خاص: قراءة – سماح عادل
نواصل القراءة في كتاب (علم النفس في القرن العشرین.. الجزء الأول) للكاتب “د. بدر الدين عامود”، والذي يعد مرجعا هاما في فهم مصطلح “علم النفس”.
الإدراك الحسي..
شمل التطور العلمي في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القـرن التاسـع عشر، ميدان الفيسيولوجيا. ففي هذه الفترة وجه الكثير مـن العلماء اهتمامهم نحو الجهاز العصبي للتعرف على بنيته ووظائفـه مـستخدمين في ذلك أجهزة وأدوات علمية متقدمة كـالمجهر(الميكروسـكوب) والمبـصار المزدوج (الستيريوسكوب) ووسائل علمية مختلفة، محاولين، في الوقـت ذاتـه، تحسينها وتعديلها.
فالتقدم العلمي في النـصف الأول مـن القـرن التاسع عشر وضع الأجهزة المتطورة في خدمة العلم، ومكن العلماء من معرفـة الجزيئات الدقيقة التي تدخل في تركيب أعضاء الحس.
ولعلّ آراء هيلمهولتز في النشاط الحسي ونظرته إليه كآليـة مـن آليـات تفاعل الكائنات الحية، ولا سيما الإنسان، مع العالم الخارجي تعتبـر الأرضـية التي حملت بذور التغير في بنية الفكر الحيوي التي سرعان ما لاقـت العنايـة اللازمة لنموها وتفتحها في ذلك العصر. فقد أضـحى هـذا التفاعـل محـوراً تركزت حوله دراسة الباحثين لسلوك الإنسان والحيوان في أواسط القرن التاسع عشر.
وقبل هذا التاريخ لم يكن تفسير هذه المـسألة ليتعـدى الأطـر الفيزيائيـة والكيميائية. ومع ظهور كتاب “أصل الأنـواع” لـداروين عـام ١٨٥٩ بـدأت النظرة إليها تتخذ بعداً نوعياً أكثر عمومية وشمولية.
وما قدمه داروين إلى علم النفس يتمثل، باختصار، في مبدأ “البقاء للأصلح
والأقوى” الذي يسري على جميع الأنواع، بما فيها الإنـسان، وتتحـدد –علـى أساسه- أجناسها وفصائلها ومستوياتها في النظام العضوي الـشامل. وبمـا أن مركبات العضوية وسماتها تتطور بفضل قدرتها على التلاؤم، فقد حاول بعـض علماء النفس، فيما بعد، أن يدرسوا السلوك من وجهة نظر ارتقائية باعتباره أداة من أدوات الصراع من أجل البقاء، وعاملاً هاماً من عوامل النشوء والتطور.
ويمكن صياغة موقف هؤلاء العلماء على النحو التالي: إن البيئـة تتطلـب استجابات معينة وسلوكاً محدداً من جانب الكائن الحي. وما دامت هـذه البيئـة متغيرة إلى هذا الحد أو ذاك، فإن على الكائن الحـي –تبعـاً لـذلك- أن يغيـر استجاباته ويعدل سلوكه ليحافظ على توازنه، ويحقق التلاؤم المطلوب. على أن الصفات النفسية التي يتمتع بها هذا الكائن ليست أداته الوحيدة للوصـول إلـى الهدف النهائي. فهناك أداة أخرى ذات نفوذ واسع في توجيه سلوكه واستجاباته.
وهذه الأداة هي الغريزة. وبالنظر إلى ما تكتسبه دراسة هذا الجانـب مـن أهمية على الصعيدين: النفسي والعضوي، فقد خصص له داروين بابا كاملاً من مؤلفه المذكور. يعرف داروين الغريزة بأنّها قوة عمياء، لا شعورية ولا إرادية. وهي، من حيث نشأتها، ترجع إلى أزمنة تاريخية سحيقة. وبهذا يرد على اعتقاد الـبعض بأن الغريزة تحمل صفات العقل والوعي. وليدلل على صحة رأيه يسوق العديـد من الأمثلة والمعطيات التي تلقي الضوء على البعد التاريخي لتـشكل الغرائـز ووجودها عند الحيوانات والإنسان، مما اعتبر مادة جديدة لنشاط علماء النفس.
