ألم تتعلم الدرس بعد ؟… أتظن بأنك ستعثر على ذاتك المجهولة وسط بحثك السخيف هذا ؟ .
ألم أوصيك بأن تتوقف عن البحث وسط الحشود الذين لا يشبهون شيئا غير الفقاعات التي تتطلاطم ببعضها كي تختفي وتولد من جديد وكأن طفلا غبيا يخلقهم ويميتهم متى ما يشاء !.
إمتعض التلميذ مجيبا : أفضل ان أعيش أسير هذه الفقاعات بعيدا عن مرآتي الوحيدة الشبه- متكسرة التي لا أرى فيها في بحثي غير صورة شبيهة بمهرج راقص !.
فبهذه الخطوط الزجاجية (المتكسرة) تنمو ذكريات غامضة تنقلني الى رائحة سخام المركبات والمداخن لأكتشف بأني ما زلت حبيس المدينة الفاضلة ,! التي تتجول فيها وجوه بشرية شبه مقنعة لكن في الأزقة النائية هناك التي يقطنها المثقفون استطيع ان استنشق أوكسجينا نقيا لولا أنه معبىء ببعض المصلحات المركبة والنظريات الجنكريشية ! ليكون السأم هو الآخر نهاية هذه الذكريات .
ولكن هذا لا يعني بأن رحلتي قد انتهت والدليل بأني ما زلت أتقمص دور رينيه ديكارت في التفكير كي أهتدي لطريقة أخرى تجبرني على التحليق في عالم أجمل وأعم وان كان إفتراضيا أبحث فيه عن أوكسجينا نقي خالٍ من شوائب المصطلحات والنظريات, ولكن يبدو ان مخيلتي المسكينة أرهقت كثيرا في الطيران فإلى متى تظل تخترع عوالم تضيء وتختفي كعيدان الكبريت ؟!.
فلا عالم يمكن ان ينطفي في مخيلتي غير غرف المقاهي البائسة التي ينام على أرائكها أنصاف العقلاء و المذمومين الذين لا يعيرون للأزمات أدنى أهمية لأنهم ملوا التمنطق والشعارات بعد ان بات معظمهم اليوم يعيش في مصحات مقفلة يقدم كل يوم قربانا لوحوش العزلة !.
في وقت الأزمات تسرق الضحكات من الوجوه ليكون الحزن هو البديل بل حتى اليافطات التي تحمل صور دعائية لفتيات شبه عاريات عندما تحملق في تقاسيم وجوههن ستشكشتف بأن ابتسامتهن لا تعدو غير أقنعة زائفة تحمل في خباياها ألم عميق , فالسعادة باتت كلمة فضفاضة او نغمة موسيقية ملها الجميع لأن “الزعماء” إقتلعوها من جذورها وأعادوا تركيبها لتصلح فيما بعد عقارا منوما يزول بزوال مفعوله كي نكون جميعنا ضحايا هذا المنوم , إلا سدنة المعابد عبيد الزعماء الذين استفادوا من بيعه وترويجه دون ان يقعوا ضحيته فإذا انتزعت اليقظة من المرء بات كحمل يقوده راعيه الى سكاكين الموت لكنه يسير و يغني غير مبالٍ بمصيره ولهذا حقق هذا العقار الفريد من نوعه أكبر نسبة مبيعات في السوق ! .
ولهذا أيها التلميذ الباحث وفر على مجهودك ولا تستمر بالبحث طويلا اعتذر بكل بساطة وقل لإستاذك المتعنت بأني لم أتمكن من العثورعلى شيء وسط هذه الفوضى الصاخبة حتى ذاتي التي صدعت رأسي بها ربما هي مجرد نموذج محفور في الكتب والسطور .. حلم الإنسان الأعلى الكبير الذي لم نرى طيفه حتى ,أو هي العوالم التي حلقت في فضائها قبل قليل باختصار هي كابوس مرعب لا شفاء منه مهما تناولت من عقاقير ! .
قد أجد نقيضها الذي ولدت منه كما تثرثر خطابات الأقدمين هذا ان أعانني الوقت على المزيد من البحث قبل ان يفرد الليل جناحيه ويبرز ذيله النجمي الأزرق فوق مدينتنا لأمل نشوة انتظار الصباح الذي أجلت فيه واجباتي وأبحاثي فلم يعد لهذا السفر الفريد أدنى قيمة ! .
تدريجيا ينتهي مفعول العقار ليستيقظ التلميذ منزعجا فيبدو بأن سفينة أفكاره ارتطمت أخيرا بصخرة اليقظة ليكتشف بأنه ما زال أسير أربع جدران غليظة , وباب صغير على جهة اليسار غير مغلق بإحكام ينساب منه ضوء مجهول المصدر .قرر التلميذ هذه المرة ان يمتثل كليا لطيفه ولهذا تناول عقارا آخر بالرغم ان طبيبه الروحي نصحه بعقار واحد كل يوم لكنه عاود السفر غير مبالٍ بنصيحته نحو العالم البعيد عن زحمة المدينة ومجانينها الذي حمل معه نظرياتهم ربما ليحوز على شهرة في هذا العالم ! .
كان متخبطا على غير العادة فجسده المنتصب بين أربع جدران لم يكن يسعف روحه وسط هذا التناقض المكاني ولكن كان عليه ان يستمر قبل زوال المفعول فيبدو بأنه أضاع علبته أثناء السفر ولهذا كان عليه ان يحلق دون توقف … باريس, برلين, فيينا, لوكسمبورغ , كانت هذه العواصم شاخصة أمامه يحدق في أجوائها والدهشة تستولي عينيه حتى المقاهي التي مر عليها كانت تختلف تماما عن ما آلفه في مدينته باختصار كل الأجواء هناك كانت كرنفالات يومية لا تنقطع .
ولكن شيئا فشيئا بدأت المدن والمباني تنصهر أمامه كالجليد وكأن الظلام كان ينتظر لحظته المنشودة ليكون البديل الأبدي لهذه الرحلة الطويلة .لم يستطع التمييز روحه الهائمة من جهة وجسده المتصلب من جهة أخرى كانا معا حبيسا هذا الظلام , شعر بتوتر شديد فطبيبه الروحي تأخر عليه اليوم ليس كل مرة كان يأتي فيها إليه بعلبة جديدة تزيح عنه جدار الظلام كي يستيقظ من جديد ويتهيء لطيف آخر! .