يعتبر التسامح Toleranceمن المفاهيم المتداولة اليوم التي تستخدم في السياقات الاجتماعية والثقافية والدينية التي تصف مواقف وممارسات واتجاهات تتسم باحترام الآخر ونبذ التطرف والعنف والتسامح مع الآخر المختلف في الفكر والعقيدة والموقف، أي بمعنى آخر قبول الآخر المختلف سواء في الدين أو العرق أو السياسة أو الثقافة والاعتراف به كند.
ومن المفارقة ان التسامح يولد من رحم التعصب الذي يشتد في أوقات العنف والإرهاب. وبذلك يكون التسامح نقيض التعصب والعنف المستخدم في الممارسات والأفعال والمواقف والأقوال التي تحظر التمييز العرقي والديني والفكري.
يقول فولتير: “أنا لا أؤمن بكل ما تريد ان تقول ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في ان تقول ما تريد”. أو كما يقول الإمام الشافعي”: “رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”. وهذان القولان يوحيان بمعاني التسامح في تبادل الرأي والاجتهاد فيه.
والتسامح هو اللين والتساهل مع الآخر والعفو عن إساءته. وهو عكس التشدد والتشنج والتصلب في علاقة الإنسان مع الآخر إذا ما صدر عنه ما يسيء إليه قولا أو فعلا. وإذا قلنا ان التسامح يعني التساهل فليس معنى ذلك الضعف والجبن والتخاذل وإنما منتهى القوة، لأنه من أسمى فضائل المجتمع المدني الذي يقوم على التعدد والتنوع والاختلاف، والذي يتضمن طاقة كبيرة من اتساع الصدر وضبط النفس مما يسمح بسيطرة العقل والحلم على الجهل والحماقة. وبمعنى آخر انه سلوك حضاري رفيع يسلكه الإنسان في مواجهة أخطاء الآخرين بالعفو والمغفرة والابتسامة ليضيء شمعة في درب المحبة والسلام في قلب من يُخطئ. وبهذا فالتسامح هو فضيلة نبيلة تنتج من احترام الآخر والاعتراف به عن طريق التواصل والتفاهم والحوار.
يقول غولدمبرغ :“من الأفضل ان تكون متسامحا على ان لا تكون”. فالتسامح يقيم علاقة إيجابية مع الآخر ويدفع المرء إلى ان يكون حضاريا متسامحا في مواجهة أخطاء الآخرين وزلاتهم، وبصورة خاصة حين يكون التسامح عفوا عند المقدرة أو إشعال شمعة من المحبة والسلام في قلب من يخطئ التعامل مع الآخر ويخرج عما يتعارف عليه المجتمع.
والتسامح، كموقف من الآخر، واحترام الرأي والرأي الآخر ليس بجديد. فقد ظهر مع الأديان السماوية وبخاصة المسيحية والإسلام واديان أخرى دعت إلى التسامح، ولكنه برز كمفهوم اجتماعي وثقافي وسياسي في العصر الحديث وفي سياق التحولات البنيوية العديدة التي ظهرت في عصر الحداثة والتنوير والتقدم الاجتماعي ومبادئ حقوق الإنسان، والتي قامت على أنقاض مجتمعات العصر الوسيط وفي سياقات الصراع بين الدول القومية والدولة الدينية والاضطهاد الديني ومحاكم التفتيش في أوروبا التي أججت نيران الحروب.
وكان أول من صاغ مفهوم التسامح هو كاستليون في جداله مع كالفن عام 1553. وفي عام 1598 منح ملك فرنسا هنري الرابع رعاياه الكالفينيين الحق في الممارسة الحرة لديانتهم بموجب مرسوم “نانت” ولكن مرسوم نانت ألغي عام 1685 في ظل حكم الملك لويس الرابع عشر. كما صدر مرسوم في زمن الملك العادل فردريك الكبير في بوتسدام عاصمة بروسيا الألمانية يلزم اتباع المصلح الديني لوثر بالتسامح مع الإصلاحيين من إخوتهم في الدين. وتساءل الملك الألماني الشهير فردريك الكبير(1740-1786): هل بوسع الكاثوليكي ان يكتسب الحقوق المدنية؟ وقال:” ان كل الأديان جديرة بالتساوي وحسب الناس الذين يعلنون إيمانهم بها ان يكونوا صادقين. ولو أراد الأتراك والوثنيون ان يجيئوا إلينا ويقطنوا في بلدنا لبنينا لهم المساجد والمعابد. فكل أمرئ في مملكتي حر في ان يؤمن بما يريد وحسبه ان يكون صادقا”.
