كأن قمم الجبال الملتحفة بالضباب ترحب بقدوم ذلك الرجل الأبيض الآتي من بلاد بعيدة وكأن الرياح المولولة هناك تقوده بعصفها الى اللامتناهي المجهول … فالناس الذين رآهم في هذه البقعة غير الناس الذين يراهم كل يوم, والطقس الذي بدأ يستشعر وقعه تدريجيا غير ذلك الطقس الذي آلفه في بلاده !.
حينها أدرك بعد تمعن بأنه وسط أرض يطلقون عليها أرض المجد الصاخب ,أرض الكهنة ذوو الرؤوس الحليقة, أرض الفقراء الناقمين على القدر … أنها الصين التي تتنفس الغموض كل لحظة كما وصفوها الذين جاؤوا قبله , وأمام هذه الصدمة المبررة انتابت جسده رعشة أشبه بزمهرير عابر !.
وعندما نزل من سفينته على تخوم المدينة الكبيرة (بكين) راح يتجول في شوارعها بقلق ممزوج بالترقب ورأى العربات الفاخرة التي مرت من أمامه كيف ان العبيد أشباه العراة يجرونها وأعينهم كأنها تنطق لغة لا يفهمها, وكيف ان حراس الكهنة (الحليقي الرؤوس ) يندسون وسط الحشود الغفيرة كأشباح الضحايا الذين لا يراهم غير قاتليهم ! . وعندما أرخى الليل سدوله في تلك البلاد ما زال ويليام – ذلك الرجل الأبيض يتجول في شوارع وأزقة المدينة الى ان اهتدت قدميه الى مدينة المعابد الحجرية وعليها يبرز تمثال “بوذا” القديم في وضع متربع الى الأرض, الآلهة الحجرية كأنها في أصطفافها الدائري تتراقص من حوله كفتيات رشيقات في عرض يقمن به أمام جمهور المسرح !.
كل شيء هنا هادىء حد السكون حتى الاحتفالات الليلية التي تقرع فيها الطبول وتطلق فيها الألعاب النارية بالرغم من صخبها وضوضائها المتصاعد إلا أنها تحمل في عمق ذلك الصخب والضوضاء أجل معاني السكون الذي قد يمهد للثورة القادمة كما قال له أحد المسنين في السفينة , لكن الناس عامة كانوا في بكين يحتقرون اليابان ويعتبرونها العدو الأول لهم قبل الرجال البيض لأسباب كثيرة ومعروفة .
الله القوة البشرية الديدان الأرضية … كلها لا تعني لهم شيئا غير الوجود الذي ما زالوا ينسبونه للامرئي الأكثر رصانة وعمقا فالوجود هناك ليس الذي نعرف في بلداننا بل هو أكبر من ذلك بكثير, فمن يشاء ان يبحث عن سر الوجود في بكين سيعثر عليه بين يدي بوذا الفخارية !.
لم يرى ويليام الصين العظيمة بمدنها الفخمة وشوارعها العريضة بل رآها عالم لا مرئي يسبح في أحشائه يخترق الحدود المرسومة ويدور حول نفسه ألف مرة ومرة ويعود الى النقطة التي بدأ منها وهكذا …. كان تمثل له الصين الصراع
الأزلي الذي نمثل نحن وقود استمراره في هذا الكون, يتمركز في تلك البقعة (الصين) بل يحيى منها مغطيا الأفاق كسحب متخمة .
بوذا المتربع الذي رآه اليوم كان يمثل بالنسبة له أرواح لمليار صيني مختبئة خلف هذا الهيكل الحجري الذي تجذرت من مساماته “زهرة اللوتس” التي لن يتنفس رحيقها غير المسافرين الغرباء كما يقول الرهبان والفلاسفة الصينيين !.
هكذا أخبره لي- تي وهو أحد أبناء وجهاء بكين المتعصبين بأن الصين ليست دولة مثالية فحسب بل هي سر السكون والحركة في هذا العالم , سر المحبة والكراهية تجاه البيض الغرباء !.
عندها تمتم وليام له قائلا : “كيف يمكن ان يجتمع شعور الحب والكراهية معا تجاه الآخر ؟!” رد عليه بابتسامة بليدة مكتفيا بعبارته : ” أرجو ان لا تكتشف ذلك بعد فوات الأوان يا صديقي !” .
حينها لزم الصمت الذي أجبره على كتمان ما سيستطرد … فذلك كان أفضل بالنسبة له على أية حال .