وبعد أن فرغ داروين من كتابه الأول “أصل الأنواع” انكـب علـى جمـع الأدلة والشواهد التي تسهم بنصيب وافر في البرهان على صحة نظريته. وقاده الاحتكام إليها ومقارنتها بعضها ببعض إلى الكشف عن الحركات التعبيرية التي ترافق الحالات الانفعالية عند الإنسان والحيوان. وهذا ما بسطه بأسلوب جـذاب في كتابه “أصل الإنسان” الذي نشره عام ١٨٧١ .وخلاصة ما توصل إليه هـو أن التغيرات الخارجية التي تطرأ على العديـد مـن أعـضاء جـسم الإنـسان والحيوان، كحركات اليدين وتقلص عضلات الوجه وانبساطها واستدارة العينين وجحوظهما والتكشير عن الأسنان… الخ ذات مغزى عميق بالنسبة للتكيف مـع الظروف البيئية المستجدة.
دراسة الشخصية والفروق الفردية..
من الموضوعات التي تناولها العلماء خلال القرن التاسع عشر تلـك التـي تتعلق بالصفات الجسمية والنفسية ودرجات تفاوتها عند البشر. فاختلاف النـاس في طول القامة ولون الشعر والعينين والبشرة وحجم الجمجمـة وغيرهـا مـن الخصائص الجسمية، وكذا تباينهم من حيث القدرات العقلية والدوافع والعواطف والإرادة وسواها من السمات النفسية استرعيا نظر الإنسان منـذ القـديم. ومـع التطور خلال القرنين الماضيين على وجه التحديد أصبح هذا الاخـتلاف وذاك التباين بين الناس في أجسامهم ونفوسهم من المسائل الملحة التي تتوقف جملـة من الإجراءات والتدابير في الميادين المذكورة على حلها.
ويعتبر غالتون أحـد الرواد الذين سعوا إلى إيجاد معايير موضوعية تكون صالحة لتقـويم إمكانـات الفرد وقدراته النفسية.
وتمثل الفيزيونوميا (علم الفراسة) التي ظهرت في ألمانيا وفرنـسا خـلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر أولى هذه المحاولات. فلقد أكد أصـحاب هذه النزعة على وجود علاقة وثيقة بين ملامح وجه الإنسان وسلوكه. وهذا مـا عبر عنه لافاتير أحد مؤسسي الفيزيونوميا من خلال إرجاعه بعـض صـفات الشخصية إلى شكل الأنف وحجمه. فصاحب الأنف المستقيم والمعتدل يميل، في رأيه، إلى الدعة وحب الآخرين. بينما يتسم صاحب الأنف المدبب والمعقـوف بالقسوة والعدوانية.
نشر غالتون مجموعة من الكتب والمقالات بدأها بــ “عبقريـة الوراثـة” ١٨٦٩ الذي خصصه لعرض أهم أفكاره وأسس نظريتـه. وجـاءت أعمالـه اللاحقة، ولا سيما “رجال العلم الإنكليـز”١٨٧٤ و “مباحـث ملكـة الإنـسان وتطويرها” ١٨٨٣ توضيحاً لهذه الأفكار وترسيخاً لتلك الأسس.
يؤكد غالتون أن الفروق الفردية في الذكاء العام والقدرات المعرفيـة بـين الناس تشكل سلماً ذا درجات متعددة. ويرجع توزع الناس حسب ذكـائهم علـى درجات هذا السلم إلى عامل الوراثة. ولكي يبرهن على صحة هذه الفرضية قام بجمع كمية ضخمة من البيانات المتعلقة بتاريخ العائلات المشهورة في بريطانيا.
وقد قادته معاينته لتلك البيانات إلى نتيجة مفادها أن الوراثة تلعب الدور الحاسـم في تعيين مكونات العبقرية. وعلى هذا الأساس يقرر أن الآباء الأذكياء ينجبـون أبناء أذكياء، وأنه لا مجال للحديث عن أي دور للبيئة أو المصادفة فـي وجـود أطفال أذكياء ينحدرون من أسر عادية أو ضعيفة الذكاء. فالوراثـة هـي التـي تقرر مصائر البشر ومستقبلهم.
وإلى جانب ذلك أخضع غالتون العديد من الـصفات الجـسمية والنفـسية للدراسة التجريبية المقارنة (حدة السمع والبـصر، سـرعة الاسـتجابة، التـذكرالصوري، الارتباط الحسي، طول القامة، وزن الجسم.. الخ)، مستخدماً في ذلك طريقة الروائز. وقد فسر وجود هذه الصفات التي تحدد –كما يقـول- طبيعـة السلوك في ضوء قانون الوراثة. كما مكنه التطبيق المتقـدم لـبعض المفـاهيم والقوانين الرياضية لدى تحليله للمعطيات من الكشف عن العلاقات الارتباطيـة بين الظواهر المدروسة. وقاده ذلك كله إلى الحكم بوجود تنظيم جسمي ونفـسي خاص بالفرد يجعله متميزاً عن غيره من الناس.
