العقائد الباطلة التي انتقلت من الإسرائيليات إلى الفكر الإسلامي لا يزال تأثيرها قائماً إلى اليوم دون أن يظهر المنقذ الذي يفرق بين ما ينتاب التراث من سلبيات وبين التطبيق العلمي الممنهج والمرتضى من قبل العلماء الذين لهم باع في هذا المجال، وهذا ما تسبب في تسلسل الأحداث غير الموثقة حتى كادت أن تكون جزءاً لا ينفصل عن المسلمات التي لا يمكن الاعتراض عليها، ولو تتبعنا تأريخ الفقهاء الذين لهم دور كبير في إظهار هذه الفرية لوجدنا أن ارتباطهم بالعقائد التي بدأنا حديثنا فيها كان متأرجحاً بين عدم الانسجام الفكري المؤدي إلى الإيمان الجزئي من جهة وبين الرؤية الصحيحة التي ينتج عنها الإيمان المتكامل الذي لا يقبل النقصان من جهة أخرى، ولا يخفى على ذوي البصائر بأن اعتماد النهج الأول سوف يؤول إلى المساس بالعقيدة، باعتبار أن الوصول إلى فهمها بالطرق الخاطئة لا يعد من الحقائق التي يقام لها وزناً فضلاً عن اهتمام أولئك الفقهاء بنشر الفكر الفاسد والدفاع عنه بما أوتوا من قوة.
فإن قيل: ما هي أهم العقائد الباطلة التي لها دور في القضاء على الأهداف المشتركة لدى الأمة؟ أقول: عقيدة التجسيم هي العقيدة الأولى التي لها دور مباشر في تفرق الأهداف الفكرية للأمة، وهي من العقائد التي يؤمن أصحابها بتجسيم الخالق سبحانه، ونسبة الصفات البشرية إليه جل شأنه، وبالإضافة إلى هذا أخذهم بالحجج الباطلة التي لا يتناسب معناها مع اللفظ الظاهر لمصطلحات القرآن الكريم مع ملاحظة أن تلك الألفاظ قد تحتاج في فهمها إلى المجاز أو إلى تأويل على الوجه الذي يليق بها، علماً أن اللسان العربي لا يبخل في تبيان الحقائق لمن يريد اتباع المنهج الصادق لإظهار الوجوه الصحيحة، وأنت خبير بأن اعتماد السلوك المعاكس للنهج البياني يعد من الأخطاء الشائعة، فليس هناك ما يقارب بين الحقيقة والمجاز على حساب ما تبديه الألفاظ المبينة للحقائق القرآنية التي تمهد لبناء الأفكار وما ينسب على ضوئها من تجسيم، وبين الأصول المعرفية التي يمكن أن تجرى عليها الأساليب المجازية الواردة في القرآن الكريم.
وبناءً على ما تقدم نستطيع القول إن تفاصيل الأسلوب البياني يمكن أن تُرد إلى الحقائق القرآنية المعتمدة لدى أفصح الناس لساناً بعيداً عن الدراسات السلبية المتخذة دخلاً بين علماء اللغة “حسب تعبيرنا اليوم” وبين ما يصدر عنهم من معارف لا تؤدي إلى تبيان الحقائق بشكل من الأشكال، ومن الأمثلة الدالة على ما نحن بصدده تلك التي يتناقلها عامة الناس من جواز رؤية الله تعالى بالعين المجردة، ولا يخفى على من له أدنى درجات العلم أن الحق سبحانه ليس كمثله شيء ولا يمكن الإحاطة به بوجه من الوجوه، وقد بين جل شأنه هذا الأمر بقوله: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) الشورى 11. وكذا قوله: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً) طه 110. وقوله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) الأنعام 103. وهناك آيات كثيرة بهذا الشأن، وبهذا نعلم أن الله تعالى لا يمكن أن تحيط به جهة أو أن ترسم له صورة في أذهاننا لاستحالة هذا المعنى في نفسه.
فإن قيل: وماذا عن رؤيته سبحانه في الآخرة؟ أقول: هذه هي الطامة الكبرى التي نريد أن نبين حقيقتها بعد أن انتاب الحياء جمع من العلماء ما أدى إلى عدم الإفصاح عنها وذلك لأنها أصبحت عقيدة راسخة لا يمكن المساس بها أو الركون لما يخالفها، ولهذا ترى بعضهم يبتعد عن الحديث عنها ابتغاء مرضاة أصحاب الشأن مع علمه بحقيقة الأمر، لأن الفهم المتوسط لا يدع مجالاً لعدم تصديق مثل هذه المزاعم باعتبار أن الله تعالى ليس جسماً حتى يقع عليه بصر الكائنات الحية فهو أجل من ذلك، وقد أشار سبحانه إلى بيان هذا المعنى في قوله: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) الأعراف 143. والنكتة ظاهرة في قوله: (لن تراني) لأن (لن) تفيد النفي على وجه التأبيد. فإن قيل: ربما يكون هذا النفي في الدنيا دون الآخرة؟ أقول: ليس هناك ما يدعو إلى التفريق بين مصطلحات اللسان العربي سواء في الدنيا أو الآخرة، ومن ذهب إلى ذلك فهذا ليس لديه ما يحتج به سوى إظهار المصطلحات بما يتناسب مع عقيدته الباطلة دون مرجح.
