18 يوليو، 2025 11:44 ص

تنبؤات الأديب “الحكيم”

تنبؤات الأديب “الحكيم”

تصفح الكتب الأدبية القديمة يشابه قراءة التاريخ من وجوهٍ عدة، ففي كل مرة تطالع مؤَلفاً كتب في ثلاثينيات أو أربعينيات أو ستينيات القرن الماضي، تهب فيك روحاً عتيقة سكنت منذ زمن، وتكاد تتنفس الجو القديم، وتنتقل مع كل شخوص تلك المؤلفات، ويحط رحالك معهم، متفاعلاً، مشاركاً معهم كل تفاصيل تلك الحكايات.

ولكن هل يحدث ذلك فقط؟!

وأنا أهم في تدوين هذا المقال قفز إلى ذهني حديث مؤرخينا الأوائل حين عددوا مزايا دراسة التاريخ، فإذا كان الترويح عن النفس بالاطلاع على زمن مضى احداها، فلا يمكن ان نغادر فائدة الاعتبار والاتعاظ، وهو بالضبط ما تمحنه لنا قراءة الكتب الماضية، على تعدد صنوفها، فهي تكشف لنا ملامح العصر الذي كتبت فيه، وأنماط التفكير السائدة حينذاك، ورؤيتهم لنا، نحن الذين كنا مستقبلهم في يومٍ من الأيام، مثلما سنكون للآتين بعدنا ماضياً.

في مجموعته القصصية الماتعة (ليلة الزفاف) والصادرة في عام 1966، يقدّم الأديب الكبير توفيق الحكيم رحمه الله وفي سطور موجزة للمجموعة بشيء ملفت، وكلام عميق، واستبصار دقيق، لمستقبل لم يحن بعد، ولكنه كما يبدو كان يتلمس ملامحه بشكل واضح، حتى كأنه يصفه وهو يراه قبالته، وهل هناك أبرع منه في مجال التخيل والوصف؟!

يقول الحكيم:

(أدب المستقبل لن يحتمل الإسهاب.. وقارئ اليوم والغد يكاد تكفيه اللمحة الخاطفة لإدراك الصورة الكاملة، وتكاد تغنيه الإشارة عن الإطناب في العبارة.

فالقارئ الحديث الذي يعيش في عصر الطائرات النفاثات لن يطيق طويلاً الاسترخاء في مطالعة مئات الصفحات ليحيط بصورة من الصور أو شخصية من الشخصيات، كما ان وجود الراديو والتليفزيون لن يتيح وقتاً لقارئ ينفقه في مطالعة كتاب طويل إلى جوار المدفأة، كما يقول الأوربيون، فان ركن المدفأة الذي ترعرعت في كنفه القصص الطويلة لأمثال بلزاك وفلوبير ودستوفسكي وتولستوي وسكوت وديكنز وغيرهم، هذا الركن لم يعد يحتله الكتاب وحده الآن كما كان في الماضي، بل يشاركه فيه اليوم صناديق الفن الصوتي والمرئي وبرامج مختلفة من مسموع ومنظور.

أترى مجد القصة الطويلة قد انقضى بانقضاء القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؟ … إن طابع المسرحية والقصة القصيرة بما فيه من ضغط وتركيز وإيجاز وتلميح هو الأدنى إلى طابع العصر الحديث في مستقبله القريب.

من يدري؟ فقد تدور الأيام دورتها وتصبح البلاغة في عرف العالم القادم، كما كانت في عرف الأدب العربي الغابر، هي بلاغة الإيجاز، يفرضها على العالم اليوم عصر السرعة، كما فرضها قديماً عند العرب الرحل سرعة تنقلهم بين واحات الصحراء.

السرعة في كل زمان ومكان تنمي في الإنسان سرعة الإدراك وسرعة التلقي والاستيعاب، فيتخذ الفن تبعاً لذلك من القوالب من يتفق مع روح العصر والحياة)!

ان توفيق الحكيم يسرد لنا هذا التطلع المستقبلي المشوق، بعينٍ ثاقبة وقلم أديب رشيق كعادته، ولعل قيمة كلامه تتجلى بشكل أكبر لو وضعنا أنفسنا مكانه، في العام الذي كتب فيه الرجل هذه الكلمات، لأننا حينها ندرك عن أي متغير مؤثر يتحدث!

ان الانتقالات الحضارية الكبيرة التي تمر على الأمم لا تصيب شكل الحياة فحسب، ولا تمس جوانبها المادية فقط، مهما كان مرتبطة بالاختراعات والأجهزة الحديثة وغيرها، ذلك ان أي تطور يمر على المجتمعات إنما ينعكس بشكل او بآخر على طبيعة تفكيرهم، ووشائج العلاقات بينهم، وحتى مفرداتهم وكلماتهم التي تتطور هي الأخرى وتحاكي مفردات الزمان المعاصر والراهن.