ان الخطوة الأولى للوقوف أمام العنف تبدأ بوعينا بخطورة ثقافة العنف والتربة التي ينبت فيها. وهو ما لا يمكن فهمه وتفسيره إلا بإدراكنا ان ثقافة العنف السائدة تعطيه مساحة أكبر. وإذا كانت ثقافة العنف تجعل منه فضيلة الإنسان القوي، فان التسامح يقدم بوصفه ضعف الإنسان الذي تعوزه الشجاعة لأن يكون متسامحا. وتكمن قوة التسامح في مبدأ ان تعيش وان تترك الآخر يعيش حياته بسلام. وبهذا يصبح التسامح طريقا للتعايش السلمي مع الآخر واحترامه. كما تظهر قوة التسامح عادة في ردود الفعل ضد السلوك العدواني، الذي ينتج عن تصريحات أو تعبيرات أو مواقف غير مقبولة واتخاذ موقف متسامح منها.
ولهذا فالتسامح يتطلب دوما انفتاحا فكريا على الآخر، هدفه نشدان الحقيقة كفضيلة أخلاقية ينبغي زرعها وإحاطتها بالرعاية والعناية حتى تنمو وتزدهر.
وهناك نقطتان رئيستان تشيران إلى معنى التسامح بصورة عامة هما: أولا، انه يقوم على تفهم وإدراك موجه من الضمير لاحترام الرأي الآخر وفهمه، وثانيا، انه يقوم على مبادئ وقوانين المجتمع المدني التي تضمن احترام حقوق الإنسان.
ومن اجل ان يكون التسامح ممارسة عملية فانه يحتاج إلى درجة معينة من الانفتاح وسعة الصدر وقبول الآخر والتحاور معه. ففي المجتمع المدني الذي يتصف بالتعدد والتنوع والاختلاف، تتكون هوية جمعية تتخلى عن التعصب العنصري والديني والطائفي والثقافي، ولكن بشروط عدة يجب توفرها، منها ان يكون الإنسان ملاماً على سلوك مستنكر أو غير مرغوب فيه، وان لا يسمح للملام بالاستنكار أو ان يعتبر ما قام به سلوكا طبيعيا، وان لا يخلط بين السلوك الملام عليه والاستنكار. والواقع يجب ان لا يكون التسامح واجبا، لأن على المرء ان يميز بين التسامح الإيجابي والتسامح السلبي. كما ان التسامح ليس ترفا فكريا، بقدر ما هو شرط أساسي لخلق مجتمع منفتح يؤمن بالتعددية والديمقراطية وكذلك بالخصوصية ويحترم الآخر وينظر إلى الاختلاف كعامل إغناء لحوار الحضارات وليس كخطر على الهوية.
هل هناك حدود للتسامح؟، ومتى نتسامح ومتى نوقف الآخر المعتدي عند حدود يجب ان لا يتخطاها؟ ان حدود التسامح تبدأ عندما يكون القانون قويا ومحترما ومطبقا، ويكون الأفراد متحررين من هاجس الخوف والقهر والاستغلال. ولذلك تصبح له قوة نسبية وقيمة اجتماعية – أخلاقية في مجتمع مدني يحترم ويصون حقوق المواطنين. كما ان هنالك تسامحا فعالا وآخر سالبا، وعلى المرء ان يميز بين التسامح كفضيلة والتسامح كقهر وإذلال واستغلال للحرية باسم التحرر من المهانة. ويصل التسامح إلى قمته عن طريق قوته النسبية، ولكن على المرء ان يميز في ذات الوقت، بين من يقول ” أنا متسامح ” وبين من يقول ” سوف أحاول ان أكون متسامحا”. فالأول هو قول فعال ويفترض القوة أولا، والثاني يقترب من ان يكون متسامحا. وأفضل أشكال التسامح ما يتم عن طريق التفاهم والحوار المتبادل واتخاذ موقف مرهف الشعور من الآخر. وهو موقف يتطلب معرفة الآخر الذي ينبغي احترامه، وكذلك إرادة واعية لفهم وتحديد موقف الآخر منه الذي لا يمكن قياسه بالملاحظة والكلام فحسب، بل عن طريق العلاقة الحوارية الجادة المتبادلة بين الطرفين. كما يتطلب الاحترام، قناعة باعتباره معنىً محدداً على المرء ان يفهم ويستوعب تعقيداته.
والحقيقة ان التسامح هو المقدمة المنطقية للديمقراطية أو كما قال الفيلسوف إدجار موران” ان التسامح ضرورة ديمقراطية، لأن الديمقراطية تتغذى من صراع الأفكار وتندثر بصراع الأجساد. والديمقراطية هي ذلك النظام الذي يحترم عملياً ثلاثة مبادئ أساسية” الأول هو التسامح، والمبدأ الثاني هو ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. والمبدأ الثالث هو المساواة والعدالة، وهي مبادئ لا يمكن ضمانها إلا في نظام تمثيلي برلماني. وتعود هذه المبادئ أساسا إلى ثلاثة فلاسفة محدثين هم: جون لوك ومونتسكيو وروسو. إن هذه المبادئ والأفكار الديمقراطية لم تكن لتنجح دون إرادة سياسية قوية تزامنت مع مواقف السياسيين في أوروبا وإدراكهم للعواقب الوخيمة لعدم التسامح.