15 نوفمبر، 2024 6:57 م
Search
Close this search box.

رواية كيف أصبحت غبيا.. عزلة الأذكياء في المجتمع الاستهلاكي 

رواية كيف أصبحت غبيا.. عزلة الأذكياء في المجتمع الاستهلاكي 

خاص: قراءة- سماح عادل

رواية (كيف أصبحت غبيا) للكاتب الفرنسي “مارتن باج” رواية طريفة تتناول نقد للمجتمع الرأسمالي الاستهلاكي في قالب ساخر، ثري بحشد من الأفكار العميقة والقيمة والطريفة في جدتها، وتتميز الرواية بصياغة تلك الأفكار في لغة معبرة .

الشخصيات..

أنطوان: البطل، في الخامسة والعشرين من عمره، رجل كثير التفكير، يتمتع بذكاء ووعي ومعرفة، حاصل على شهادة جامعية في علم الأحياء وكان يعمل محاضرا في إحدى جامعات باريس، يجيد اللغة الآرامية ويترجم بها نصوص عند الحاجة إلى المال، كما أنه مهتم بالسينما، فقير يعيش في “مونتروي” في أطراف باريس، في شقة لا يستطيع دفع إيجارها، وكان ساخطا على نفسه يريد أن يغير شخصيته ويتخلص من التفكير الذي أصبح عبئا عليه.

ليونارد سكير: رجل سكير قابله “أنطوان” حينما فكر في أن يصبح سكيرا، وأشعره “ليونارد” بأن السكر مهمة صعبة تحتاج لدقة ولعمل طويل وجهد ومثابرة.

العم جوزيف وزوجته ميراندا: قريبان ل”أنطوان”، وهما مزعجان، يعانيان من وساوس قهرية تجعلهما يشعران بالمرض دوما، ويجريان عمليات جراحية ثم يشعران بالمرض مرة أخرى ولا يكفان عن الشكوي.

البروفسيرة آسانافيس: سيدة في منتصف العمر تدير مركزا لتعليم الانتحار، تعاني من مرض السرطان لذا سعت إلى الانتحار كوسيلة للتخلص من عذاباتها، وقررت أن تتولى تعليم من يريد الانتحار الطرق النافعة لانتحار ناجح، لجأ إليها “أنطوان” عندما فكر في الانتحار كحل لإنهاء أزمته مع ذكاءه.

آسلي:  صديق “أنطوان” يعاني من اضطربات عقلية نتيجة تعرضه لنسبة كبيرة من الفسفور في إحدى اختبارات شركة “نستلة” لأنه فقير فدفع والده به إلى أن يكون من ضمن الأطفال الذين يتعرضون لاختبارات على منتجات الشركة قبل طرحها للناس، يعمل حارسا في أحد المتاحف تعرف عليه “أنطوان” هناك، عاني في طفولته من مصاعب وكان محتجزا في مؤسسة علاجية حيث ظل صامتا سنوات طويلة، إلى أن عالجته إحدى الطبيبات بالشعر وأصبح لا ينطق إلا من خلال كلام موزون على نمط الشعر، وهو أحد أصدقاء “أنطوان” المقربين.

شارلوت: صديقة “أنطوان”، سحاقية، تريد الإنجاب لكنها لا تسلك الطريق الطبيعي لذلك، وإنما تتعرض كل فترة لتخصيب صناعي، وتذهب إلى عجلة دوارة كبيرة ظنا منها أن تلك الأرجوحة سوف تسهل عملية التخصيب، يرافقها “أنطوان” أثناء ذلك.

غانجا: صديق “أنطوان” في الدراسة، درس معه علم الأحياء يهتم بصحته باستخدام مواد طبيعية.

رودولف: صديق “أنطوان”، يدرس الفلسفة ليصبح أستاذا جامعيا، يختلف في شخصيته عن “أنطوان” حيث أنه يعتمد على يقينه التام بالعالم وبأهدافه.

