تذهب الدراسات العلمية ، الخاصة بالمسرح، إلى أن قواعد بناء المسرحية ، التي وضعها ” أرسطو”اعتمدت الوقائع والأحداث الجزئية والأفعال والحدث والفعل الدرامي كونهما جوهر البناء المسرحي ، وأن ثمة فرقاً بين الفعل والحركة من جهة النمو والتطور ، و أن الصراع هو الجوهر العام للفعل المسرحي ، يدور في الغالب بين قوتين متعارضتين وقد يكون داخلياً ، وخارجياً . و خلال مجرى الحياة الإنسانية حدث تطور في طبيعة الصراع ، فبعد أن كان لدى اليونانيين بين الإنسان والقدر الإلهي ، أصبح بين الفرد والمجتمع في العصر الرأسمالي ، وبظهور التيارات الفكرية والفنية الحديثة ، برز الصراع بين الإنسان وذاته ، أما في المسرح الملحمي ، فأنه بين قوى اجتماعية قاهرة وأخرى مقهورة. وأصبح – الأخير – يحارب الإيهام بواقع مصطنع ويتجه إلى خلق وعي حقيقي بالعالم قابل للتغيير. نرى إن المسرح العراقي واكب متغيرات عاصفة، سياسية – اجتماعية وفكرية – اقتصادية، وبالتالي فأن المسرح أو بالأدق الصراع في المسرح كان انعكاساً للواقع ومعبراً عن العلاقات بين قوى اجتماعية قاهرة وأخرى مقهورة. مؤخراً صدر للدكتور عباس الجميلي ” جماليات الوثقائية الفكرية في الدراما- بنيان صالح قراءة في خطابه المسرحي”- دار وراقون- ط1 -2015 . الدكتور سلمان كاصد في مقدمته للكتاب و المعنونة “سجل مدينة يكتبه مبدعان” اقر إن د. عباس الجميلي قد خلق نصاً على نص ،من حيث الدلالة والصياغة والتركيب،وان في كل مدينة ثمة مَنْ يسجل أحداثها،يبرز آلامها ويعيد صياغتها، في قصائد أو قصص أو مسرحية، أو فعل استثنائي لا يتمكن منه
البعض،ويأتي في هذا المنحى المؤلف المسرحي “بنيان صالح” الذي أسهم في الفعل الدرامي عبر نصوصه المسرحية المتعددة والتي علقت في ذاكرة المدينة، وكانت المنبع الذي تزودت منه الأجيال المسرحية المتعاقبة، فكان “صالح” مبدعاً مثَل نزوع الإنسان العراقي إلى قيم الحق والجمال والعدالة، وفي محاولة منه ليكون نصه المسرحي تفاؤلياً، إلا انه تلمس قتامة الواقع ، فقرر أن يفضح كل السوداوية والاحباطات و التدهورات في نصوصه المسرحية.ويؤكد د. كاصد بأن د. الجميلي يدلل على إمكانات الناقد المسرحي في تصفح جماليات التوثيق الفكري الذي نجح فيه الكاتب المسرحي بنيان صالح بالتعبير عن هموم طبقته الاجتماعية فكان ممثلاً لها بامتياز،كما ذهب د.