شهدت العقود الاخيرة ردة حضارية عميقة الأثر والتأثير على المجتمع والشخصية العراقية منذ استيلاء صدام حسين على السلطة وفرضه نظاماً استبداديا ًشموليا قاد الى آتون حروب وكوارث وحصار ومآسٍ خطيرة تركت بصماتها على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية وكذلك على حاضر العراق ومستقبله كان من نتائجها انهيار البنية التحتية وتمزق النسيج الاجتماعي والعائلي والاخلاقي، بحيث أصبح العراق منقسماً على ذاته منشطراً الى هويات فرعية متعددة، ما لعب دوراً كبيراً في تغيير الثوابت الوطنية للشخصية العراقية وتشويه سماتها الأصيلة وهيأ لوقوع العراق تحت براثن قوات الغزو والاحتلال التي اجهزت على بقايا الدولة الضعيفة ومؤسساتها واشاعت الفوضى والدمار والخراب وساعدت على خروج العراقي المحاصر من قمقمه ليقع في براثن المحاصصة الأثنية والقبلية والطائفية التي ساعدت على قيامها قوات الاحتلال ورسختها قوى المعارضة العراقية التي لم يتم نضجها ويتكامل وعيها الاجتماعي والسياسي والتي تكالبت على تقاسم السلطة والثروة والنفوذ. وهو ما ولد أزمة مجتمعية و”ردة حضارية” اصابت المجتمع العراقي وارجعته الى ما قبل تأسيس الدولة العراقية. وهي ظاهرة اجتماعية موضوعية نوعية تحتاج الى بحث وتفكيك وتحليل ونقد، انطلاقا من معرفة الذات ونقدها ومحاولة الكشف عن مكامن الخلل والارتداد، والوصول الى مؤشرات من الممكن ملاحظتها وتحديد مظاهرها واعراضها ونتائجها التي اصابت الفرد والمجتمع والدولة من تخلف وتفكك وانحطاط وما اصاب الشخصية العراقية من انقسام وتشوه وخراب والهوية الوطنية من تمزق واغتراب، وهو ما سهل تفكيك النسيج الاجتماعي وتمزيق وحدة الشعب العراقي واحتلال جزء مهم من اراضيه وادخاله في
مأزق حرج. والواقع، فبعد سقوط بغداد بأيدي قوات الاحتلال، أصبح الوضع أسوء بكثير مما كان عليه قبل الاحتلال، لأن التغيير الذي جرى في العراق بأسقاط النظام الشمولي السابق، بالرغم من انه كان مطلبا وطنيا ومشروعا، لم يجر بأيدي عراقية، وانما عن طريق غزو واحتلال. ويعود السبب في ذلك الى ان المعارضة العراقية لم تستطع خلال أكثر من ثلاثة عقود توحيد نفسها في مشروع وطني متكامل وتكوين قيادة وطنية موحدة تجمع كل العراقيين تحت خيمة وطنية واحدة. وبالرغم من ان المعارضة العراقية عاشت في الخارج اكثر من عقدين من الزمن، فأنها لم تكن سوى صورة أخرى للمعارضة المفككة في الداخل، التي تعرضت الى انواع من الاستبداد والقمع والقسوة، فيما عاشت المعارضة في الخارج في دول ليبرالية وديمقراطية وغيرها، التي وفرت لها هامشا من حرية الحركة والعمل السياسي، ولكنها لم تتعلم منها مبادئ الديمقراطية والاستقلالية ولم تمارسها، ولذلك بقيت ضعيفة ومفككة ولا تمتلك القدرة وصنع القرار على إحداث عمليات تغير وتغيير نوعية وجذرية، كما بقيت غير موحدة في هوية وطنية واحدة ومنقسمة على ذاتها الى تنظيمات سياسية عامودية وأفقية تتكلم بالديمقراطية ولا تمارسها في الواقع العملي وترفع شعار الوحدة الوطنية ولكنها متفرقة المصالح والاهداف ومنقسمة على نفسها أثنيا ودينيا وطائفيا، منذ لجنة العمل المشترك التي تأسست أثر احتلال الكويت وتشكيل جبهة موحدة ضد النظام العراقي وهيأت لعقد مؤتمر بيروت عام 1991 ومؤتمر فينا عام 1992 ثم مؤتمر صلاح الدين عام1992 التي تشكلت على اساس اثني وديني وطائفي تمثلت بالأحزاب الاسلامية الشيعية والسنية وكذلك الأحزاب العربية والكردية والتركمانية وغيرها، مما طبع المعارضة منذ ذلك الوقت، بصفة المحاصصة الطائفية.
