نوابغ انتهت حياتهم بالمرض والعزلة والموت. وآخرين تقوقعوا محاصرين انكساراتهم.

كيف تكون مبدعا مستقلا في سياق حداثي لم يعد فيه الاستقلال إلا وهما بين سطور كتابات المنظرين؟ نعم، ذكر لي صديق أن يساري وقيادة كبيرة في حركه اليسار المصري، كان ينصحه ويحفزه على ممارسه عمل يدوى بسيط، يملك به قوت يومه.

استعيد هنا معرفتي المتراكمة عن تجربتي فقد كان الإبداع الفني دوما حكايتي الخاصة، مبادرة ذاتية بجدارة منذ البداية. كان الهدف هو التحليق من دون احتيال أو اختيال، هذا الطفل الذي منحه الأستاذ صابر (ورقة A4من حقيبته) من دون الأربعين تلميذا، الذين أرهقوني بتفوقهم في حفظ النصوص وحل المسائل الرياضية وهندام ملابسهم وحقائبهم المليئة أحيانا بالكراريس ذات الجلاد الملون. نعم الإبداع الفني يعنى أنى أنا المختلف مع الآخر، كنت دوما امقت التكرار وأؤمن أن المبدع قادر دوما على تغير جلده بحسب موضعه لخدمة المفهوم، عن الآخر بدل مع الآخر.

(كتابات) ما تقييمك لحال الثقافة في مصر في الوقت الحالي وما هو مكان الفن التشكيلي فيها؟

  • في مصر كما في أرجاء المعمورة، سيطرت العولمة بجشعها وتوحشها الاقتصادي على كل ما هو علمي وفكري وفني، لا أحد خارج المصيدة، فقط عندما يكون المجتمع أكثر فقرا وتخلفا تكون الأزمة العالمية التي يعانيها الإنسان أكثر وطأة.

أتصور أنني عضو فاعل في تيار يحاول أن يتعرف على ملامحه وينسج منظومة قيمه بعيدا عن الأمراض المزمنة التي عانت منها البشرية، إن الخروج من مأزق أزمة الحداثة في الاقتصاد والسياسة والعلم والإبداع الفني، لا يعنى القفز عليها أو الارتداد لسلوك إنساني كانت الحداثة ذات يوم حل لأزماته.

الآن نحن في ملعب مفتوح على التاريخ والجغرافيا معاـ وقضيتنا الإنسان. في مصر حال الإبداع الفني كغيره، هنا أطباء ملائكة وآخرون تجار أعضاء بشرية، وسياسيون منافقون وآخرون خلف القضبان، وتجار وطنية وتجار دين ودراويش وعملاء للأمن، ودائما ما يحدث التطابق الجيني بين الإنسان وسلوكه المهني.

في مصر السياسة في مأزق، ووجهها الثقافي يشاركها المحنة، فلا يمكن الفصل في تقديري بين السياسي والثقافي أو بين الفني واليومي، حقيقة صدق صديقي حين قال أن الإبداع الفني لا يتحمل الهرج اليومي ولا غلاسة السياسة. لكنه عبئي الذي اعتدت على رفعه من وقت لآخر، دون كلل. أقدر وأثمن ما أقدمه من إبداع فني ولا يشغلنى كثيرا محاولات إقصائي بالتجاهل، فسوق الفن في مصر لا يختلف كثيرا عن سوق العقارات أو العملة أو أية سلعة يتم تداولها، يشوبه الزيف والمحسوبية والسمسرة والتعتيم على الآخر. الجديد القديم في تجربتي هو التحرر من المتحفية و السلعنة للمنتج الفني.

في المعرض الأخير قدمت الأعمال في صورتها الموضوعية، لم ألتفت كثيرا لذوق الزبون، الذي ينشغل دوما بكميه الحزق في ممارسة الفن. أعمال من لونين الأحمر والأسود على سطح الجرنال المكتظ بالعناوين. أدرك حجم الجرأة وحجم المغامرة وقدر كبير من احترامي للمفهوم.

أعي تماما أن الآخر لديه من الوعي ما يمكنه من الاستيعاب وأعي أيضا أنه يفتقد الحوافز التي تمكنه من التفاعل والتعاطي مع الأعمال. إن المصيدة التي نحاول جاهدين الفرار منها تملك الكثير من المغريات التي تجعل البعض يستمريء الاستمرار في الركون إليها.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة