يرجع السبب المباشر لما يحدث اليوم من قتل الأبرياء إلى ما هو مدوّن في كتب التراث من أخطاء وشوائب لا يمكن تمحيصها أو إخراج الغث منها بسهولة ودون عناء وقبل البدء في تفصيل ذلك يجب الإشارة إلى أن الناس الذين جعلوا القتل سمة من سماتهم قد خرجوا عن دائرة الإسلام الحنيف، واتبعوا أمر كل شيطان مريد حتى أعطوا لأنفسهم الحق من أن يكون هذا الجرم ديدنهم الراسخ في عقولهم، وبالتالي لم يقدروا على شفاء ما في صدورهم الخاوية على عروشها إلا بواسطة هذا النهج المملوء بالحقد والغل لجميع أصناف البشر ما عدا المغرر بهم والذين أصبحوا أقرب إلى الدمية المسيرة بأمرهم، ولهذا فإن الأخطاء المتفق عليها من قبل هذه الفئة المجرمة التي انتشرت أمراضها في جميع الأرض، لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة أو الأقدار وإنما ولدت من رحم له ثقل أكبر من أن يتصوره الجاهل الذي لا يفقه ما يجري أمامه بحال من الأحوال، ومن الطبيعي فإن ما يصدر عن هذه المجموعة الخارجة عن الشرعية الإسلامية والإنسانية لا يتعدى ما في التراث الإسلامي من أخطاء، ولكن هذا المعنى لا يعطي لأولئك الحق في أن يفعلوا ما بوسعهم من الأفعال الدنيئة. أما من يلقي بالعبء على عاتق الدين فعليه أن يعلم أن الله تعالى قد ميز الإنسان عن سائر المخلوقات، وكرمه بالعقل الذي يستطيع بواسطته التفريق بين الحق والباطل، ولهذا فإن من يعتمد على ما في الصحاح من حجج واهية ثم يجعلها حق من حقوقه فهذا عذر أقبح من فعل. فإن قيل: بناءً على ما ذكرت يحق للإنسان أن يعرض عن الكتب الدينية دون أن يمسها بشيء؟ أقول: ليس هذا هو القصد، وإنما الدعوة إلى مثل هذا الأمر لا نجد من ينتصر لها، لأن هذه الكتب لا تخرج عن إشراف أصحاب الحل والعقد، وإن شئت فقل إن المساس بها يعتبر من الخطوط الحمراء التي لا يمكن الوصول إليها فضلاً عن اجتيازها، وقد يرجع هذا الأمر إلى تقارب ما هو مثبت فيها مع أفكار علماء الفتنة والجهل الذين هم السبب في جميع ما يحدث على الأرض، وذلك لاعتمادهم الروايات الباطلة والإسرائيليات البعيدة عن الحق المبين الذي لا غبار عليه.
وبناءً على ما تقدم يمكن القول إن على الإنسان أن يميز الغث من السمين حتى يتوصل إلى الفهم الحقيقي من المقاصد القرآنية، ولكن أنى له ذلك بسبب تحريمه دراسة الفلسفة والمنطق أو كل ما يأخذ بيده إلى طرق المعرفة اليقينية، ومن هنا يظهر أن ما وجد في التراث الإسلامي المتمثل في السنة النبوية وما يتفرع منها على صحيح البخاري أو مسلم وكذا الكافي أو من لا يحضره الفقيه، فهذا لا يعطي الحق للمجرمين من أن يقوموا بالأفعال الوحشية، وفي نفس الوقت لا يعطي الحق لأعداء الدين من أن يعذروا أولئك الشرذمة المارقة عن دين الله، فالأمر يحتاج إلى دراسة وتحليل من أجل أن يصل الإنسان إلى المطلوب، فإذا كانت كتب الصحاح محفوظة بأياد خفية فمن المؤكد أن لا يصل أحد إليها من أجل تصحيحها أو تنقيحها. فإن قيل: ما العمل إذن هل نقف مكتوفي الأيدي أم نقوم بدعوات عرضية لا تجدي نفعاً؟ أقول: ليس الأمر كذلك بل الأفضل أن يدرس الإنسان ما في تلك الصحاح دراسة منهجية تقوم على المبادئ اليقينية والأسس الشرعية، وهذا لا يتأتى لمن يمر بتلك الصحاح مروراً عابراً، وإنما يجب أن يكون مسلحاً ببضاعة علمية على رأسها معرفته بأصول الدين أي علم الكلام وعلم العقيدة، وكذا يجب أن يكون على فهم أوليات المنطق على أقل تقدير بالإضافة إلى التعمق الواسع بالفلسفة، وبهذا يتضح أن عدم الاعتماد على هذه العلوم هو الذي جعل الأمة تصل إلى هذا المستوى المتدني، وبالتالي لا نجد لها من الأمثلة إلا ما يشير إليه تعالى بقوله: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صم بكم عمي فهم لا يعقلون) البقرة 171. واعلم أن المثل لا يشبههم بالناعق وإنما بالمنعوق به فتأمل.
وبهذا أود أن أشير إلى أن الاعتقاد إذا كان خلاف ما بينا فهذا قد يجعل الأعذار تتناسب طردياً مع أفكار الفئة الضالة، وفي الآخر يكون لهم ما يؤيدهم في الاستمرار بنهجهم الباطل المتجسد في القتل والفساد في الأرض، وأنت خبير من أن القرآن الكريم قد نهى عن جميع أنواع القتل وبيّن ذلك بأتم بيان، كما في قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً) النساء 93. وحتى لو كان القتل عن طريق الخطأ نجد أن القرآن الكريم قد بيّن الحلول المناسبة التي يجب اتخاذها إزاء هذا الفعل، ولذلك قال سبحانه: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا) النساء 92. ولهذا جعل الله تعالى لولي المقتول سلطاناً، كما هو مبيّن في قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً) الإسراء 33.
فإن قيل: لماذا لا يكون علاج هذا الأمر عن طريق الصلح؟ أقول: القتال بين المسلمين يمكن أن يُعالج عن طريق الصلح إذا كانت الأسباب مهيئة لهذا الغرض، أما في حال ظهور مجموعة من العلائم تبين أن الأطراف الأخرى لا تستطيع الوصول إلى الحلول الكافية في إطفاء نار الفتنة قبل اللجوء إلى طريق آخر يتيح لهم التخلص من الوضع العالق بين الطرفين، فههنا تكون الدعوات المنادية بوقف القتال لا قيمة لها أمام قوم هم للشر أقرب منهم للخير، ولهذا وجب على جميع الفرق سواء المشاركة في الحدث، أو تلك التي يحق لها التوسط بين الطرفين من أن تأخذ الحذر وتكون قريبة من نبذ تلك الدعوات، وذلك لأجل درء المخاطر الناتجة من الطرف المعتدي، وأنت خبير من أن تجنب هذا النوع من القتال قد يجعل اشتراك الفئة المعتدى عليها مع الفئة الباغية في نفس الإثم المتفرع على هجرهم لنهج القرآن الكريم، وهذا هو الهجر الحقيقي الذي يُصنّف على أنه من الكبائر الملازمة لجميع الأطراف بسبب ابتعادهم عن كتاب الله تعالى ولهذا ترى أن كثيراً من الناس قد يقع في اللبس أحياناً وذلك عند ظهور المؤشرات الحاصلة بسبب التزاحم الذي يترك أثره في إرجاع أمر القتال بين الأطراف المتنازعة إلى غايات غير معرّفة، وبالتالي تظل جميع الفئات التي هي خارج دائرة القتال تنظر إلى شيءٍ مجهول لا يحق لهم الخوض في تفاصيله أو الأخذ بما هو مشاهد من اختلاف المسميات التي يصعب عليهم من خلالها تمييز الحق من الباطل الذي يقربهم إلى ترجيح أي من الفريقين يصدق عليه مصطلح البغي.
