منذ اندلاع الأزمة السورية في شتاء عام 2011 وبالتحديد في شهر شباط والعراق من أكثر الدول تأثرا بهذه الأزمة وتداعياتها، الناتجة من الصراع المحتدم بين الجيش السوري من جهة والجماعات المسلحة من جهة أخرى ذات التوجهات والأيدلوجيات المختلفة ، وعلى الرغم من تعدد الجهات والدول الداعمة لهذه الجماعات والنزاع العسكري الحاصل بينها وبعنف لمد نفوذها على الأرض السورية ، إلا إنها توحدت حول هدف واحد وهو إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد ، وكان لموقف العراق المحايد والمبدئي من هذه الأزمة الأثر الأكبر في توجه الأنظار للدول الداعمة للصراع إلى العراق وإعادة النظر في التعامل مع نظامه السياسي القائم ، ومحاولة إيهام الآخرين بان هذا الموقف نابع من دوافع طائفية كون الرئيس بشار الأسد من الطائفة العلوية… وقد أوضح العراق في أكثر من مناسبة بان موقفه هذا هو ليس دعما للنظام ، بقدر ما هو تحمل للمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه إزاء الشقيقة سورية وإزاء أمنه كبلد جار لها … كما جاء في تصريح رئيس وزرائه السابق السيد نوري المالكي في بداية هذه الأزمة حين قال … (ان سوريا دولة محورية في المنطقة وان الحكومة العراقية لا تؤيد تغيير النظام لان المجهول سيؤثر على امن العراق والمنطقة من جهة أخرى)… وقد ساهم هذا الموقف في صمود الحكومة السورية على الرغم من كل التحشيد الدولي المناهض لها والذي اختلفت إشكاله من الدعم العسكري المباشر إلى الدعم اللوجستي والإعلامي ، الذي حول دفة الصراع إلى طائفي مقيت لخداع اكبر عدد من المتطرفين واستدراجهم بالآلاف ومن أكثر من ثمانين دولة في العالم للقتال هناك مندفعين وراء الفتاوى الصادرة من شيوخ القتل والفتنة والفضائيات المدعومة من الدول الساعية لإسقاط النظام هناك ، وجعل العراق الساحة الخلفية لهذا الصراع من خلال الخطوة التي أقدمت عليها بعض الجماعات المتطرفة العاملة في العراق وسوريا ، بتوحيد صفوفها تحت مسمى دولة العراق الإسلامية في العراق والشام (داعش)
والعمل على تقويض النظام والسلم الأهلي في كلا البلدين … وقد افصح هذا المخطط الشيطاني الكبير الذي ساهمت فيه دولا غربية وإقليمية وبعض الإطراف العراقية عن نفسه بما حدث في التاسع من حزيران عام 2014 وسقوط مدينة الموصل بيد الإرهاب العابر للحدود وحواضنه الداخلية ، وما تلا ذلك من تداعيات أمنية وسياسية خطيرة جعلت من العاصمة بغداد في مرمى التهديد الإرهابي لهذا التنظيم ، لولا دخول عاملان رئيسيان هما فتوة الجهاد الكفائي الذي أصدرته المرجعية العليا المتمثلة بسماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني ، والدعم العسكري واللوجستي الإيراني الروسي الغير محدود والذي استطاعا قلب المعادلة وإعادة التوازن على الساحة العراقية ، ومكنا العراق من استيعاب الصدمة والإمساك بزمام المبادرة من جديد ضد الإرهاب ، وما تحرير محافظة ديالى وصلاح الدين وجرف النصر وأجزاء كبيرة من محافظة الانبار إلا ثمرة لهذين العاملين ، وكان لدخول الدب الروسي بهذه القوة في الأزمة السورية ودعمه للعراق في مواجهة الإرهاب قد أعاد لروسيا شيء من مكانتها الدولية التي اضمحلت منذ أكثر من عقدين ، وساهم في تغيير بوصلة النزاع لصالح هاذين البلدين من خلال الدعم السياسي المتمثل بامتلاكها حق النقض (الفيتو ) في مجلس الأمن ، ووقوفها بوجه الكثير من القرارات الدولية المعدة من قبل وأميركا وحلفائها لإضعاف سوريا وإسقاط النظام السياسي القائم هناك، إضافة إلى الدعم العسكري واللوجستي الذي قدمته للجيش السوري على مدى الفترة الماضية ودعمها العسكري للعراق في حربه ضد الإرهاب … وكان لظهور فلاديمير بوتين كزعيم قومي جديد للأمة الروسية أعاد أحياء جذوة الصراع مع عدو الأمس القريب الولايات المتحدة الأميركية وأحيا شبح الحرب الباردة من جديد ، حيث كانت روسيا بحاجة إلى هذه الفرصة لإعادة مكانتها الدولية ، وقد طغى الهدوء في تصريحات المسؤوليين الروس في بداية النزاع المتمثلة بدعوة الرئيس بوتين الرئيس الأسد بالإسراع بإجراء عملية الإصلاح السياسي في سوريا ، ومنع وزير خارجيته سيرغي لافروف من تدويل الأزمة السورية وتحويلها إلى أروقة الأمم المتحدة ، ومن ثم تصاعدت حدة هذا الموقف عندما أدركت روسيا خطورة ما يجري وما اعد لسوريا في دهاليز صناعة القرار الأمريكية والغربية وحليفاتها في