الدكتور إدغار فابورسكي: طيبب أطفال كان يعالج “أنطوان” منذ كان طفلا ثم أصبحا صديقين، يلجأ إليه “أنطوان” حين يعاني من أي عرض صحي ويثق في إدغار، وهو الذي ساعده على إيقاف التفكير الكثير الذي يعذبه بإعطاءه “أوروزاك” دواء مهدئ مما سمح له بتغيير حياته.

السيد برالير: مالك المنزل الذي يسكن فيه “أنطوان”، أصيب بزهايمر وأصبح ينسى أن “أنطوان” لم يدفع له الإيجار مما سهل على “أنطوان”، ورغم أنه كان مالكا متعجرفا في السابق إلا أن “أنطوان” ساعده عند مرضه وأصبح يرعاه ويذهب معه للعلاج، ويجمع له المال من المستأجرين ويضعه في حسابه الخاص.

رافائيل الثري: صديق ل”أنطوان” منذ أيام الدراسة، من عائلة ثرية،  لديه شركة للسمسرة، حيث كان حلمه أن يقوم بذلك وساعده “أنطوان” على اتخاذ القرار، لجأ إليه “أنطوان” حينما نفذ منه المال وقد ساعده “رافي” وأوجد له عملا في شركته، وقد غير ذلك حياته كليا، ورافي يمثل الرجل الغني الجشع الاستهلاكي، الذي يخون زوجته، ويدافع عن المتعة والرغبة وانفصالها عن الحب، كما أنه يحكم على النساء من خلال مظهرهن الخارجي وجمالهن الجسدي غير عابئا بذكائهن ولا شخصيتهن.

داني بريان: مغني شهير، سيتخيل “أنطوان” أن شبحه قد ظهر له كملاك حارس لينصحه بتغيير حياته البائسة.

كليمانس: ستظهر في آخر الرواية، فتاة لطيفة، في عمر “أنطوان” تقريبا، ستظهر له بشكل مفاجي أثناء تجوله في الحديقة، وتتعرف عليه بطريقة لافتة وتصبح هي نهايته السعيدة.

الراوي..

الراوي هو البطل “أنطوان”، الذي يحكي عن نفسه وعن أصدقاءه وعن الشخصيات التي يقابلها، ويحكي من خلال وجهة نظره ورؤيته لباقي الشخصيات، ويسمح الكاتب بالحوار القليل ليترك للشخصيات حرية التعبير عن نفسها، لكن مع “كليمانس” يترك لها مساحة أكبر للحوار.

السرد..

الرواية محكمة، تدور في حوالي 160 صفحة من القطع المتوسط، ورغم ذلك فهي مليئة بالأحداث وبالشخصيات الحية، تعتمد على لغة ساخرة بارعة ولا تقدم الأفكار بشكل مباشر، وإنما من خلال أحداث متصاعدة ومن خلال الراوي الذي يقدمها في قالب ساخر تبعا لتغير أحواله النفسية والعقلية، تعتمد في النهاية على تشويق أقرب إلى الأفلام الأمريكية إلا أنها تظل على مسارها في انتقاد المجتمع الاستهلاكي وتقديم كل الحجج والبراهين على ذلك.

الاندماج في المجتمع الاستهلاكي غباء.

من البداية يقابلنا البطل “أنطوان” الذي يعاني من شيخوخة عقلية رغم أنه في سن الخامسة والعشرين، والذي يعاني من إحباط ويأس بسبب دوران الأفكار المتسارع في عقله، فهو يعاني من التفكير المتواصل الذي يحرمه حتى من الأحلام أثناء النوم، هذا التفكير الذي يجعله يدقق في كل الأمور ويحلل كل شيء ويطرح أسئلة كثيرة وتفصيلية عن أي شيء يقابله في حياته، هذا التفكير والسعي نحو المعرفة وتنمية وعيه كان وبالا عليه منذ الصغر، حيث أصبح منبوذا اجتماعيا في المدرسة ووسط الناس، ورغم أن من يعرفه يستطيع بسهولة وصفه بالذكي إلا أنه يكره ذكاءه هذا، يود التخلص منه.