طوال الطريق لم يفتح كلاهما فمه للآخر الى ان وجدا نفسيهما وسط بيت أبيه العجوز الذي لم يكن أقل حبا و تعصبا لبلده من لي-تي و عندما دخل عتبة البيت أثارت رسوم لمحاربين منقوشة من الحرير على الجدران دهشته ليس لرونقها الغير مسبوق فحسب , بل لأن عيون المحاربين الحريرية كأنها كانت تنظر إليه دون العجوز و لي- تي ! . بالرغم من ان هذا الموقف لم يرعبه كثيرا غير نظرات العجوز الحادة إليه التي هي الأخرى زرعت فيه شيئا من الذعر ومن ثم قال العجوز بنبرة واثقة : ” ليست هناك ثورة قادمة بل الثورة قائمة فينا وفي أسلافنا منذ الأزل يجب ان تعلم ذلك جيدا أيها الغريب ” .
لم يشأ وليام ان يلح بأسئلته أكثر ويظهر المزيد من عدم الدراية والتخبط لأن ذلك قد يفقده اتزانه أمامهم و قد يشعره بالعار الذي لن يصمد طويلا أمام أعراف بكين الجبرية ولهذا السبب أكتفى بالغموض دون ان يسئل أو يناقش … لكن يبدو ان العجوز هذا لم يخبره عن نفسه أكثر وخصوصا ان هناك شائعات سمعها من الصينيين الذين كانوا معه على متن السفينة تقول ان ابنته “سيو-لان ” شقيقة “لي- تي ” هي جندية في الجيش الياباني , لكنه لم يشأ ان يستفسر عن سبب ذلك لأن هذا الأمر سيحرجهم بالتأكيد و خصوصا أنه ما زال ضيفا عليهم وغريبا على هذه الأرض .
وعندما قضى ليلته الكاملة مع العجوز وولده قرر الخروج في الصباح الباكر بعد ان ودع الضيفين بشيء من برود الأوربيين المعروف .
لم يشأ ان يكتشف اكثر ويحل لغز هذه البلاد الذي ما زال عالقا في ذهنه لكنه على الأقل لمح شيئا منه في عيون كل الصينيين الذين رآهم اليوم في عيون المحاربين الحريرية التي كانت تنظر إليه! . لكن ذلك لا يعني ان تكون عبثية الأعراف القبلية هذه هي اللغز الذي يبحث عنه ولا حتى أضحوكة النظام التي دائما ما نتمشدق بها نحن البيض أمام الخصوم إذن أين اللغز ….؟؟ .
هكذا استطرد في سره بعد ان أخذ نفسا عميقا قائلا : “لا يمكن ان يكون تاريخ هذه البلاد العريق هو اللغز الذي أبحث عنه فهذا قد يكون من قبيل اللغط و الحماقة ربما … لأن التاريخ بالنسبة لي حكايات تتناقلها العجائز الثرثارات لأحفادهم قبل نومهم, أو أشعار وخواطر يسردها الهائمون ليلا لبقايا النار المشتعلة على المواقد فاللغز الذي ولدت منه بكين لا يمكن ان يكون من قبيل كلمة شفهية أو حبر متزمت أو حتى حلم “! .
راح يسير هائما بين الطرقات دون ان يعي في أي مأوى ستهتدي قدميه هذه المرة . كان يروم الخروج من هذا الضيق المجهول لكنه قرر التريث والانتظار قليلا.
وبين هذا التخبط المتباعد الزوايا ارتسمت على مخيلته فجأة صورة لحديقة غامضة الملامح تملأها صخور غير منتظمة الأحجام في وضع فوضوي –رتيب لم تعر مخيلته اهتماما لمظهرها لكن كان شيء ما أكثر أهمية يحركه من الداخل شيء وراء هذه الصورة يختبىء تحت هذه الصخور, شيئا كان يمثل معنى الحب والكراهية مجتمعين! , جنات التقديس وجحيم الرذيلة , صراخ الغضب وهدوء الحكمة, شجر العفة وأوراق السقوط. لم تكن هذه الصورة سوى لحديقة صغيرة ,لكن صخورها الفوضوية تلك كانت تمثل أمامه جميع تناقضات البشر والإله التي وجدها في الصين قبل ان تصبح أرضا شاسعة كالتي نعرف اليوم !.
. كانت هذه المخيلة بالرغم من بساطتها العفوية إلا إنها أنارت فيه الشيء اليسير من حيرته الطويلة لكنها لم تجرؤ على حل ذلك اللغز الدفين الذي سيظل صداه يرن في آذانه حتى بعد عودته من بكين !.