المنطقة ، والسبب هو خوف روسيا على مصالحها في الشرق الأوسط كون سوريا تمثل آخر حلفائها هناك ، وأهمية تواجدها في البحر المتوسط المتمثل في ميناء طرطوس السوري ، وان سقوط سوريا بيد المتطرفين وحلفاء الغرب سوف يجعلها تخسر هذا المنفذ البحري المهم في العالم ، وأما العراق فانه يمثل لروسيا جزء من خط الممانعة ضد المشاريع الأمريكية والغربية في المنطقة والعالم وبإمكانه أن يتحول إلى حليف سياسي واقتصادي قوي لها إذا ما توفرت الظروف السياسية في داخله لذلك ، وكان موقف الجمهورية الإسلامية إلايرانية واضحا وصريحا اتجاه ما يحدث في العراق وسورية ، وذلك من خلال دعمها العسكري لهما ورفضها لكل أشكال الإرهاب في المنطقة ، وبدا اكثر وضوحا في دعمها الا محدود للعراق في عمليات تحرير محافظاته المغتصبة من قبل الإرهاب ، ورفضها لسقوط نظام الرئيس بشار الأسد الحليف الستراتيجي لها على مدى أكثر من ثلاثة عقود ، فقد سارعت ومنذ بداية الأزمة إلى رفض ما يجري في سورية وعدته مؤامرة غربية على المقاومة في فلسطين ولبنان كما جاء على لسان المتحدث باسم خارجيتها السيد رامين مهمان في نيسان من عام 2011 … (إن المظاهرات المناهضة للحكومة السورية تجيء في إطار مؤامرة غربية لزعزعة حكومة التي تؤيد المقاومة) كل هذه المواقف المعلنة والغير معلنة قد بلورت موقفا موحدا من ما يجري في العراق وسوريا مما يمهد لنشوء تحالف في المنطقة ، إذا ما توفرت له الظروف المناسبة من خلال إنهاء لأي وجود لداعش وحلفائها في هاذين البلدين الجارين وتعافيهما من جديد ، فان هذا التحالف سيصبح تحالفا ستراتيجي ، سوف يعمل على تغيير المعادلة الجيوسياسية في المنطقة والعالم وسيكون العراق حجر الزاوية في هذا المحور ، الذي سيمتد من روسيا إلى جنوب لبنان مرورا بإيران والعراق وسوريا … وهو الهلال الذي أشار إليه سابقا الملك الأردني عبد الله الثاني في لقاء مع صحيفة الواشنطن بوست في أيلول عام 2004 أثناء زيارته للولايات المتحدة …(حين حذر من قيام هلال شيعي يمتد من إيران إلى جنوب لبنان مرورا بالعراق وسورية وتأثيره على خريطة المصالح السياسية والاقتصادية لبعض دول المنطقة )… لكن هذا الهلال اذا ما نشئ في المستقبل القريب فلن يكون ذا طابع طائفي كما اشار العاهل الأردني بل ستكمل احد أطرافه روسيا الاتحادية بكل ما تحمل من ثقل دولي على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري و ستنزع عنه صبغة الدين والطائفة لتحوله الى محور وجبهة إقليمية دولية تقف بالضد من السياسات الأميركية والغربية في المنطقة ، وستحد من النفوذ والتدخل الخليجي والتركي في الشأن العراقي وتحجم النفوذ الأمريكي السلبي فيه ، بعد ما ادرك الجميع عظم المؤامرة التي تقودها اتجاه العراق والمنطقة وسعيها الى جعل العراق بؤرة للإرهاب والمتطرفين لاستقطابهم من كل دول العالم إليه واستنزافه عسكريا واقتصاديا في ما يسمى بعملية ( عش الدبابير ) ، التي أفصح عنها العميل السابق لوكالة الأمن القومي الأمريكي ادوارد سنودن ، وقد اتضحت هذه المؤامرة مما نشاهده الآن من تذمر وعدم رضا أمريكي عن ما حصل من انتصارات كبيرة للجيش العراقي وأبناء الحشد الشعبي الأبطال في محافظة صلاح الدين من خلال تصريحات كبار مسؤوليه الحكوميين وأخرها ما أبداه قائد الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال ديمبسي ، من قلق اتجاه التقدم الكبير الذي تحرزه القوات العراقية والحشد الشعبي في محافظة صلاح الدين ، وعزفه على الوتر الطائفي و خوفه الغير مبرر على أبناء الطائفة السنية هناك من عمليات انتقام قد يقوم بها الحشد الشعبي اتجاهها … لذلك أصبح التعويل على الولايات المتحدة الأمريكية في إيجاد حل للازمة العراقية غير مجدي ، وعليه يجب ان يلجأ العراق إلى حلفاء آخرين يكونون أكثر ضمانة منها وتحملا للمسؤولية ، وفي قراءة سريعة لما يحدث الآن فان البديل المطروح هما الجمهورية الإسلامية الإيرانية وروسيا ، وان نشوء مثل هذا المحور سوف يعيد شيء من التوازن الدولي الذي افتقده العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي عام 1990 وسيجني العراق ثمار هذا التحالف بنشوء حكومات قوية قادرة على مواجهة كل التحديات والأزمات التي تعصف بالعراق منذ أكثر من احد عشر عام ، إضافة إلى ما سينتجه هذا المحور من اتفاقيات اقتصادية وعسكرية ستنعكس إيجابا على البلدان المشاركة فيه.