كاصد إلى إن الجميلي جهد إلى التنويع في أسلوبه، ” فمرة تراه مؤرخاً ،ومرة تراه ناقداً للفن المسرحي ككل،مطلعاً على كل ما تشير إليه المدارس النقدية الحديثة،في ضوء الإحالات إليها،ماسكاً بالمصطلح النقدي،محيلاً عليه في مظانه، كي يبقي العملية النقدية في إطارها النقدي الصارم، ويرسم حدود المصطلح ولا يتجاوزه، ولهذا نراه ناقداً في النظرية، وعارفاً في طبيعة حركة النص المسرحي،وكاشفاً عن دلالاته،وما تعنيه رموزه، حيث يناقش النص في بعده السوسيولوجي على الرغم من انه يعتمد على مصطلحات لمدارس نقدية حديثة أخرى، وكأنه يعيد صياغة (المنهج التكاملي) الذي يجمع مفاهيم مدارس متعددة، فينفتح عليها كي لا يظل أسير مدرسة نقدية واحدة لا غير”- ص 11. الدكتور عباس الجميلي ،في كتابه، ذهب إلى أن مسرحيات الفترة التأسيسية في العراق وفي بدايات القرن الماضي،فقيرة في بنائها الدرامي ويشوبها الكثير من النقص والضعف، من خلال عدم تبلور الصراع، وكذلك وضوح الشخصيات المسرحية،وافتقادها لحبكة ماهرة لرسم الشخصيات
داخل النص المسرحي، و أن هذه الأمور حولت مسرحيات تلك الفترة إلى نصوص متواضعة تحمل معها صفات “تعليمية وعظية عبر مواضيع تناولت أموراً اجتماعية غَلبَ عليها طابع المباشرة والسذاجة الفنية”، ويعيد هذا الأمر لأسباب ومحددات تتعلق بالمنحى العام للتجربة الدرامية العراقية وتاريخها في العراق وأهمها” الأعراف الاجتماعية العشائرية السائدة في تلك المرحلة، وكذلك هيمنة الدين على أفعال الناس بوصفهم مجتمعاً إسلامياً”، من خلال الأكثرية السكانية. إذا عدنا إلى التاريخ المسرحي العراقي فإننا نجده قد بدأ تقليداً لأعمال فرق مسرحية عربية وأجنبية- مدارس التبشير- وهي مجاميع تبشيرية مسيحية كانت تزور العراق وتعمد لفتح المدارس وتقدم نشاطات ثقافية – فنية واجتماعية ، وكانت البداية في الموصل ثم انتقلت إلى محافظات أخرى.وفيما يخص التاريخ الحديث للمسرح العراقي لابد من ذكر الحقائق التالية، تشير ” المس بيل” في رسالة إلى والدها مؤرخة بتاريخ الثاني من شهر آب عام 1920:” حضرتُ عصر ذات اليوم عرض مسرحية وطنية قام بتمثيلها جماعة من الشبان العراقيين الوطنيين ، وان جميع مَنْ كان حاضراً في القاعة كان يصفق بحماس كلما وردت كلمة (الاستقلال) إثناء التمثيل”.كما تؤكد الباحثة” بديعة أمين” على إن المسرح العراقي استمد ملامحه وتوجهاته وموضوعاته من الواقع الاجتماعي – السياسي ، ونستطيع أن نجد انعكاسات ذلك الواقع مثلاً في المسرحية العراقية (وحيدة) 1926م لـ”موسى الشابندر”. كما تؤكد الباحثة” أمين”، في دراستها المعنونة (المسرح العراقي.. إخفاقات وعثرات)، شبكة الانترنت العالمية، أن:” المسرح العراقي – الحديث- تأثر في إطار الواقع الاجتماعي الذي كان قائما آنذاك،وبما كان يكتنف ذلك الواقع من ظروف سياسية واقتصادية طاغية ، وثقافية عامة”.