ان هذه الاحداث الفوضوية احدثت بدورها تغيرات نوعية وجوهرية في مقدمتها تمثلات في الفكر طالت أسس الذهنية والهوية الوطنية العراقية وغيرت كثيرا من طرائق التفكير والعمل والسلوك لدى الفرد العراقي واحدثت اختلالات في المنظومة الثقافية والقيمية والسلوكية، مثلما طالت شبكة العلاقات الاجتماعية والعائلية والاخلاقية. وبالرغم من ان المرحلة الانتقالية، هي مرحلة تحول من نظام استبدادي – شمولي الى” تعددي ديمقراطي توافقي” مفترض، يصاحبها هدم وتقويض لكثير من البنى الاساسية،
كنتيجة طبيعية تصاحب انهيار كل نظام كما حدث في المانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية وكذلك مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ودول اوربا الشرقية، غير ان ما حدث في العراق يختلف في كثير من جوانبه مع ما حدث فيها. ففي اغلب تلك الدول لم تنهار أسس الدولة ومؤسساتها الاساسية بهذا الشكل الفوضوي وذلك بسبب تاريخها وتراثها الحضاري-المديني، مما فسح المجال امام الغرائز الاساسية للانفلات والتعبير عنها او اشباعها بشكل عفوي ومنظم في آن.
في تصريح لوزيرة الخارجية الاميركية رايس عن “الفوضى الخلاقة” قالت فيه، بأن الاوضاع الحالية في البلاد العربية ليست مستقرة وان الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطية في البداية هي “فوضى خلاقة”، ربما تنتج في الأخير وضعا أفضل مما تعيشه المنطقة حاليا. لقد كان قدر العراق المفكك الاوصال ان يقع تحت رحمة الاحتلال من جهة، والتركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق من جهة ثانية، وتحت رحمة اجندات دول الجوار، وبخاصة ايران وتركيا وبعض الدول العربية من جهة ثالثة، التي لكل منها مصالحها واهدافها السياسية التي تريد تحقيقها، مستغلة ضعف الدولة وتفككها ومحاربة قوات الاحتلال الاميركي في غير اراضها. كما كشف سقوط النظام السابق عن سلوك العرب وارتباكهم حيال ما يجري في العراق. فهم يخافون من اي نجاح للمشروع الديمقراطي، لان ذلك يعني انتقال العدوى الى بلدانهم، كما انهم يخافون من فشل المشروع الديمقراطي حتى لا تنتقل الفوضى إليهم. ان هذه الردة الحضارية، هي لحظات تاريخية حرجة يمر بها العراق، يكشف فيها المجتمع والثقافة والسلطة في العراق عن ذواتها وترفع الاقنعة عن وجوهها الحقيقية وتفشي اسرارها وخفاياها بدون مواربة. فالخراب الذي عم العراق، هو ليس نتيجة لخروج المارد الجبار المحاصر من كل مكان من القمقم الذي حبس فيه بعد ان وجد له الآن متنفسا ليظهر عاريا متحررا ومندفعا ينتهز أية فرصة مناسبة للثأر والانتقام مما ألم به والحصول على حصته من “الكعكة” السائبة على قارعة الطريق فحسب، وانما هي نتيجة لعوامل عديدة لا يسع المجال لذكرها في هذه المقالة.
ويمكننا ايجاز أهم مظاهر الأزمة المجتمعية وافرازاتها في العراق التي ساعدت على سيطرة داعش على جزء مهم من الأراضي العراقية وقتل وسبي وتهجير الملايين من المواطنين العزل وإدخال العراق في دوامة من المشاكل والأزمات وخاصة بعد الانخفاض الكبير في اسعار النفط العالمية،
وهي كما يلي: –
1- في مقدمة الازمات العصيبة التي يمر بها العراق اليوم أزمة تردي الأخلاق وتفكك منظومة القيم والمعايير الاجتماعية والدينية والقانونية التي انعكست في الفوضى والاضطرابات والتحلل الاجتماعي الذي أفرز ضعف الوعي الاجتماعي والسياسي وضعف روح المواطنة وانقسام الهوية الوطنية الى هويات فرعية متصارعة مما ساعد على عدم الاستقرار واستتباب الأمن ، وهو ما قوى العصبيات القبلية والطائفية والمناطقية ورسخها.
2-ان ضعف الدولة وتفكك مؤسساتها بفعل النظم الشمولية السابقة واللاحقة والحروب والحصار ومن ثم الغزو والاحتلال اشاع الفساد والرشوة والسرقة والتحايل والمحسوبية والمنسوبية في جميع مفاصل الدولة والمجتمع.
3-حكومات محاصصة طائفية ضعيفة ولاديمقراطية تسيطر عليها الحيتان الكبار وتتكالب على السلطة والثروة والنفوذ والتفرد بالسلطة.
3-شيوع ثقافة العنف والارهاب بأشكاله المختلفة ومستوياته المتعددة التي تغذيها النزعة الابوية-البطريركية-الذكورية ورواسب قيم البداوة وروح التغالب والحواضن التي اعتقدت بأن داعش سوف تنقذها من سيطرة الشيعة والاكراد على الحكم.