ولأجل أن تتضح الصورة أكثر يمكن إرجاع المصطلح إلى متفرقات القرآن الكريم وعند ذلك سنرى أن جميع المواضع التي وردت فيها (لن) لا يراد منها إلا النفي على وجه التأبيد، كما في قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له) الحج 73. وكذا قوله: (إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً) الإسراء 37. وقوله: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) البقرة 24. وقوله: (يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) هود 81. وكذلك قوله: (إنك لن تستطيع معي صبراً) الكهف 67. من هنا يظهر أن الله تعالى لا يمكن أن يرى لأن الرؤية لا تقع إلا على الأجسام التي تشغل حيزاً في الوجود، والله تعالى لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان فهو أرفع من أن يتصف بهذه الصفات. والاعتقاد بخلاف هذا الأمر لا يمكن أن يكون إلا من الجهل المطابق للعناد الذي واجهه موسى من بني إسرائيل عندما طلبوا رؤية الله تعالى، كما ورد ذلك في قوله: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) البقرة 55.
فإن قيل: هل سؤالهم رؤية الله كان قبل الميقات أم بعده؟ أقول: سؤالهم الرؤية كان أثناء الميقات وبهذا تكون عبادة العجل متأخرة عن هذه الواقعة، وهذا ما يستفاد من قوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً) النساء 153. وكذا قوله: (واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) الأعراف 155. فإن قيل: لا يمكن الاستدلال بآية سورة الأعراف وذلك للتفريق بين الرجفة التي وردت فيها وبين الصاعقة التي ذكرت في آية سورة النساء وكذا في آية البحث؟ أقول: ليس هناك اختلاف بين الصاعقة والرجفة، وإنما حدث التغاير للتفنن في الكلام وهذا من باب الاختلاف في اللفظ والاتفاق في المعنى وذلك نظراً إلى موقع القصة من القرآن الكريم، ويدل على ذلك ما أشار إليه تعالى في قصة قوم صالح حيث قال: (فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين) الأعراف 78. وقال في سياق آخر: (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون) فصلت 17. فتأمل.
فإن قيل: ما هي الأسباب التي كانت وراء سؤالهم الرؤية؟ أقول: أهم الأسباب التي كانت وراء هذا السؤال هو عدم تصديقهم بما فوق المادة لأنهم لا يؤمنون إلا بالأشياء المادية ولهذا كان اعتقادهم أن الله تعالى لا يمكن أن يكون إلا جسماً مادياً وهذا السؤال بطبيعته يبين مدى جهلهم، لأن إدراكهم لا يتعدى إلى أكثر من الماديات والمحسوسات ولهذا أرادوا رؤية الله تعالى جهرة، وقد يتقارب هذا الطلب مع طلب آخر لهم وذلك عند قولهم لموسى أن يجعل لهم إلهاً، وقد أشار سبحانه إلى هذه القصة بقوله: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) الأعراف 138. وعند الجمع بين هذه الآية وآية البحث يظهر من خلالهما أن بني إسرائيل كانوا قوماً لا يصدقون إلا بالمادة وما يتفرع عنها ولهذا عاقبهم الله تعالى بالصاعقة لأجل أن يفهموا أن هناك أشياء كثيرة لا يمكن الإحاطة بها ولا أن أعينهم تطيق رؤيتها فأنى لهم رؤية الله تعالى، ولهذا خاطب الحق سبحانه أخلافهم بما امتن به على أسلافهم وذلك في قوله: (فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) الذي ورد في آية البحث.
فإن قيل: هل يستحق هذا السؤال أخذهم بالصاعقة؟ أقول: هذا السؤال أكبر وأعظم من اقتراحات الأمم الأخرى على أنبيائهم كإحياء الموتى أو إنزال الملائكة، وذلك لما فيه من عتو كبير، وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً) الفرقان 21. وكذا قوله: في الآية 153. من سورة النساء المنقولة آنفاً.
++
من كتابنا: القادم على غير مثال