خاص: قراءة- سماح عادل
رواية “من ذاكرة الصور” الصادرة عن دار فضاءات للنشر في عمان، للكاتبة العراقية “صبا مطر” تحكي عن الحرب وأثرها على روح الإنسان، وكيف تهزمه من الداخل حتى وإن مرت وعاش بعدها طويلا، وتحكي عن الهروب من الحرب واغتراب الإنسان الذي يهرب.
الشخصيات..
الرواية ثرية بالشخصيات.
ياسمين: البطلة، تعاني من الألم والإحساس بالاغتراب بعد أن تركت وطنها العراق المشتعل بالحروب، ورغم تنقلها في أماكن كثيرة إلا أنها لا تستطيع أن تتخلص من حنينها إلى الوطن، وشعورها الدائم بالتخاصم مع ذاتها.
ميلاد: صديقة البطلة، عراقية هي أيضا وهاربة أيضا من جحيم الحرب، تفقد أختها ويهرب أخيها وتعاني أمها التي رغم تعرضها للعنف تصر على البقاء في وطنها. و”ميلاد” تعيش أيضا محنة الاغتراب.
تسيمرمان: معلمة البطلة التي تعلمت على يديها اللغة الألمانية حين كانت في ألمانيا، عاشت “تسيمرمان” وحشية الحرب العالمية الثانية حين كانت طفلة وظلت تعاني من آثارها النفسية طوال حياتها، لم تتزوج أو تنجب، وحين تقدم بها العمر تحايلت عليه لتؤخر تقدمه عن طريق استخدام الأحجار الكريمة وطاقتها، لكنها استسلمت في النهاية ليد الزمن التي لا ترحم أحد وماتت بعد أن عاشت في دار للعجزة.
ديفيد: صديق آخر للبطلة، تعلمت على يديه اللغة الألمانية في الدنمارك، يحب الرسم ويتصرف بغرابة ويحب العزلة، كما أنه لم يترك منزله الريفي منذ أن كان طفلا، ستكتشف البطلة أنه ابن أخت السيدة “تسيمرمان” وأن والدته اختارت طريق الهروب فتركت ألمانيا بعد الحرب لتستقر في الدنمارك، وتقطع علاقتها بكل ما له علاقة بالحرب وبوطنها ألمانيا. لكنها ندمت على ذلك خاصة أن علاقتها بأختها تأثرت بذلك الهروب ولم ترها إلا مرات قليلة على مدى سنوات طوال.
إليزابيث: سيدة دنماركية قابلتها البطلة وهي تعيش في الدنمارك، ساعدت البطلة على التماسك ومحاولة فهم ذاتها، كما ساعدتها البطلة “ياسمين” لتتوازن نفسيا أيضا ، لتكتشف في النهاية أنها قتلت زوجها الذي كان يعاملها بعنف وقسوة لكنها ظلت تعاملها كصديقة رغم ذلك الاكتشاف.
الراوي..
الراوي هو البطلة “ياسمين”، التي تحكي عن نفسها بضمير المتكلم، وتحكي عن باقي الشخصيات التي تتقاطع معهم في علاقات صداقة بضمير الغائب، لكنها تترك الحرية لهم للحكي عن أنفسهم من خلال الرسائل، فنجد رسالة من “ميلاد”، ورسالة من “ديفيد”، ورسالة من السيدة “تسيمرمان”، وحتى “إليزابيث” تركت لها حرية الحكي عن ما فعلته بزوجها.
السرد..
الرواية تقع في 262 صفحة من القطع المتوسط، محكمة البناء، تعتمد في الحكي على التقطيع بهدف التشويق، فهي لا تخضع لترتيب زمني، وإنما تحكي البطلة عن أصدقائها بالتناوب، وتقطع الحكي في ذروته لتحكي عن شخصية أخرى لتعود وتكمل الحكي عن الشخصية الأولى. جاءت النهاية بمثابة الخلاص والعثور على بداية جديدة بعد أن تأزمت الأوضاع وشعرت البطلة بالحزن، فكانت بمثابة انفراجة.
الحرب تفسد الروح..
