حين يخاطب العبادي الجماهير المنتفضة بعبارة “أريد تخويلاً مليونياً”، فهو يقصد أن يقول: “لست مهديكم المنتظر، فلا تحملوني ما لا أطيق، ولا تتوقعوا مني شيئاً يفوق حجمي، وحجمكم، فالظروف أعقد كثيراً مما تظنون”، والتفاوت بين العبارتين لم يكن بسبب خيانة التعبير، وإنما بسبب تعقد الموقف السياسي المحيط، الذي اقتضى التعبير بلغة ملتوية، تراعي حساسية الأطراف المختلفة.
قبل كل شيء، لابد أن يكون واضحاً أن العبادي يدرك جيداً أن المؤسسة الدينية – التي تمثل الطرف الأكثر تأثيراً – ليست، فقط، لا تريد الاعتراف بأن اللعبة السياسية قد بلغت النهاية المسدودة من الطريق، وإنما هي لا تستطيع ذلك. لأن الاعتراف، ببساطة، يعني موتها، وبالتالي لابد أن تبذل ما بوسعها لتأجيل موتها وقتاً إضافياً آخر، كما فعلت في مرات كثيرة، وكما تفعل دائماً. من هنا فإن موقفها، الذي يبدو في ظاهره، أقرب إلى موقف الجماهير الغاضبة، لا يشكل بالنسبة للعبادي أي رقم حقيقي يمكن أن يُضاف لوزن الصوت الجماهيري، بل إن موقف المؤسسة الدينية يشكل في العمق مسماراً أخيراً لتثبيت النظام القائم، والعبادي متيقن، من هذه الحقيقة، ولهذا تراه يستحضر إرادة المؤسسة الدينية في خطاباته المطمئنة للقوى والأحزاب السياسية، ويمنحها ثقلاً أكبر كثيراً مما تمثله الجماهير، بينما تسقط من الحساب، تماماً، ولا تعود تعادل ثقل عصفور عندما يبحث عن تخويل مليوني!
مسألة أخرى يدركها العبادي تمثلها الأحزاب، والمافيات، والقوى الإقليمية والدولية ذات المصلحة في بقاء الحال على ما هو عليه من حيث الجوهر، مع السماح ببعض التغييرات العرضية التي لا تمس مواقعها في معادلة النظام السياسي، ولا تؤثر في لعبة الأرصدة الجماهيرية لكل منها. هذه الأحزاب التي استغلت موضوعة “الحشد الشعبي” لتشكل لها ميليشيات، وقوى مسلحة لا يمكن أبداً أن تتخلى عن كل شيء من أجل عيون الشعب الكئيبة، وهي على أهبة الاستعداد لتجريب لعبة الانقلابات العسكرية، وفرض الأحكام العرفية، والقمع الفكري، خاصة في ظل أوضاع كالتي يشهدها العراق، تقدم الكثير من المبررات والذرائع والمورفينات الفكرية، ليس أولها الخطر الذي تمثله “داعش”، وما يقتضيه التصدي له من إيثار، وعض على الجروح، وتقديم الأهم على المهم، إلى آخر قائمة الرطانة المعروفة، ولا آخرها معزوفة الخوف من ضياع الحكم، وانتقاله للذئاب المتربصين بالشيعة والتشيع، وبين هذا، وذاك عشرات الحجج، والأوهام.
حين يطلب العبادي تخويلاً مليونياً يضع نصب عينيه كل هذه العناصر، وغيرها التي تتشكل منها المعادلة الصعبة التي تضبط الأفق السياسي العراقي، وتتحكم بمواعيد شروق الشمس فيه، وغروبها. والعبادي يعلم أن الشعب هو الطرف الأضعف في هذه المعادلة، خاصة بعد أن استودع وعيه وإرادته في قماطر المؤسسة الدينية التحت أرضية، وأصبحت هذه الأخيرة بمنزلة الوصي الخؤون الذي يلعب بورقة الشعب لمصلحته الذاتية، ومصلحة الأحزاب والمافيات المرتبطة به. ولا شك في أن العبادي يراقب الواقع، ويقرأ جيداً دلالة الأرقام التي تتظاهر، وهي أرقام لا زالت متواضعة جداً خاصة بقدر تعلق الأمر بتغيير حقيقي. مسألة الأرقام مسألة مهمة، تتعلق بمدى تحرر الوعي الشعبي، ومدى جديته في الثورة على الواقع القائم، فالأعداد التي امتلكت حرية قرارها، وخرجت مطالبة بحقوقها المسلوبة لا تزال أقل كثيراً من تلك التي لم تجرؤ على مغادرة القفص. الأمر الذي تبدو معه الانتفاضة بدون الطاقة الاحتياطية اللازمة للمطاولة والديمومة، ويبدو القرار الشعبي ما زال رهيناً، بالنسبة لقطاعات واسعة منه، بيد الغراب الأسود.
طبعاً يمكن للعبادي أن يجرب فكرة صناعة وعي جماهيري جديد، مستغلاً الظرف التاريخي الذي، ربما، لن يتاح له مرة أخرى، ولكني أراه أضعف من أن يمتلك جرأة قيادة الجماهير، وتحدي الواقع القائم، بل إن الأيام، على الأرجح، ستسجل مواقفاً له أقرب إلى تاريخيه الشخصي، وأقرب من منطق المؤسسة الدينية، وأحزابها، وستُختصر مأساة العراق بمسألة انقطاع التيار الكهربائي، وبعض النواب، والوزراء، والمحافظين.