23 نوفمبر، 2024 10:21 ص
Search
Close this search box.

(أردابيولا) لـ(يفتوشينكو):..استشراف لمجتمع في طريقه إلى الانهيار والتفكك

(أردابيولا) لـ(يفتوشينكو):..استشراف لمجتمع في طريقه إلى الانهيار والتفكك

قدم القاص والمترجم ” محمد سهيل احمد” إلى قراء اللغة العربية، لأول مرة، الشاعر الروسي( يفجيني يفتوشينكو) روائياً في روايته (أردابيولا)*. شهرة (يفتوشينكو) الشعرية قد طغت على منجزاته الثقافية- الفنية الأخرى، فقد كتب السيرة الذاتية والرواية والمقالة والدراما والسيناريو ، ومارس الإخراج السينمائي،كما مثل الدور الرئيس – سنة 1979 – في فيلم

Vzylot

وعمل فيلمين سينمائيين بوصفه كاتباً ومخرجاً هما (روضة الأطفال-1983) و(جنائز ستالين- 1990 ).أنجز يفتوشينكو رواية (أردابيولا) ، عام 1984 وصدرت بعد عامين في نيويورك، عن دار(سينت مارتنيز) وترجمها إلى اللغة الانجليزية (آرموررويسن). ثم بعد سنوات أعيد طبعها ثانية عن الدار نفسها، والمترجم يؤكد انه اعتمد الطبعة الأخيرة. و يَذكر انه: “قد جاء في الغلاف الأخير للطبعة الإنجليزية: موسكو تواجه بعض المآزق..المدينة مبتلاة بطاعون أتت به تماسيح مفعمة بالخسة والدهاء، غارقة في حفلات العربدة،ومسكونة بهاجس اقتناء الجينز الأمريكي”.رواية (أردابيولا) قد تعد بمثابة نكتة فظة و بالغة القسوة في وجه الدنيا ، وكارثة لبطلها وتمهيد لرحلته سعياً وراء الخروج من يأسه نحو أمل متجدد يكمن في ذاته، كما حاولت الرواية أن ترسم صوراً تفصيلية عن مرحلة ما قبل

وبعد(البيروستراكيا) وتوق الناس لأهمية الفرادة في شؤونهم وقناعاتهم الشخصية. وهي تندرج عن قصد أو دونه، ضمن ما يطلق عليه بـ( الكتابة الضد)، لكنها لا تقع في منطقة (البروباغاندا)السلطوية النفعية والمجانية والدعائية، ولعلها توثيق حقيقي لشرائح اجتماعية ينتمي الكثير منها إلى ما يطلق عليه، على وفق التوجهات الفكرية والاجتماعية السابقة بـ”الشغيلة المثقفة” أو “شبه المثقفة”،و بعضها تقدم في السن وعانى من الإحباط ، بعد أن نهكته وانتهكته (السلطة) بقهرها الدائم وشكوكها غير المبررة إنسانياً، وكذلك بفظاظتها ،على وفق الوقائع الفعلية التي جرت قي تلك المرحلة ، بالترافق مع أهوال الحروب الأهلية التي أثارتها القوى المضادة للتغيير الذي حصل عقب سقوط الحكم القيصري ، لمواجهة تلك التغييرات التاريخية والساعية بمختلف الوسائل لوأد ما أنتجته من تحولات كانت أثمانها مريرة ومفجعة وباهظة جداً ، وكذلك سنوات الحرب العالمية الثانية. فتحولت أحلام القسم الآخر الأكثر شباباً نحو الحياة في الغرب وبات يواجه مصاعب سنواته عبر التعامل ،خلسة في السوق السوداء، حتى وان كان المضاربة بتذاكر دور العرض السينمائية التي تعرض أفلاما هندية، وعاش شغوفاً بجميع ما هو قادم من العالم الرأسمالي: الدولار، الكوكا كولا، بناطيل الجينز، الويسكي خاصة (الوايت هورس)،و سكائر( الـمارل مابارو) برائحتها النفاذة القادمة من بعيد، والانخطاف بالـ(روك اندرول) بإيقاعاته الصاخبة. يوضح(أردابيف)، بطل الرواية، للفتاة التي التقطها في سيارته من الشارع، و كانت تحمل نسخة من مجلة(الآداب الأجنبية) وتعاني من الإجهاض بطريقة بدائية، انه يعمل على مواجهة مرض السرطان الذي ينشب أظفاره في صدر أبيه ،عامل الفحم في قطارات سيبريا، عبر محاولاته البحثية

الجامعية من خلال تهجين حشرة مع نبتة الـ(أربيدولا) مؤكدا لها:”نحن علماء الوراثة فقط مَنْ يستطيع ذلك من خلال المزاوجة بين الحشرة والنبتة”، ويذكر لها شيئاً عن كتابه الثاني المعنون” كيفية علاج الأمراض المستعصية بواسطة الموسيقى”. وتؤشر الرواية إلى بعض شعراء روسيا ومنهم: ميخائيل سفيتلوف وولعه بلا حدود في الغابات الروسية ، وسرجي يسنين الذي شنق نفسه في غرفة بأحد الفنادق الرخيصة، وهو في الثلاثين من عمره، ومايكوفسكي وانتحاره في قمة مجده الشعري، وعشرات الكتاب و الفنانين،بمختلف إبداعاتهم التي تلقى الرفض المتواصل وتثير الشكوك حولهم، ومعهم كثير من البشر ومصائرهم الأليمة بعد أن ذووا في معسكرات السخرة في الثلوج السيبرية. ينال(أردابيف) درجة علمية مرموقة عن كتابيه ويتم طبعهما في موسكو أولاً، ثم في الولايات المتحدة ،والمانيا، وفرنسا، وايطاليا، وفي بلدان أخرى، وفي ذروة احتفاله بانجازه يجد في غرفته برقية أمه التي تؤكد فيها باقتضاب:” أبوك توفي.. الجنازة الأربعاء”. فلا يكترث للأمر، بل ما يهمه دأبه الدائم وسعيه المحموم إلى الحصول على ريع كتابيه بالعملة الصعبة، فلم يحضر جنازة أبيه ، لكنه يتخيل عمال سكك الحديد يحملون تابوتاً مغطى بملاءة حمراء على امتداد احد الأغصان. وينحدر من بعيد صوت أمه إليه:”هل ستأتي لدفني يوماً.. “. الجانب السردي في الرواية ينفتح على فضاءات متعددة منها الصوت المنفرد والتداعي غير المقيد بالزمان والأمكنة، والشعر والموسيقى والغابات والحانات الرخيصة العلاقات الزوجية ، التي باتت خامدة بفعل تراكم الأيام والسنوات، وخياناتها، والانغماس بشرب (الفودكا) الرديئة من قبل الجميع، وبضمنهم الفتيان وان كانت مسروقة.يسجل،للمترجم” محمد سهيل احمد” انه قدم

الرواية بلغة عربية مشحونة بشاعرية مرهفة عكست عوالمها وأجواءها بتمكن، وهي من السمات المعروفة عن قصصه، منذ بداياته الثقافية( شاعراً) ونشره بعض قصائده في بعض الصحف( البصرية والعراقية والعربية) والتحاقه بعد ذلك للدراسة في كلية التربية- جامعة البصرة- قسم اللغة الانكليزية.وتقاسمه مع القاصين(محمد خضير ومحمد عبد المجيد) الفوز بجوائز مسابقة القصة القصيرة لملحق جريدة “الجمهورية” الثقافي عام 1964 ، ومجاميعه القصصية “العين والشباك”1986 -الكويت و”الآن وبعد سنين” دار الشؤون الثقافية العامة ” بغداد-2005 ، و”اتبع النهر” 2010 – اتحاد أدباء وكتاب البصرة.و ثمة تراجم عدة له أهمها رسائل” رامبو” التي قدم لها الشاعر “حسين عبد اللطيف”، ونشرت ،صيف عام 1974 ، في مجلة “الأقلام” العراقية. إضافة لعمله في الصحافة الكويتية والأردنية،وبعد سقوط النظام عمل في صحيفة (المنارة) التي تصدر في البصرة وتوزع في كل أنحاء العراق، وبعض دول الخليج العربي، والآن رئيس تحرير صحيفة ( الأخبار) الأسبوعية، لتي تصدر في البصرة عن (شبكة الأعلام العراقية). يلاحظ في رواية (أربيدولا) أن السرد والوصف يرتبطان ويتمازجان فيها بوساطة مقاطع متكاملة من الكلمات والجمل المتواصلة وعبر التتابع الزمني لخطابها الروائي، الذي لا تؤثر في تماسكه تنقلات شخصيتها الرئيسة في الأمكنة المتعددة والأزمنة المختلفة، وبذا تغدو (أردابيولا) بمثابة (استشراف) لمجتمع بات في طريقه إلى الانهيار والتحلل التاريخي وعلى حافة التفكك تدريجياً، وعلى الجميع أن يلقي جانباً تلك العقود التي تبددت بكل ضنكها وأحلامها وآمالها وعليه ان يدفع الثمن مجدداً بسبب التغييرات الجديدة العاصفة، وانهيار أحلام ملايين البشر في كل مكان