الرواية تحكي عن الصراعات النفسية التي تدور داخل الشخصيات التي تقرر الهرب من جحيم الحرب إلى بلدان أخرى، فرغم أن البطلة تصفهم بالشجاعة والجرأة إلا أنهم يعانون من التوزع النفسي والحنين إلى أوطانهم، يشعرون دوما أن هناك شيء ينقصهم، كما أنهم يجدون صعوبة في التأقلم مع البلد الجديد الذي يعيشون فيه. وبالنسبة للبطلة “ياسمين”، التي كانت كثيرة التنقل بسبب ظروف عمل زوجها، كانت تعاني من ذلك أكثر نتيجة لتنقلها لأماكن عديدة وحنينها الدائم للوطن بذكرياته الجميلة والشعور بالأمان وأيام الطفولة الجميلة. حتى أنها وصلت إلى مرحلة فقدان الإحساس بالمتعة في البلد الذي تعيش فيه، فقدت الإحساس بالروائح والأماكن وجمالها، ورغم أنها استطاعت أن تجد صداقات داخل الأماكن التي عاشت فيها لكن ذلك لم يكن مشبعا لذاتها التائهة.
كما تحكي الرواية عن الحرب وكيف تفسد الروح للذين يعيشون تفاصيلها الوحشية، الذين يرتعبون من أصوات القصف والتدمير والخراب أو يفقدون أحبائهم ويعيشون باقي حياتهم الفقد المر، السيدة “تسيمرمان” خير دليل على ذلك حيث حاولت التخلص من تأثير بشاعة الحرب طوال حياتها، لكن كان شيئا قد خرب داخلها وصعب ترميمه، كذلك أختها التوأم والتي لم ينفعها الهروب من الوطن وذكريات الحرب. “ميلاد” أيضا و”ياسمين” لكن الفرق أنهما كانتا تعانينان من آثار تلك الحرب التي لم تنته ومن آثار الخراب المدمر والمستمر.
تفجيرات وتدمير..
كما تحكي الرواية عن ما يجري في العراق من تدمير وخراب وتفجيرات تطال أرواح المدنيين البريئة، ومنهم من هرب بالفعل لكن غلبه الحنين إلى العراق فرجع إليها ظنا منه أنها تغيرت بعد رحيل الديكتاتور، لكن يتم تفجيرهم مثل “أم هاني” وابنها جارة “ميلاد”. أو من قرر العيش في العراق متمسكا بالوطن رافضا الهروب منه لكنه لم يسلم من العنف والخراب المتفشي، مثل أم “ميلاد” وأختها “مارتا” التي تفجر جسدها وهي تصلي في الكنيسة.
تحكي الرواية معاناة أشخاص آخرين معاناة “ديفيد” الذي أدمن العزلة، واختياره أن يعيش بداية جديدة هربا من نهاية العمر، ومعاناة “إليزابيث” التي حولها الإذلال الذي لاقته على يد زوجها إلى قاتلة، وظلت طوال حياتها تعاني مما فعلته. لكن الرواية أيضا شرحت معاناة الزوج، الذي تعرض هو الآخر لحياة صعبة، أم هاربة تتركه وترحل، وأم مدمن وعنيف، مما خرب حياته وجعله عنيف بدوره.
بداية جديدة..
لكن الرواية تفتح أفقا في النهاية، فدوما هناك بدايات جديدة لتعاش، ومحاولة جادة لترميم ما حدث للروح، ومحاولة التصالح مع الذات.
كما تميزت الرواية أنها رغم أنها صورت اغتراب الإنسان العراقي حين يذهب إلى بلد أخرى، إلا أنها رصدت مدى تفاعل البطلة “ياسمين” مع محيطها الجديد، وكيف أنها أقامت علاقات صداقة وود ومحبة مع أناس من البلدان الجديدة التي عاشت فيها، فلم تقع البطلة أسيرة الحنين فقط وتركز على الحكي عن بلدها العراق، وإنما امتد الحكي لتفاعلها في البلدان الأخرى التي عاشت فيها.
اعتمدت الرواية على لغة عذبة، وعلى تصوير عميق للشخصيات ولصراعاتهم النفسية، وعلى بوح داخلي لما يدور داخل البطلة.
الكاتبة..
“صبا مطر” كاتبة عراقية صدر لها رواية “العين الثالثة”، ومجموعة قصصية “صانعة الأحلام” ورواية “من ذاكرة الصور”.