ومع الإشارة إلى التقريرية التي طبعت أفكار غـالتون بالطـابع الطبقـي والعنصري بهدف تكريس الواقع الاجتماعي، فقد كان لبحوثه وأساليبه المبتكـرة دور لا يستهان به في ظهور عدد من ميادين علم النفس وتطور الدراسات فيها.
دراسة الظواهر النفسية المرضية..
ظل الاعتقاد بأن الأرواح الشريرة والشياطين هي علّة كافة الأمراض النفسية والعقلية سـائداً حتى أواخر القرن الثامن عشر. حيث نادى الطبيـب الفرنـسي فيليـب بينيـل عام ١٧٩٣ بضرورة البحث عن أسباب الأمراض الذهانيـة في البنية البيولوجية والفيزيولوجيـة للمـريض، ولـيس فـي القـوى الغيبيـة والميتافيزيائية. وبهذا يكون بينيل أول من فسح المجال أمام الذهان ليأخذ مكانـه ضمن اهتمامات الأطباء وعلماء الفيزيولوجيا وعلماء النفس فيما بعد.
عمل بينيل مديراً لمستشفى بيـسيتر ومستـشفى سـالبتريير للأمراض العقلية أعواماً طويلة. وقد سـاعده ذلـك فـي الوقوف على الكثير من أعراض الجنون، والتمييز بـين العديـد مـن حالاتـه ودرجاته، الأمر الذي حدا به للقيام بمحاولة لتبويبها وتصنيفها بصورة لم يعرف لها مثيل في دقتها وتفصيلاتها وتنظيمها من قبل. وجاء مـن بعـده إسـكيرول ليتابع الطريق الذي شقه أستاذه. ثم عرفـت المستـشفيات والعيـادات الطبيـة الفرنسية على امتداد القرن التاسع عشر طائفة من الأطباء النفسيين والمهتمـين بمشكلات الشذوذ والضعف العقلي.
ويعتبر ايتارد أول من اهتم بضعاف العقل وتربيتهم. وكان لآرائه صـدى إيجابي في الأوساط العلمية في فرنسا وخارجها. وقد تسنى له عـام ١٧٩٨م أن يدرس حالة “طفل الآفيرون المتوحش” الذي عثر عليه صيادون وهو في الثامنـة من العمر تقريباً. ولم يكن هذا الطفل ليعرف طريقه إلى المجتمع الإنساني قبـل ذلك. وعاش سني حياته في حالة شبيهة بالحيوانية. وأول ما لاحظه ايتارد على هذا الطفل هو تخلفه العقلي الشديد. فراح يعمل بكثير من التفاؤل والأمل طيلـة خمسة أعوام متتالية لتعويضه ما فاته أو فقده. ولكن النتـائج كانـت متواضـعة للغاية ومخيبة للتفاؤل والأمل اللذين كانا يلازمانه طيلة سنوات عمله، فلم تظهر لدى الصبي أية قدرات ولم يتعلم شيئاً باستثناء اكتسابه لبعض المهـارات التـي تعينه في التلاؤم مع بيئته الجديدة.
انتقل الاهتمام بتربية ضعاف العقل إلى طبيب فرنسي آخر هو أ. سـيغان الذي كان تلميذاً لايتارد. وربما تكون قصة طفل الآفيـرون وراء تلك الرغبة والميل اللذين كان سيغان يبديهما لمعرفة الأسباب التي تكمـن وراء الضعف العقلي عند بعض الأفراد.
انطلق سيغان من فرضية مفادها أن التخلف العقلي في مـستوى العتـه لا يحدث نتيجة اختلال أو نقص في الدماغ بقدر ما هو توقف في عمليـة النمـو.
وشرع في البحث عن الأدوات والوسائل التي يتحقق بفضلها من صـحة هـذه الفرضية. فوجد عبر العديد من الدراسات أن الإدراك الحـسي يؤلـف حجـر الزاوية في تدارك النقص العقلي عند الأطفال. ولذا حرص علـى أن تـستجيب وسائله وأدواته لمتطلبات تدريب أعضاء الحس عند المعتوهين.
لم يقتصر نشاط العلماء الفرنسيين على هذا الجانب من الحيـاة النفـسية، وإنما شمل مختلف الاضطرابات والانحرافات السلوكية لدى الإنسان. والحقيقـة التي يجمع عليها معظم مؤرخي علم النفس هي أن علم النفس المرضـي مـدين بنشأته وتطوره للفيلسوف الفرنسي تيودول ريبو.