4 -ما دامت الدولة ريعية وتعتمد على واردات النفط دون مصادر إنتاجية اخرى، فسوف تستمر هيمنتها وتسلطها الاقتصادي والاجتماعي ويستمر الاقتصاد الريعي غير المنتج الذي يجعل العراقي لا يستطيع العيش إلا بمفردات البطاقة التموينية التي تمتلخ انسانيته وتجعله عالة على الدولة التي تستغله.
5-لعبت الدولة الريعية المستبدة بعد ارتفاع واردات النفط منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي دورا هاما في ضمور الطبقة الوسطى التي نمت بعد الحرب العالمية
الثانية التي كان من المفروض ان تحمل على اكتافها عملية التحديث والتقدم الاجتماعي.
6-تشير الاحصاءات الى ان البطالة في العراق تقدر بحوالي 28% ما عدا البطالة المقنعة. كما وصلت نسبة الأمية الى أكثر من 18%.
7-لقد وصل عدد النازحين والمهجرين والقتلى بسبب سيطرة داعش على مناطق واسعة من شمال وغرب العراق الى أكثر من ثلاثة ملايين. وهم يعيشون تحت ظروف مأساوية قاسية. فعلاوة على الأوضاع السكنية والمعيشية البائسة فهم يعانون اليوم من الفاقة والبرد القارص والامطار وتفشي الامراض الفتاكة وغيرها.
8-تجاوز عدد الايتام والارامل والمقعدين والمشردين في العراق الى أكثر من مليوني شخص
9-ان حوالي 40% من افراد الشعب يعانون من الامراض النفسية وخاصة امراض الاكتئاب والقلق والفوبيا.
10-ان تسيس الدين واستغلال الشعائر والطقوس الدينية سياسيا واقتصاديا وثقافيا سبب تعديا على حقوق المواطنين وعلى الدين نفسه.
11-ان انحطاط الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي عمل على تزايد تدهور طرائق التربية والتعليم والثقافة وتخلف “الذهنية” العراقية واستلابها وانقسام الشخصية العراقية الى واحدة متسلطة قمعية واخرى عاجزة نكوصيه وتقول “انا شعليه”.
12-ان انخفاض أسعار النفط أفرز تداعيات خطيرة شكلت تحديات حقيقية وجدية امام الاقتصاد العراقي. وان أثار هذه التداعيات وخطورتها ربما تعطي درسا للعراقيين يفتح عيونهم ويطور وعيهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ويحفزهم على تفعيل الاقتصاد العراقي واصلاحه وتغيره من اقتصاد ريعي يعتمد أساسا على النفط الى اقتصاد منتج لا يعتمد على النفط فقط وانما يعمل على تفعيل مصادر الدخل غير النفطية عن طريق تطوير القطاعات الإنتاجية والخدمية المختلفة وتنشيط مصادر الدخل وخاصة الضرائب وغيرها.
ان اعادة النظر في الخطاب الفكري والسياسي والقيام بمراجعة نقدية حقيقية وتوفير فسحة من الحوار والتفاهم والثقة المتبادلة للتواصل العقلاني الرشيد بين جميع المكونات الاجتماعية وليس العاطفي الآني والمصلحي، وذلك لان افراد المجتمع في العراق اليوم هم جزء من اشكالية المجتمع العراقي المنقسم على ذاته. وان الاعتراف بهذه الحقيقة يعني الاعتراف بالأخطاء والذنوب والخطايا والتجاوزات، التي شارك الجميع بصورة مباشرة وغير مباشرة، وهي خطوة من الممكن ان توفر لنا فرصة سانحة للتفكير والتأمل في تجارب الماضي والحاضر المريرة والتعلم من الاخطاء السابقة واستخلاص العبر والدروس منها.
والحقيقة فإلى وقت قريب كنت أظن ان تراكم الاستبداد والبؤس والقهر قد شوه خصائص الشخصية العراقية وجعلها محبطة وكسيرة لا تقوى على الوقوف على أرجلها بثبات أمام المصاعب العديدة التي تواجهها ولا تستطيع ان ترفض وتتحدى وان تقول: لا…!
غير ان جموع المتظاهرين اثبتوا بأن الشخصية العراقية ما زالت بخير، بعد ان كسرت حاجز الصمت والاغتراب. ورغم المصاعب والعقبات العديدة التي تقف أمامها، فإنها تبشر بالخير والأمل في قدح الوعي الاجتماعي والسياسي وفتح نوافذ تشرف على مستقبل أفضل.
وأخيراً لابد من القول: ان أكبر عقبة تقف أمام الحراك الاجتماعي-السياسي الجديد هي آفة المحاصصة الطائفية فباستمرارها سوف لن يتحقق أي تغير وتغيير.