من هنا ظن بعض الناس أن الصفة الكمالية التي يهبها الله تعالى لأصحاب الحق لا يستقيم لها الثبات والبقاء إلا إذا استمرت موجباتها في تأييد الدخول الفعلي إلى ميادين القتال دون النظر إلى المصاديق اللاحقة المخصصة له، وكأن هؤلاء قد وصلوا إلى هذه النتيجة من خلال فهمهم لقوله تعالى: (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) البقرة 251. ولذلك نشأ عن هذا الظن أن القتال جزء لا يتجزأ من استقامة الحياة على الأرض واستقرارها على الوجه الأمثل علماً أن الإنسان الذي يركن إلى هذا القصد لا بد أن يقع في أخطاء كثيرة لا حصر لها، باعتبار أن الحرب لها طرق مختلفة واتجاهات شتى تتفرع على تحرير الأراضي المغتصبة، إضافة إلى جلبها لكثير من المنافع وكذا في دفعها للمكاره والأضرار وصولاً إلى أرقى أنواع الحروب التي تُرد أسبابها إلى ما يفرضه الشارع من إظهار العقيدة والدفاع عنها، أما الحروب التي تكون تابعة لأمر الحاكم المستبد وإرضاء غروره فهذه مما لا ريب في وقوعها بعيدة عن الجوانب الإيمانية، ولا يمكن أن نجري عليها الآية آنفة الذكر.
من هنا يجب إخراج الحروب العبثية المجانبة للحق عن الشرعية، أما إذا كانت الحرب تابعة لما هو مقرر في الشرع من جلب المنافع أو دفع المضار كما بينا فههنا قد يخرج السبب عن العبثية، ويصبح الأمر واجباً
مقدساً، وربما لا يُفهم هذا المعنى من قبل كثير من الناس الذين لا يروق لهم مشاهدة المناظر غير المألوفة من سفك الدماء أو تناثر الأعضاء بعد أن كانت على وضعها الطبيعي، وكذا ما يحدث للأطفال والنساء وكبار السن من متاعب لا حدود لها، ولا يخفى على المتلقي من أن هذا المعنى إذا صدق عرفاً بموازاته لأمر الله تعالى وانطباقه على الحق المبين، فمما لا شك فيه قد يرغم المشاهد شرعاً من أن ما ثبت في خياله من المناظر المؤلمة سوف يأخذ الجانب الآخر لهذه الرؤية، حتى تصبح تلك المناظر من الأشياء الحسنة المستساغة، وبالتالي يُبدل ذلك الحال إلى برد وسلام، وهذا التقدير قد لا يلامس أذواق أصحاب القلوب الضعيفة الذين لا يمكنهم رؤية المناظر التي بيناها بسبب عدم ممارستهم لهذه الأفعال، وقد يُعد هذا حق من حقوقهم إذا ما نظرنا إلى الضعف والفتور الذي يلاحقهم بسبب بُعدهم عن التجارب الميدانية التي يكون لها أثر في إضفاء صفة الجلادة على الإنسان مما يجعله على يقين من أن مقرراته السابقة لا وجود لها إلا في مخيلته التي لا تقوده إلى الرؤية الحقيقية، أما إذا اجتمعت هذه المقررات ولم تُجدِ نفعاً فمن الطبيعي قد ترى هذا الصنف من الناس يدعون بين فترة وأخرى إلى عدم مهاجمة الفئة الباغية، باعتبار أن ذلك يجعل الأمور تأخذ المعنى المعاكس للسلم بموجب النظرة الملازمة لأصحاب القلوب الضعيفة الذين لا يروق لهم رؤية الدماء، وكذا ما يحدث للأطفال والنساء أو كبار السن الذين هم بمنأى عن القتال كما أسلفت، ولذلك ترى هذا الصنف الذي لا يستحق العيش الكريم قد جعل تلك الأسباب أقرب إلى الذريعة التي تبنّى من خلالها الدعوة إلى وقف القتال، معللاً ذلك بالأضرار الناتجة عنه دون التوجه الحقيقي إلى التفريق بين ما شرعه الله تعالى، وبين ما في قلوبهم البعيدة عن الإيمان، ولو تعمّق هؤلاء الناس في دراسة الأساليب العليا لظاهرة القتال الحق فبلا أدنى ريب سوف تبدل نظرتهم، ويكون ما يجري أمامهم أقرب إلى الرشاد منه إلى الاعتداء، وبطبيعة الحال لو أردنا تعريف السبب المباشر المدّعى من قبل الناس الذين لا نزال نتحدث عن ضعفهم، لوجدناه يعود إلى قلة التصدي لما يُفرض جرّاء القتال دون التوسع بمعرفة أهدافه، مما يباعد بينهم وبين الركون إلى العادات المألوفة من قبل الناس الذين هم في الجانب الآخر من هذا النهج.