من هذا العالم. الشاعر الروسي(يفجيني يفتوشينكو)ذهب في كتاباته الشعرية والسردية إلى التأريخ- الروسي تخصيصاً- معتمداً الوثائقية المتوفرة له. ومع انه أبدى اهتماماً بالمحطات ووجهات النظر الحكومية في سرديات التاريخ المعلنة رسمياً ، لكنه بقي يبحث في الوجه الخفي في الوقائع المخفية قصدياً . و بحثه في الوجه المغيب للواقع والتاريخ ،متجاوزاً الإطناب والبهرجة والتزويق ، وواقفاً ضد تزوير الحقيقة ، وتأبيد الذل والتزييف. يمكن اعتبار رواية (أردابيولا)مزيجاً من الشخصنة والسخرية المُرّة وكذلك (الفانتازيا) التي تجنح بقصدية نحو الحس الغنائي، وهي بمثابة بانوراما للحياة الروسية- الأوكرانية والسيبيرية ، وتعود في أحداثها ووقائعها لزمن ما قبل تفكك الاتحاد السوفيتي. يفتوشينكو الشاعر، في رواية (أردابيولا) حرص على التعامل فنياً وثقافياً مع مفاهيم (بيروستريكية)، و تقديم شخوص الرواية عبر الكناية والتلميح. فعمد إلى أن تغدو شخصياتها بين الموقف الوسطي، فلا هي مع ما يسمى، رسميا في ظل النظام السابق، بكتّاب(الضد) كبوريس باسترناك والكسندر سولجنستين وغيرهما في كل المجالات الإبداعية – الفنية الروسية، ولا مع التوجه السلطوي البيروقراطي والسعي لتجميل الفظاعات التي تواجه الإنسان، والبحث عن المبررات و التلفيق المتواصل والخادع، وتجميل رعب السلطة القامعة وبيروقراطيتها، عبر ممثليها، كما في شكوى مصور الصحيفة الرسمية جراء غضب (مديرها) الدائم عليه وتذمره المتواصل من صوره الفوتوغرافية ، كون:” الناس يظهرون فيها بثياب مهلهلة متهرئة”. وسخرية المصور، السرية، تجاه مديره ، لأنه : ” يعتقد إني أتدخل في لباسهم”. ناقد مجلة(نيويورك بوك ريفيو) وضع(أردابيولا) في خانة رواية

(الفانتازيا)، فأعترض عليه بعض النقاد الغربيين، مؤكدين، انه يمكن اعتبار رواية الشاعر (يفتوشينكو)هذه ، فكاهة سوداء تقع في منحى سردي ، و تقرأ باعتبارها عملاً شعرياً في رواية مرةً أو عملاً روائياً شعرياً مرة أخرى. وقد عدت رواية(أردابيولا) بعد نشرها في الغرب بأنها تنتمي إلى الرواية العلمية. (أردابيولا) ليست الرواية الأولى التي كتبها(يفتشينكو) فقد قدم عام 1967 رواية (بيرل هاربر) وتناولت الحرب العالمية الثانية وما جرى فيها من فظاعات، وكذلك كتب رواية عام 1982 بعنوان(أماكن الحبات) تمحورت ثيمتها على نزع ملكية أراضي (الكولاك)، بالإكراه، في سيبريا خلال ثلاثينات القرن الماضي، كما كتب رواية (لا تمت قبل الأوان) عام 1993 وهي ذات طابع سياسي وفلسفي وذاتي في نفس الوقت .

أحدث المقالات

أحدث المقالات