خاص: قراءة- سماح عادل
كتاب “قصة الحضارة” كتاب موسوعي تاريخي من تأليف الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، يتكون من أحد عشر جزء يتناول قصة جميع الحضارات البشرية منذ بدايتها وحتى القرن التاسع عشر ويتسم بالموضوعية، وبالمنهج العلمي.
فهو موسوعة في فلسفة التاريخ، قضى مؤلفها عشرات السنين في إعدادها، فقرأ لذلك عشرات المؤلفات وطاف بجميع أرجاء العالم من شرقه إلى غربه أكثر من مرة. وقد كان يعتزم في بادئ الأمر أن تكون هذه السلسلة في خمسة مجلدات، ولكن البحث تشعب والمادة كثرت فزادها إلى سبعة، ثم تجاوزت هذا العدد الذي قدره لها أخيراً فقررها في 11 مجلد. استمر في كتابته على مدار 40 عاما من عام 1935 حتى عام 1975فالمجلد الأول يبحث في أسس الحضارة ومصادرها ثم ينتقل بعدئذ إلى وصف حضارات الشرق الأوسط والأدنى وقد طبع هذا المجلد بالعربية في خمسة أجزاء كبيرة.
الجزء الأول: في أسس الحضارة ونشأتها.
الجزء الثاني: في حضارة الشرق الأوسط من مصر حتى بلاد إيران.
الجزء الثالث: في حضارة الهند وجيرانها من بداية تاريخها إلى الوقت الحاضر.
الجزء الرابع: في حضارة الصين من أقدم الأزمنة إلى وقتنا هذا.
الجزء الخامس: في حضارة اليابان من بدايتها إلى العصر الحديث.
والمجلد الثاني: في حضارة اليونان وقد صدر بالعربية في ثلاثة أجزاء.
الاعتراف بأهمية الحضارات الشرقية..
يقول الدكتور “محيي الدين صابر” المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، في مقدمة الترجمة العربية للكتاب الضخم: ” كتاب قصة الحضارة لمؤلفه وول ديورانت هذا الكتاب الجليل، يعتبر من الكتب القليلة التي أنصفت الحضارة العربية الإسلامية. فلقد اتسم كاتبه وول ديورانت بالروح الموضوعية، وبالمنهج العلمي، وبالالتزام الخلقي؛ وهو من الكتاب الغربيين القليلين الذين اعترفوا بفضل الحضارات الشرقية، وتأثيرها الكبير في الحضارة اليونانية واللاتينية، اللتين يعتبرهما المؤرخون، بداية الحضارة الإنسانية؛ وأن الإنسان، إنما خلق مع الحضارة اليونانية. وأهملوا كل تلك الروائع الفكرية في الفلسفة وفي الهندسة والعمارة وفي الطب وفي الصناعة وفي القانون والإدارة والاقتصاد، وفي الفنون”.
ويواصل عن قيمة الكتاب العلمية ” كان لهذا الكتاب أهميته العلمية والتاريخية. إلا أن هذا الكتاب، من حيث تصوره ومنهجه، جديد في تناول التاريخ، كحركة متصلة، ويقدمه، في صورة تأليفية متكاملة، بما يعين على فهم فكري واضح لمسيرة التاريخ وللمعالم الحضارية ولمراحلها، جغرافياً وموضوعياً. فقد وصف التراث البشري، على هذا الأساس، في خمس مناطق، وبدأ أولاً بالتراث الشرقي، الذي ضم حضارات مصر والشرق الأدنى حتى وفاة الإسكندر، وفي الهند والصين واليابان إلى العهد الحاضر، ثم بالتراث الكلاسيكي، وهو يشمل تاريخ الحضارة في اليونان، وروما، وفي الشرق الأدنى الذي كان تحت السيادتين اليونانية والرومانية على التوالي، ثم عرض للتراث الوسيط، فذكر حضارة أوروبا الكاثوليكية والبروتستانتية، والإقطاعية، والحضارة البيزنطية، والحضارة الإسلامية واليهودية في آسيا وأفريقيا وإسبانيا، انتهاءً بالنهضة الإيطالية. ثم استعرض التاريخ الأوروبي، متمثلاً في التاريخ الحضاري للدول الأوروبية، منذ الإصلاح البروتستانتي إلى الثورة الفرنسية؛ وانتهى عرضه بالتراث الحديث الذي تناول تاريخ الاختراعات المادية والفكرية، بما في ذلك السياسة والعلوم والفلسفة والدين والأخلاق والأدب والفنون في أوروبا، منذ تولى نابليون الحكم إلى العصر الحاضر”.