وجه ريبو اهتمامه، بادئ ذي بدء، نحو واقع الدراسات النفـسية ومـستقبل علم النفس وعلاقته بالفلسفة والفيزيولوجيا والطب وغيرها من العلوم. وكـرس عدداً من مؤلفاته الأولى لعرض آرائه في هذا الصدد. ومن أهم هذه المؤلفـات “علم النفس الإنكليزي المعاصر”١٨٧٠ و “علم الـنفس الألمـاني المعاصـر” (١٨٧٩ . ولكنه تحول فيما بعد إلـى دراسـة الحـالات النفـسية المرضـية كالعواطف والإرادة والانفعالات، وبعض العمليات المعرفية كالذاكرة. وخصص لكل منها كتاباً من مثل “أمراض الذاكرة”١٨٨١ و “أمـراض الإرادة” ١٨٨٣ و “أمراض الشخصية”١٨٨٥ و “علم نفس العواطف” ١٨٩٦.
يعد جان مارتان شاركو من أبـرز أنـصار الاتجـاه العضوي في تفسير الاضطرابات النفسية، و أحد مؤسـسي علـم الأعـصاب المعاصر. ولقد أولى في العقدين الأخيرين من حياته جـل اهتمامـه بمـرض الهستيريا. وجهد في معالجة المصابين به مستخدماً طريقة التنويم المغناطيـسي.
وهي تمتد بجذورها إلى النصف الثاني من القرن الثـامن عشر، حيث كانت تعرف بالمسمرية نسبة إلى رجل ألماني اسمه فرانز انطـون مسمر. وتعتمد هذه الطريقـة، علـى الاستهواء أو الإيحاء الذي يستطيع الطبيب على أساسه تنويم المـريض تنويمـاً اصطناعياً. وقد ادعى مسمر أن الاضطراب في سلوك الإنسان يحـدث بـسبب خلل في توزيع سائل حيواني مجهول أطلـق عليـه مـصطلح “المغناطيـسية الحيوانية”. وزعم أن طريقته تساعد على إعادة هذا السائل إلى حالته الطبيعيـة.
ومع أن مسمر حقق من خلال عروضه الناجحة بعض النتائج الإيجابيـة علـى صعيد استقطاب الكثير من المعجبين ولفت انتباه لفيف من العلمـاء والبـاحثين نحو ممارساته، إلا أنه أخفق في تقديم تفسير علمي لفرضيته وطريقته: وهذا ما أفقد عمله فيما بعد جاذبيته، وحمل الدوائر العلمية على اتهامه بالدجل والشعوذة.
وإذا كان ضوء التنويم المغناطيسي قد خبا في ألمانيا بوفاة مـسمر، فإنـه وجد بعد ذلك الكثير من الدعاة والأنصار في إنكلترا وفرنسا بشكل خاص. فقـد عمل كلٌ من جيمس ايزويل وجون اليوتسون وجيمس بريد على نشر المسمرية واستخدامها في معالجة الأمراض العـصبية ووسـيلة تخـدير فـي العمليـات الجراحية. وبذل كل منهم جهوداً كبيرة في البحث عن ذلـك التفـسير العلمـي المقنع الذي عجز مسمر عن الوصول إليه.
وتذكر الأدبيـات الـسيكولوجية أن بريد توصل في ختام سلسلة من تطبيقات المسمرية على المرضى والأسـوياء، وشملت،أعضاء أسرته، إلى أن المسمرية هي نـوع مـن النـوم “يحدث عن طريق شل عمل العضلات الرافعة للجفون بسبب النشاط المـستمر خلال الحملقة لفترة طويلة”.
أن التنويم المغناطيسي لم يـتمكن مـن انتزاع اعتراف الأوساط العلمية به، إلا بفضل الجهود التي بذلها شـاركو أحـد أبرز القائلين بضرورة العودة إلى العوامل العضوية لـدى تحليـل الأمـراض الهستيرية ومعالجة المصابين بها. فالاضطرابات العصبية والعضوية تؤدي إلى اختلال السلوك وفقدان التحكم بالأفعال والتصرفات عند الأفراد. وعند استخدامه التنويم المغناطيسي وقف على الكثير من أوجه التشابه بين سلوك المنـوم بهـذه الطريقة الاصطناعية وسلوك المريض بالهستيريا وقادته ملاحظتـه هـذه إلـى الاعتقاد بأن التنويم المغناطيسي ظاهرة مرضية، مثله مثل الهستيريا. فكلاهمـا ينشأ بفعل التغيرات العصبية.