وتضيف:”إيجازاً نستطيع أن نحدد تلك الظروف بانتهاء السيطرة العثمانية وبداية السيطرة الاستعمارية البريطانية ، ثورة العشرين ، الحكم الوطني مرتكزاً بصورة أساسية إلى الإقطاع ، والنضال من اجل إنهاء السيطرة الاستعمارية وإقامة سلطة وطنية حقة”. وورد في كتاب الأستاذ عامر بدر حسون ” كتاب العراق..1200 صورة قديمة” وبطبعته الثانية – بغداد 2012 ، الصفحات(269 -273 ) ما يلي: صورة جماعية لأول فرقة حملت اسم المسرح القومي عام 1920، وقدمت في بغداد مسرحية (وفود النعمان على كسرى انو شروان) ، وثمة صورة أخرى لمسرحية (الحمال) التي قدمت على قاعة ثانوية الموصل عام 1927 ، و خمس صور لعروض مسرحية قدمها الجيش الانكليزي بالتعاون مع بعض البصريين لعروض مسرحية متنوعة عرضت عام 1938 في البصرة بمناسبة أعياد (الكريسماس) وقد أتاحت للجمهور البصري التعرف على إشكال متنوعة من العروض المسرحية ، وثمة صورة جماعية لفرقة مسرحية كردية تعود لأوائل الأربعينات وضمت أكثر من (45 ) ممثلاً وممثلة، كما نشير إلى أن السيد طالب النقيب ، المرشح، حينها، لتولي عرش العراق، قد افتتح عرضاً مسرحياً عام 1920 قدم على قاعة إحدى المدارس في منطقة البصرة القديمة.كتاب الدكتور عباس الجميلي أشتمل على جهد توثيقي تناول الحركة المسرحية في البصرة خلال عقد السبعينات، وتناول السيرة الذاتية – الثقافية للكاتب المسرحي بنيان صالح ومكونات وعيه الأولي و مشروعه الطموح في تكوين ” جماعة كتابات مسرحية” بالاشتراك مع الكاتب المسرحي “عبد الصاحب إبراهيم” وإصدارهما البيان المسرحي الأول عام 1970 ثم انضم إليهما بعد ذلك ” حميد مجيد مال الله وكاظم عيدان لازم وعزيز الساعدي وجبار صبري العطية” وتأسيسهم فرقة”كتابات مسرحية”
ومساهمتها في العروض المسرحية التي قدمت في البصرة. كما درس وظيفة عناصر النص عند” بنيان صالح” من خلال مشروعه الثقافي، وعناصر البناء المسرحي لديه عبر الفكرة و الشخصية ،والحوار، والحُبْكة،والصراع، وتصادم المصالح، والحداثة الفنية، ومشهد الجحود، ونماذج طبيعية، في مسرحيته “العمة الزرقاء” التي نشرت في مجلة (الأقلام)، السنة الخامسة والعشرون- العدد الخاص بالمسرح العراقي ص(132 – 138)، وقد نشر إلى جانبها ثمانية نصوص مسرحية لكل من” محي الدين زنكنه،و يوسف العاني،وجليل القيسي، وسعدون العبيدي وعبد الستار ناصر، وشفيق المهدي وشوقي كريم، ومسرحية لـ”كارلوا كولوني” ترجمها عبد الله جواد .وقد جهد د. الجميلي لتحليل النص المسرحي مع الارتباط بفترة مغامرة “احتلال الكويت”، من قبل النظام المنهار، وما أعقبها من أحداث مروعة أصابت المجتمع العراقي في الصميم،ونرى أن نص مسرحية” العمة الزرقاء” كان نصاً،مواجهاً بقوة لتوجهات النظام المنهار السياسية- الاجتماعية من خلال إشاراته وشفراته ،الرمزية الفنية ودلالتها ، وقد أحجم كل المخرجين العراقيين عن تقديمه على المسرح بالرغم من الكلفة المادية البسيطة التي تترتب على ذلك، إذ لم يحدد الكاتب أي مكونات في ديكور العرض المسرحي غير”شجرة يابسة في منتصف أعلى المسرح”، وشخصياتها (6 ) فقط ، كما لم يتم تناولها في البحث والدراسة أو حتى الإشارة إليها، وتعد دراسة د. عباس الجميلي الأولى في هذا الشأن، وقد لاحظنا بعض الفروقات في النص المنشور سابقاً ، والنص المعتمد ضمن كتاب د. عباس الجميلي ومنه الإهداء الذي وجه: “إلى:نازك الاعرجي ..في حبها للمسرح العراقي وذودها عنهُ”، وأمور أخرى، لسنا في وارد التطرق إليها كونها لا تغير الطبيعة العامة – الجوهرية لتحليلات د.
الجميلي في عطاءات الكاتب بنيان صالح ورحلته المسرحية التي تضعه ضمن رواد المسرح العراقي كناقد لامع وكاتب مسرحي متميز.