يبدأ أولا في التفكير بأن يصبح سكيرا لأن الخمر تغيب الوعي وستخلصه من ذكاءه، يذهب إلى إحدى الحانات ويتحدث مع أحد السكيرين الذي يقرر مساعدته في أن يصبح سكيرا، لكنه يفشل لأنه لم يتحمل نسبة كحول ضئيلة وتسمم دمه، ويودعوه المستشفى حيث يقابل إحدى الفتيات التي حاولت الانتحار مرات عديدة لكنها فشلت، لتضيء في عقله فكرة جديدة للخلاص وهي الانتحار، وتعطيه رقم مركز يساعد الناس على الانتحار، يذهب إلى هناك بعد التعافي ويتعرف على طرق ناجحة في الانتحار، لكنه يكتشف أنه لا يريد أن يموت، فيفكر في حل آخر وهو أن يصبح غبيا، ويعرض على أصدقاءه المقربين الأربعة (شارلوت وآسلى وغانجا ورودوف) ذلك الحل لكنهم يقلقون عليه، ويذهب لاستشاره طبيبه “إدغار” الذي يعطيه دواء مهدئا وينصحه بمقابلة طبيب نفسي.

لكن “أنطوان” يسعى إلى التغيير وحده، يستعين بتأثير الدواء الذي يهدئ عقله، يتخلى عن نمط حياته الذي يعتمد على موقفه الواعي، حين كان لا يهتم بهندامه ويرتدي ملابس بالية يشتريها من محل لبيع الملابس القديمة، وذلك لكي لا يشتري ملابس استغلت فيها الشركات متعددة الجنسيات الأطفال من بلدان العالم الثالث في صنعها، وحين كان يرفض الشراء من “نايك” والماركات العالمية المعروفة للملابس والأحذية بسبب استغلالها للناس، وحين كان يرفض ارتياد “ماكدونالز” الذي يمثل في وجهة نظره الامبريالية الرأسمالية، التي تطبع الجميع بطابعها وتكرس صورة واحدة نمطية لاستهلاك الطعام، فقد اشترى ملابس من ماركات معروفة ليبدو مقبولا للمجتمع الذي ينتوي الاندماج فيه، غير عابئا باستغلال الأطفال، وذهب لتناول شطيرة برجر من مطعم “ماكدونالز” وشرائح بطاطس مقلية وكوكاكولا، متمثلا مع صورة ذكر غربي يعتمد في معيشته على استغلال شعوب العالم الثلاث، مقررا أن الغباء بالنسبة له مخرجه ليعيش سعيدا ويندمج وسط المجتمع الذي انعزل عنه في السابق وكان يعيش على هامشه، مؤكدا أن السعادة هي التخلص من التعاطف مع هموم الآخرين ومآسيهم، والتخلص من الإحساس بالذنب تجاه عبثية العالم وحروبه وتطوره الهائل الذي يخلف كوارث على صحة الناس وحياتهم الاجتماعية، وأنه لكي يكون سعيدا يجب أن يتمتع بالحياة وتفاصيلها دون تفكير، واستقال من عمله في الجامعة حتى يبتعد تماما عن التفكير، لكن أمواله الكثيرة نفذت وأصبح عاطلا ومعدما، وحينها فكر في اللجوء إلى صديقه “رافي” الغني.

الانسلاخ عن الذات..