وعن الترجمة العربية لهذه الموسوعة يوضح: “ولقد استعان المؤلف في كتابته عن الحضارة العربية، بما تيسر له من المراجع المترجمة إلى اللغات الأوروبية، وهي مع قلتها، لا تسلم من الآفات، سواء من حيث اختيار تلك المراجع أو من حيث مستوى الترجمة التي تختلف من يد إلى يد، ضيقاً، سعة، دقة وتصرفاً؛ ولقد كان حسن رأيه في هذه الحضارة، وسلامة اتجاهه نحوها، في كل حين، عصمة له من الآراء المألوفة التي يرددها الكاتبون في هذا المجال…
ولقد ألقى هذا الوضع مسؤولية كبيرة، على المترجمين العرب، الذين هم، في الوقت نفسه، من كبار الأساتذة والمثقفين، فعمدوا إلى مراجعة النصوص وتوثيقها، وإلى ردها إلى أصولها، كما تصدوا بالتصحيح، لكل ما يبعد عن الحقيقة، فلم يكن هذا العمل في جوهره ترجمة من لغة إلى لغة فحسب، ولكنه كان عملاً فكرياً مستقلاً، وتعاملاً بصيراً مع المادة تصحيحاً وتوضيحاً. ويكفي أن يكون بين هؤلاء الأستاذ الكبير الدكتور زكي نجيب محمود الفيلسوف العربي، والأستاذ محمد بدران، والدكتور عبد الحميد يونس، والأستاذ علي أدهم، والأستاذ فؤاد أندوراس، من أعلام الثقافة، الذين أدوا خدمة جليلة للفكر العربي، في تواصله مع الفكر العالمي.
فلقد بدأ المشروع، في الإدارة الثقافية في الأمانة العامة في الجامعة العربية مثل كثير من المشروعات الثقافية والتربوية، إلى أن قامت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في عام 1970، فآلت إليها، كل الأجهزة الثقافية في الجامعة العربية، وفي مقدمتها، الإدارة الثقافية، وانتقلت بذلك التزامات الإدارة الثقافية، ونشاطها، إلى المنظمة التي واصلت تمويل هذا المشروع والإنفاق على ترجمته. وقد صدر الكتاب في القاهرة، عن لجنة التأليف والترجمة والنشر التي يتوجه إليها الشكر في هذا المقام، في طبعتها الأولى (1965)، وقد صدر منها لغاية الآن اثنان وأربعون جزءاً. وتقوم دار الجيل حالياً بطبعها في بيروت في واحد وعشرين مجلداً بالاتفاق مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم… “.
تاريخ المدنية..
ويقول مؤلف الكتاب “ول ديورانت” في مقدمته في مارس 1935: “حاولت في هذا الكتاب أن أنجز الجزء الأول من مهمة تبعث السرور في نفسي، كلفت بها نفسي منذ عشرين عاماً تقريباً تكليفاً دفعني إليه التهور، وهي أن أكتب تاريخاً للمدنيّة، أردت فيه أن أروي أكثر ما يمكن من النبأ في أقل ما يمكن من الصفحات، بحيث أقصّ في روايتي ما أدته العبقرية وما أداه دأب العاملين في ازدياد تراث الإنسانية الثقافي- وأن تكون قصتي مصحوبة بتأملاتي في العلل ووصف الخصائص وما ترتب من نتائج لما أصابه الاختراع من خطوات التقدم، ولأنواع النظم الاقتصادية، وللتجارب في ألوان الحكم، وما تعلقت به العقيدة الدينية من آمال، وما اعتور أخلاق الناس ومواضعاتهم من تغيرات، وما في الآداب من روائع، وما أصابه العلم من رُقى، وما أنتجته الفلسفة من حكمة، وما أبدعه الفن من آيات، ولست بحاجة إلى من يذكرني بأن هذا المشروع ضرب من الخبل، ولا إلى من يذكرني بأن مجرد تصور مثل هذا المشروع إمعان في غرور المرء بنفسه؛ فلقد بينت في جلاء أنه ليس في مستطاع عقل واحد أو حياة واحدة أن تقوم بهذه المهمة على الوجه الأوفى، ورغم ذلك كله، فقد خيلّت لي الأحلام بأنه على الرغم من الأخطاء الكثيرة التي ليس عنها محيص في هذا المشروع، فقد يكون نافعاً بعض النفع لأولئك الذين يرغمهم ميلهم الفلسفي على محاولتهم أن يروا الأشياء في كلُ واحد”.
ويوضح رأيه في الكتب التي تناولت التاريخ: ” لقد أحسست منذ زمن طويل بأن طريقتنا المعتادة في كتابة التاريخ مجزءاً أقساماً منفصلاً بعضها عن بعض، يتناول كل قسم ناحية واحدة من نواحي الحياة فتاريخ اقتصادي، وتاريخ سياسي، وتاريخ ديني، وتاريخ للفلسفة، وتاريخ للأدب، وتاريخ العلوم، وتاريخ الموسيقى، وتاريخ للفن – أحسست أن هذه الطريقة فيها إجحاف بما في الحياة الإنسانية من وحدة، وأن التاريخ يجب أن يكتب عن كل هذه الجوانب مجتمعة، كما يكتب عن كل منها منفرداً، وأن يكتب على نحو تركيبي كما يكتب على نحو تحليلي، وأن علم تدوين التاريخ في صورته المثلى لابد أن يهدف- في كل فترة من فترات الزمن إلى تصوير مجموعة عناصر ثقافة الأمة مشتبكة بما فيها من مؤسسات ومغامرات وأساليب عيش؛ لكن تراكم المعرفة قد شطر التاريخ- كما فعل بالعلم- إلى نواحي اختصاص تعد بالمئات، وجفل العلماء الحكماء من محاولة تصور الكل في صورة واحدة- سواء في ذلك العالم المادي أو ماضي البشرية الحي، ذلك لأن احتمال الخطأ يزيد كلما اتسع نطاق المشروع الذي يأخذه الإنسان على نفسه؛ وإن رجلاً كائناً من كان يبيع نفسه في سبيل تكوين صورة مركبة تشمل الكلَّ جملة واحدة، لابد أن يكون هدفاً يبعث على الأسى، لما يصيبه من ألوف السهام التي يوجهها نقد الأخصائيين إليه. فتصيبه غير عابثة بجهده؛ لقد قال فتاح حوتنب منذ خمسة آلاف عام: “أنظر كيف يمكن أن تتعرض لمناوأة الخبراء في المجلس؛ إنه لمن الحمق أن تتحدث في كل ضروب المعرفة”؛ إن تاريخاً يكتب للمدنية لشبيه بجرأته بالمحاولات الفلسفية كلها: وذلك أنه يعرض علينا صورة تبعث على السخرية لجزء يشرح الكل الذي هو جزء منه؛ ومثل هذه المغامرة لا تستند على سند من العقل، كما هي الحال في الفلسفة، وهي مغامرة أحسن ما تكون حالا أن تكون حماقة جريئة؛ لكن ليكن أملنا أن تصيب ما تصيبه الفلسفة من توفيق فتستطيع دائماً أن تجذب إليها طائفة من النفوس المغامرة فتغوص في أعماقها المميتة”.
مؤكدا على أهمية التكامل بين الحضارات: “إن قصتنا تبدأ بالشرق، لا لأن آسيا كانت مسرحاً لأقدم مدنيّة معروفة لنا فحسب، بل كذلك لأن تلك المدنيات كونت البطانة والأساس للثقافة اليونانية والرومانية التي ظن “سير هنري مين” خطأ أنها المصدر الوحيد الذي استقى منه العقل الحديث، فسيدهشنا أن نعلم كم مخترعاً من ألزم مخترعاتنا لحياتنا، وكم من نظامنا الاقتصادي والسياسي ومما لدينا من علوم وآداب، وما لنا من فلسفة ودين، يرتدُّ إلى مصر والشرق، وفي هذه اللحظة التاريخية – حيث تسرع السيادة الأوربية نحو الانهيار، وحيث تنتعش آسيا مما يبعث فيها الحياة، وحيث الاتجاه كله في القرن العشرين يبدو كأنما هو صراع شامل بين الشرق والغرب – في هذه اللحظة نرى أن التعصب الإقليمي الذي ساد كتابتنا التقليدية للتاريخ، التي تبدأ رواية التاريخ من اليونان وتلخص آسيا كلها في سطر واحد، لم يعد مجرد غلطة علمية، بل ربما كان إخفاقاً ذريعاً في تصوير الواقع ونقصاً فاضحاً في ذكائنا، إن المستقبل يولى وجهه شطر المحيط الهادي، فلابد للعقل أن يتابع خطاه هناك”.
وفي الحلقات القادمة سوف نقوم بقراءة هذا الكتاب الشيق والموسوعي بشيء من التفصيل.. انتظرونا