ولو قلبنا في مجلات ذلك الزمان وكتبه، لوجدنا أنفسنا قبالة فخامة العبارة، وثقل الصياغة، وأصالة الاشتقاق، ومنهجية الكتابة الرصينة، وقوالب القول الصارمة، وتمدد المفردات إن صح الوصف في فضاء الزمان والمكان، حتى لتشعر أن الكلمات تتثاءب احياناً وهي تمضي كسولة وسط الوقت الطويل الذي ولدت وكتبت فيه، قبل أن يقصر قسراً وتزداد وتيرة سرعته، وكأن طول الوقت أو بركته كانت تمنح الكاتب والقارئ في آنٍ واحد الفرصة لطرح الأفكار ومناقشة الطروحات المختلفة بإسهاب وتفصيل كبير مع الاحالات والاقتباسات والاشارات، وبشكل لم يعد اليوم ممكناً على الأقل في شكله ذاك.

تأملت كثيراً في قول الحكيم وتساءلت إذا كان حضور المذياع والتلفاز حينها قد أحدث ذلك الفارق واوجد تلك الاحاسيس بوجوب مواكبة المتغيرات، فكيف الحال لو عاش اديبنا المرموق عصر مواقع التواصل الاجتماعي، وتغريدات موقع X، ومنشورات الفيس بوك، ومضامين الانستغرام وأخواته؟!!

ان الضغط المعاصر على وقتنا المتاح، وازدحام تفاصيل الحياة، وتشعب واتساع المعارف، وثورة الاتصالات بهذه الصورة المتسارعة المخيفة والتي انتهت اليوم إلى الذكاء الاصطناعي القادم بقوة ليغير مفاهيم الأشياء.. بل ليس لها انتهاء قريب على ما يبدو، ان كل ذلك فرض حضوره الثقيل على إيقاع اليوميات، واختزلت الكثير من مجالات التفكير وقلصت من مديات الزمن المتاح، فكأننا أمام مهام أكثر وأوقات أقل.

فكيف للكلمة ان تتعاطى مع كل ذلك؟!

هنا التحدي الذي أشار اليه الحكيم بشكل بارع، واظهر وعياً وفهماً ايجابياً للتماهي معه بالشكل الذي لا يفقد جوهر المعنى وفي نفس الوقت لا يبقيه أسيراً لأزمنة ماضيات.

وكنت منذ زمن أجد ان العبارة المركزة وفي مجالات المعرفة المختلفة هي الأكثر أهمية وضرورة وصعوبة في آن واحد، فالأهمية تكمن في تحديد الرسائل بصورة أكثر وضوحاً ودلالة، وضرورة لأنها تأتي متوافقة مع طبيعة الزمان الذي نعيشه والذي لم يعد يوفر حقيقة تلك الجلسة الحنون أمام المدفأة والسكون المشوب برائحة المطر، كما صورها الحكيم، وكما نشتاق لها اليوم في ظل جفافنا المعاصر!!

أما الصعوبة فتكمن في امتلاك القدرة على تلخيص مئات الصفحات في صفحة واحدة، وآلاف المفردات في عشرٍ لا غير، ودمج الصور من غير برامج الكترونية مساعدة في صورة واحدة تجمع كل معانيها السابقة، وكل ذلك دون فقدان أصل الفكرة وشكل المعنى وبلاغة الدرس المستخلص والمطلوب، وتلك مهارة لا يملكها الجميع دون شك، وهو مما تحاوله الإصدارات المختلفة من عملية محاولة الحفاظ على رصانة المبنى والمعنى وبالتوازي مع تجديد الشكل والوعاء الذي يستخدم من أجله.

ان تنبؤات توفيق الحكيم الثاقبة تحققت كما نرى، وتحديث أشكال وأساليب توظيف الكلمة في هذا المعترك الشائك مستمر ولن يتوقف ذلك لأنه مرتبط بحياتنا ذاتها، ولن يكون هناك انتهاء إلا مع نهايتها بأي شكل من الأشكال.

وأخيراً قد لا يجد القارئ مساحة زمنية لقراءة ما كتبه الحكيم ويجده ــ وهو المعبر عنه في سطور قليلة ــ طويلاً، فأقول ان مغزى ما قاله يتلخص في كلمات موجزات:

(الزمن يتطور والكلمة تحدث لزاماً أشكالها).

أحدث المقالات

أحدث المقالات