يساعده “رافي” ويوظفه في شركته كسمسار للأوراق المالية ويستطيع “أنطوان” أن يعمل في تلك الوظيفة ويصبح ثريا، ويبدأ نمط حياته يتغير نحو الاندماج الكامل في المجتمع الاستهلاكي، واستكمالا للسخرية التي هي طابع الرواية” يسكب “أنطوان” كوب القهوة على حاسوبه فتستمر العمليات الحسابية ويصبح بالمصادفة ثريا جدا، حيث يحصل على عمولة كبيرة، وحين يصبح كذلك يقرر أن المال ليست هو الثراء، وإنما التصرف كثري أمام الناس هو ما يعطي للثراء متعته، وبالفعل يشتري سيارة وشقة وملابس فاخرة وكل تلك الأشياء التي يشتريها الأثرياء، ويبتعد عن أصدقاءه القدامى تماما، ويندمج تماما مع أفراد مجتمعه الجديد، يخرج معهم ويختلط بهم يساعده في ذلك دواءه المهدئ، الذي يوقف التفكير ويكبح ظهور شخصيته وذاته الحقيقية.

وفي إحدى المرات يعرض عليه “رافي” إيجاد امرأة عن طريق مؤسسة مخصصة لتوفير شريك، ويقابل امرأة في الأربعين من عمرها تحدثه عن أن الحب أصبح خاضعا للقوانين الاستهلاكية للمجتمع، وأنه يعتمد على ما يمتلك المرء لا على ما هو عليه بالفعل، وعلى مظهره الخارجي ومدى ملاءمته للمواصفات النموذجية للرجل أو للمرأة، من وسامة وجمال وجسم رياضي وما إلى ذلك.

ثم تنعطف الرواية نحو جو فانتازيا يشبه جو الأفلام الأمريكية، فيقابل “أنطوان” شبح لمغني شهير ويقول له أنه ملاكه الحارس وجاء لينقذه من حياته البائسة التي لا يشعر فيها بالسعادة، ويسعى أصدقاءه الأربعة لاختطافه في جو حركة سريع، ويمارسون عليه طقوس سحرية ويعيدوه إلى شقته القديمة، ويقول لهم أنه بالفعل كان قد قرر التخلي عن حياة الثراء، وأنه قام بعمل لعبة ما ستؤدي إلى خسارة “رافي” وشركات أخرى مليارات من الجنيهات، وتتم معاقبته باحتجاز كل ممتلكاته والحكم عليه بالسجن ستة أشهر مع وقف التنفيذ، ليعود فقيرا عاطلا كما كان، لكن يستعيد علاقته بأصدقاءه وشغفه بحياته القديمة.

ويؤكد البطل أثناء ذلك على أنه يعاني من الانسلاخ، حيث أنه انسلخ عن ذاته حينما غرق في المجتمع الاستهلاكي، وبشكل مفاجئ أيضا تظهر “كليمانس” في الحديقة التي يخرج للتنزه فيها، وتحادثه بطريقة طريفة ليكتشف أنها تشبهه، وأنها مثله ساخطة على المجتمع الاستهلاكي، تريد أن تعيش ببساطة وهدوء بعيدا عن دوران المجتمع الاستهلاكي المحموم وكوراثه المتخلفة عنه، وكأن الكاتب يهدي لبطله النهاية السعيدة حيث وجد خلاصه في علاقة حب حقيقية، تعتمد على توافق بين الحبيبين، وعلى تشابه في الرؤى والأفكار، وتعتمد بشكل أساسي على أنه محبوب لذاته ولشخصيته لا لما يمتلكه.

الرواية تنتقد المجتمع الاستهلاكي بضراوة، حيث تعريه وتكشف زيفه لكن في قالب ساخر وجذاب، ومن خلال حكاية شيقة ممتعة يتابعها القارئ بلذة وبنهم.

الكاتب..

مارتن باج، كاتب فرنسي ولد في  فبراير 1975 وعمره 43 سنة، يعيش في باريس، فرنسا، رواية (كيف أصبحت غبيا)  هي أولى أعماله نُشرت في 2001 عن شركة وترجمت إلى العربية في عام 2013. فازت الرواية بجائزة أدب المدارس، وهي جائزة يمنحها طلاب المدرسة، وترجمت إلى عدة لغات ولاقت نجاحا كبيرا.

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة