ورقتي في الندوة التي اقامتها كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية بالاشتراك مع اتحاد أدباء البصرة بعنوان(العلاقة مع ما بين الشعر العربي والأوربي) يوم الثلاثاء 26/ 3/ 2024 في قسم اللغة الانكليزية – قاعة رقم 13 الساعة 30: 11 صباحا
شكري وتقديري إلى رئيس قسم اللغة الانكليزية
الدكتور سلمان داود سلمان
شكري واعتزازي إلى مقدم الجلسة : الدكتور هاشم الموسوي
أمتناني الكبير للحضور الطلابي البهي..
(*)
بعد 2003 أصبح الشعرُ ذبابة ً منتهكة ً من قبل النطيحة والمتردية في شبكات عناكب النت.. والثقافة غدت ثرثرة في مقاهي التواصل . قالوا نحن الآن في عصر الرواية. يا لغزارة الروايات الصادرة لكن أين هي الرواية السيدة ومَن يناصر الرواية السيدة؟ ومن جانب آخر الشعر يتراجع في حيز أشبه ما يكون خط دفاعه الأخير وهكذا يكون الشعر جرماً صغيراً يقرفص في الفضاء الواسع سعة الرحمة الإلهية.. مثل هذه الديباجة كل يوم تبثها ثقافة الإعلام. فالحراك الثقافي يتوسط المثلث الثقافي المتكون من
(*)
موت الشعر: تروّج له الثقافة الجماهيرية وصار هذا ضمن موضة
الميتات التالية: موت المؤلف كما اعلنه رولان بارت وموت البنيوية الذي بشرنا به الفيلسوف روجيه غارودي وموت الناقد كما أعلنه الناقد رونان ماكدونالد . وموت المطلق عند الفيلسوف نيتشه
(*)
أن الهوة واسعة بين القصيدة كفن شعري تنحته ُ المشاعر وبين خبرة الشاعر الجاهزة لتصنيع قصائد لا دخل لها بالمشاعر الخاصة. هنا يتضح التفارق بين العاطفتين : العاطفة الشعرية والعاطفة الإنسانية. في العاطفة الشعرية يتجسد ذلك الغموض اللذيذ المترابط بين : العاطفة والكلمة وموسيقى الشعر، هذه العاطفة هي التي تلحُ على الشاعر أن يرسلها قصيدة ًمسطورة ًعلى الورقة وهذه العاطفة هي المحفز الأساسي لقوى الغرائز الدفينة، مكمن المشاعر والرؤى وهو محفز الإيقاع والموسيقى
(*)
العراق منصة القصيدة الأولى. وفي البدء كان الشعر وفي الشعر كانت المرأة العراقية ومن شفتيها صعدت القصيدة الأولى .ذكرتُ ذلك في كتابي( أيميسال وتأنيث الكرسي/دار المكتبة الأهلية/ بصرة- بيروت/ ط1/ 2022) كما جاء في كتاب(صلوات إنهيدوانا) للباحثة بتي دي شونك ميدر/ دار الجمل/ ط1/ 2009
إذن الشعر هويته عراقية ومشروطية الشعر هو العراق(فكن عراقيا لتصبح شاعراً) بشهادة الشاعر الكبير محمود درويش إذن الشعر من المعادن النفيسة في أرض العراق والشعر العراقي مازال برعاية محسوسة ولا مرئية من جدتنا الشاعرة الأولى في العالم انهيدوانا ابنة سرجون الأكدي
(*)
الريادة الشعرية هي التكملة الثقافية للوعي المعرفي التي قامت بتنميته الصحافة الديمقراطية، التي استفادت من ذلك الحيز من الحرية في الثلث الأول من القرن العشرين حيث انتقل العراق من الهيمنة العثمانية إلى الاستعمار البريطاني. وفي لحظة انهيار الامبراطورية العثمانية. أنبثق فكرّ سياسي معاصر مكتنز بطموحات مغايرة الواقع العراقي وتحديدا في 1924 حيث ناضلهذا الفكر الجديد ضد الوضع الرث الذي كان الفقراء ضحاياه،وتجسد هذا الفكر في شخص عراقي قادم من ألمانيا اسمه (حسين الرحال) وبجهوده الفردية أصبح هذا الفرد الثوري هو المتعدد جماهيراً يُطلق عليه (جماعة حسين الرحال) يومها برز في العراق نخبة من المثقفين تميزوا بالنزعة العصرية كالفكر الناقد والعلم الصحيح والعمل المثمر، وقد كانت تعددية الصحافة نقلة بالحياة الثقافية في التواصل والانفتاح…كما يرى الدكتور عامر حسن فياض.. وصار لهذه الجماعة التنويرية اصداراً عنوانه(مجلة الصحيفة) صدرت منها ستة اعداد فقط لأسباب حكومية. ثم تعود مجلة الصحيفة وسرعان ما تغلقها الحكومة أيضا ثم أسست جماعة حسين الرحال (نادي التضامن) ومن خلال هذه الكتلة المثقفة أخذوا يثقفون الجماهير ضد حكومة الانتداب البريطاني ووقفوا بشدة ضد زيارة ألفريد مود إلى بغداد لأنه من دعاة الصهيونية .
الريادي حسين الرحال: يمتلك قدرات وامكانات فكرية متميزة ويحمل فكراً تقدميا أسهمت في تنويع ثقافته وسعة اطلاعه وكان ينشر بالصحف المحلية والعربية والاجنبية/ 104- قيس ادريس جاسم الكاكائي. وحين نقول أن الريادة الشعرية هي تكملة للريادية
الفكرية في العراق، علينا أن نضيف أن حسين الرحال كان له اهتمامات ثقافية وكان يجيد أكثر من لغة منها اللغة التركية،
وقد قرأ بعض قصائد الشاعر التركي ناظم حكمت المترجمة للغة الفرنسية والرحال هو أول من عرف العراقيين بشعر ناظم حكمت، وفي مقال ٍ للرحال جاء فيه(ناظم حكمت شاعرُ حديث لا يزال بمقتبل العمر، بالرغم من أن شهرته قد عمت جميع أنحاء تركيا بل تجاوزت حدودها إلى الغرب، إلا أنه يجب تعريفه للمثقفين الجدد، فهو الذي وضع الحجر الأساسي للشعر الحديث)
(*)
بمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية، صدر لي (من الأشرعة يتدفق النهر) في 2013 ضمن اصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العراقية. قلت ُ في مقدمة الكتاب الكلام التالي(قراءتنا المنتخبة.. انتخبت نماذج ًشعرية ً بعيداً عن مصدات (الأجيال)..) شخصيا أرى أن مفهوم الجيل يليق بمؤرخ الأدب فقط. حين ينضّد الأدباء حسب سنوات ظهورهم الثقافي من خلال الصحف والمجلات.
(*)
مفهوم الأجيال الأدبية : أراه قيدا ً لا يحتاجه الناقد بل مؤرخ الأدب في تنضيد جحافل الشعراء. ثم انكسر هذا القيد من قبل الشعراء أنفسهم . الشاعر سعدي يوسف خمسيني بشهادة المؤرخ المستند على ما صدر للشاعر في الخمسينات (القرصان) 1952.(أغنيات ليست للآخرين)1953 (51 قصيدة) 1959.(النجم والرماد 1959- 1960) محاولته الأولى في الشعر الحر متوفرة في قصيدتي(غضب الحزين) و(تخطيط أولى لحصار غرناطة) القصيدة الأولى مكتوبة على بحر الرمل. والثانية على البحر الكامل. والقصيدتان ضمن ديوان(أغنيات ليست للآخرين) ومن يقرأ (غضب الحزين) وكان قبلها قد قرأ قصائد للبياتي وخصوصا ديوان (أباريق مهشمة) سيجد القارئ النوعي :التجاور النصي بين (غضب الحزين) و قصيدة البياتي(تمت اللعبة) وسيجد تشابهات أخرى في قصائد (51 قصيدة) لسعدي وقصائد البياتي في (أباريق مشهمة) / سامي مهدي 215/ في الطريق إلى الحداثة. / لكن.. هكذا تكون البدايات لدى كافة الشعراء لا بد من التأثر بالآخر. ثانيا سعدي يوسف بعد قراءته لقصائد البياتي: (كان يتمثل شعره ويعيد إنتاجه بطريقة يختلف بها عنه ويتفادى ما سجل عليه النقد من عيوب) في (قصائد مرئية/ 1965) صارت لسعدي بصمة ً خاصة تخلّص صوته من صدى البياتي وتمثل عميقا تجربة لوركا ودشن في شعرهِ لأول مرةالقصيدة المدورة(مرثية الألوية الأربعة عشر) وتمت كتابتها في بيروت 1964 وقد زاوج في قصيدته بين التدوير والأشطر المعتادة. هنا القفزة من فوق الجيل فالشاعر الذي كتب مجموعة دواوين في الخمسينات تجاوزها هنا والتحق بما يطلق عليه (جيل الستينات)المتأثر بالشعر الأوربي. نقتطف هذه الأسطر من قصيدة سعدي المدوّرة(مرثية الألوية الأربعة عشر):(أتيه ُ الليلَ في ساحاتِ بيروت، كأني من دُوارِ البحر مُلقى. تُغمض ُ العينان.. شرِبتُ الماءَ أسودَ في ظلال ِ التوت، لا مستُ التماع َ الطحلب ِ النهري والأسماك حدّقت به عشرين عاماً، يا مياها لم أجد وجهي عليها. آه ٍ يا أعوامَك َ العشرين، يا متسولا في الطائرات صنوبر القضبان والجرحى يا متوسلاً بالناشرين وبالنساء. تبيعُ مَن لا يشتري جرحا وتمضي في ضباب الليل../ 385 / قصائد مرئية) القصيدة كتبها سعدي في بيروت في 3-6- 1964. بالمقابل كان الشاعر حسب الشيخ قد كتب قصيدته (نخلة الله) في 1964 ثم كتب بقية قصائد ديوانه (نخلة الله ) في 1967 وقصيدة (جذور الروح)1968 وبقية قصائد الديوان تتوزع بين 64- 65- 66- 1967. القصائد تنتمي للشعر الحديث شعر التفعيلة لا توجد قصيدة مدوّرة .. نقتطف سطوراً من قصيدة( نخلة الله)
(نخلة الله)
وأمدُّ حبلا من رماد يديّ يا مطر النسيمِ
إلى يديك
لأحسَ في شفتيّ رعشة وجنتيك
لأحسَ وهجاً في يدك
لمحاً من الماضي، حرارة خبز أمي
وهج بسمتها الحنون
أو دفء قبلتها وهمس صلاتها في فجر عيد
ويدي تحس نداوة العشب الحصيد
يا ملح َ أول دمعة ٍ كانت غمائم في عيوني
يا طعم أول قطرة ٍ في ثدي أمي في شفاهي
دعني أحسّك يا إلهي
كحليب أمي في شفاهي)
في ديوان (الطائر الخشبي) لحسب الشيخ جعفر . تكون القصائد بحجم الكف. قصائد رشيقة وبلا تاريخ وستكون القفزة الشعرية في قصيدة (قارة سابعة) تألقت القصيدة علي يديّ حسب الشيخ جعفر، القصيدة المدوّرة بنفسها الشعري الذي لا يتوقف أو يلتقط أنفاسه من بداية القصيدة حتى نهايتها، بسعة أربعين صفحة من الحجم المتوسط. والنسيج الشعري تسيرّه هذه الإحالة التكرارية بين الحين والآخر(الزمن اليابسُ، يا حبيبتي كالقش في أصابعي).. تناول حسب في قصيدته تجربة ً من تجاربه العاطفية في موسكو. التدوير الثاني في قصيدته(الرباعية الأولى) الصفحات أقل والمحتوى أكثر رشاقة ً والتدوير الثالث أقصر من الرباعية الأولى يتجسد في قصيدة(الطائر المرمري) وهي نتاج خسارة عاطفية (ها أنا أبحثُ عن طير الرماد. هذه الخصلة ُ من شعرك ِ ريحٌ وشرار. بين كفيّ حريراً أو لهيبا في الشفاه. مَن ترى ألبسني في الكوكب المهجور تاجاً من تراب؟ ها أنا أركبُ أقمار الحجر، لا أبصرُ وجهاً غير وجهي../ 171) في قصيدته (الرباعية الثانية) يزداد القول الشعري سرعة ً وتدفقا كما هو الحال في روايات المنولوغ يتحول الخطاب من الآخر إلى الأنا :(ألم الغبار القديم، ألم الصدى عن تصاوير وجهي، الليالي هوادجٌ فارغة ٌ والجواري لهن الأراجيح والظل، يغزلن وجهي خيوطا تبعثرها الريحُ تلقي بها في مقاهي الدخان وحاناته. كلّ فجرٍ،أبصر بعيني هاتين، أبصرُ وجهي قشوراً وأوراقَ خس ٍ. وجهي الجرائد تُكنس. وجهي اصطفته ُ المليكة/ 183) الفرقنفسيا: بين التدوير والشعر الحديث لدى حسب الشيخ جعفر هو انتقال القول من الهدوء إلى الغضب الرومانسي المحتدم الجميل. والتركيب اللغوي الذي يلائم تكابده الذات من الخذلان. قصيدة (الرباعية الثالثة) هي مسك ختام ديوانه الثالث(زيارة السيدة السومرية) في هذا الديوان يكرّس حسب طاقته الإبداعية إلى تعميق تجربته مع التدوير الشعري يصل الشاعر قمة التدوير من خلال تضمين التدوير التحاور الشبحي مع الآخر الذي افتقده / افتقدها ومسرح التدوير في الدواوين الثلاثة ( الطائر الخشبي. زيارة السيدة السومرية. عبر الحائط في المرآة) تكتمل تجربته المحتدمة والنقلة الجغرافية من ريف ميسان إلى ثلوج موسكو. يعترف الشاعر بذلك:
(تتجمع خُس سنين في قدح مملوءٍ
حتى النصف وتطلقني، يبقى مني
وجهٌ أمسى دوراً يتكرر في بارٍ
ما آوى إلا أجلافاً وهموما، كل
مساءٍ أسمعُ صوتَ قطار مفجوع
أترقبها، لي منها ظلٌ في
قدحٍ مملوءٍ حتى النصف/267)
هذه التجربة العاطفية التي صاغها الصائغ الأمهر معلقاتٍ شعرية ً تحولت بعد ذلك على يد الصائغ نفسه إلى رواية (نينا بتروفنا من أيقظ الحسناء النائمة؟) ومذكرات تخص حياته ُ في موسكو ، ثبتها في كتابه (رماد الدرويش).ثم ينتقل حسب الشيخ إلى الحكاية الشعرية وينتج أربعة دواوين :
(*)
نعود إلى سعدي يوسف الذي سيواكب الراهن من خلال قوة التجاوز الداخلي الكامن في روحه الوّاثبة نحو كل جديد وجميل .حين عاد من جمهورية الجزائر. صار من فرسان القصيدة العراقية والعربية . أعني مفهوم (الجيل) من خلال ديوانه (الأخضر بن يوسف ومشاغله) 1972 كان قد تخلص من مؤثرات البياتي تماماً. في هذا الديوان اجترح سعدي لغة ً شعرية ً جديدة لا تمت بأي صلة لمنجزه الشعري السابق وعمّق الشاعر هذا القول الشعري بخطواتٍ أخرى (تحت جدارية فائق حسن) 1974 و(الليالي كلها) 1976. نختار قصيدة (الليل في حمدان )من ديوان (51 قصيدة) من باب المقارنة
(أننا في ليل ِ حمدان نقول:
نَم إذا نام النخيل
عندما تشرقُ في قرية حمدان النجوم
تُطفأ الأكواخ ُ والمسجدُ والبيتُ القديم
أنه النوم الطويل
تحت همسِ السعف ِ الشاحب ِ: الموتُ الطويلُ
أنها حمدان…
نحن لا نسمع في حمدان َ إلا ما نقول
ليلُنا والنخل ُ والحلفاءُ والنهر القديم
حيث أوراقٌ من الليمونِ في الماءِ تعوم
أنها خضراءُ كالماءِ كعينيكَ – إذا شئتَ- أقول
أنت َ يا مَن يُرتجى مِن لونِ عينيك َ الربيع
كيف ينساك َ صديق ُ؟
أنني ألقاك اذ يغمر حمدان َ الأفول
حين يُلقى فوقَها ليل ٌ ثقيل/ 498/ المجلد الأول).. يواصل الشاعر رومانسيتهُ الشعرية الهادئة الشفيفة البهيجة، الخالية من الرومانسية الكئيبة المتوفرة بقصائد السياب ونازك حتى 1965 في مجموعته (قصائد مرئية) التي فيها تلك الرومانسية وفيها محاولاته الجديدة حين كان في الجزائر وهناك محاولة شعرية جديدة منها (الشخص الثاني) وهي مكتوبة في سيدي بلعباس 25-10- 1964
بعد عودة سعدي يوسف إلى الوطن، تختلف قصيدته أعني تخلصت قصائده من الغنائية والرومانسية، من ديوان سعدي يوسف(الليالي كلها) نختار سطورا ً من (قصيدة إلى وائل زعيتر)
(مرت العجلاتُ بِطاءً على الرملِ
مرت يداكَ على الرملِ
مرت يدايَ على الرملِ
ها نحن نسأل أشجارنا
أنت تسأل زيتونة ً
وأنا… نخلة ً
هل تركنا على الرملِ غصناً
…………………..
مرت العجلاتُ بِطاء ً على الرملِ
هل مرت العجلات بطاء ً علينا؟
…………………………
وجهُك َ المتطامنُ بين الوجوه التي كنتُ أعرفها
والبلاد التي قد وُلدنا بعيدين عنها
أترانا البعيدين عنها؟
……………….
………………
مرت العجلاتُ بطاءً على الرملِ
هل مرت العجلاتُ بطاء ً عليها)
يشتغل القول الشعري هنا على الإحالة التكرارية (مرت العجلات…) وهذه الإحالة تجمع معاناة الشخصين
المتكلم و المخاطب : سعدي / وائل
(*)
من شدة تعلقه بالشاعر اليوناني يانيس ريتسوس وبعد نزهاته في عوالم ريتسوس قام سعدي بترجمة مختارات من أربعة دواوين من دواوين ريتسوس وأطلق عليها عنوان (إيماءات) في 1978 هذه الترجمة أحدثت انقلابا شعريا في العراق وخارج العراق : جعل الشعراء يغترفون قصائدهم من اليومي والهامش والعادي وكانت القصائد شفيفة لغويا وقصيرة بحجم الكف. وبهذا الصدد يقول الشاعر هاشم شفيق عن (إيماءات ريتسوس) الذي عُدّ حين صدوره تحفة شعرية لشاعر كان غريبا علينا ونحن نقرأ عالمه المغرق بالتفاصيل واليوميات وبالإسطورة الأغريقية صانعا من معاناته الشخصية أسطورة ثانية تتساوق مع عالمه الشعري، 172/ هاشم شفيق/ بغداد السبعينات/ 014)..ومن المبد عين في القصيدة اليومية الشاعر هاشم شفيق والذي سيقوم بعد ربع قرن بترجمة قصائد لم يترجمها سعدي للشاعر يا نيس ريتسوس ، نختار قصيدة ً من ديوانه (هاشم شفيق على الطريق)
(إرث)
ورثت ُ حصى ً
ورمالاً
وخيمه ْ
ورثتُ أسى ً لا معاً
شع َ في طرقي قمراً متربا ً
شجراً عالياً
مِن طيورٍ ونجمهْ
ورثتُ أغاني َ مِن حجرٍ
وقصائد مِن خشب ٍ
ورثتُ طلولا إذن
من أبي
ومن سلفي
من رواة ٍ قدامي ورثت ُ السأم
لماذا الفخار بإرثٍ مدمى
تناوشه الجندُ
في خوذٍ وسيوف ٍ
وأرضٍ توّرثُ قتلي.؟
(*)
بلند الحيدري من الذين ساهموا في الريادة الشعرية (خفقة طين) صدر في 1946 قبل (عاشقة الليل) ديوان نازك وقبل (أزهار) ديوان السياب كلاهما صدرا في 1947. لكن للأسف النقد العراقي والعربي لم يكن منصفا معه (لم يحظ هذا الشاعر بربع ما حظي به كل زميل من زملائه من عناية النقاد والدارسين، بل كان نصيبه أقل من ذلك بكثير/ 152 سامي مهدي/ في الطريق إلى الحداثة) شخصيا قرأت مقالة عنه في كتاب(ويكون التجاوز) للناقد محمد الجزائري، عنوان المقال (الحارس المتعب ستُطلب منه النجدة) ص283 وهذه الدراسة اشتغلت على (أغاني الحارس المتعب) الصادر في بيروت 1971 وكتاب(دير الملاك / 1980/ دار الرشيد) للناقد محسن أطيمش من الكتب النقدية التي تناولت شعرية بلند الحيدري بعمق نقدي لا مثيل له، وتناول تجربة بلندالحيدري الشاعر يوسف الصائغ في رسالته للماجستير، وفي 1991 تناول الناقد والمترجم سعيد الغانمي قصيدة بلند(حلم في أربع لقطات(غناء آلة التصوير)/ 135/ منطق الكشف الشعري) وهنك دراسة ماتعة للدكتور حسن ناظم، وفي كتابي (من الأشرعة يتدفق النهر) 2013 توقفت مقالتي عند(شرط التسمية) في القصيدة الديوان (حوار عبر الأبعاد الثلاثة)..شخصيا أرى أن بلندالحيدري الشاعر الريادي في بداية التسعينات اختطف الأضواء من خلال ديوانين هما(أغاني الحارس المتعب) و( حوار عبر الأبعاد الثلاثة) ومن خلال تقطيع المفردات وتكرارها بشكل يمنح القصيدة مديات أوسع ويجعل هذه القصائد صالحة للمسرح: وبشهادة الدكتور الناقد محسن أطميش(إن القصيدة (حوار عبر الأبعاد الثلاثة) هي من النماذج الرفيعة في الشعر العراقي والعربي الحديث.. هذا الابتعاد عن الغنائية هو أحدى الالتفاتات الفنية القديرة التي تميز بها عمل بلند الحيدري/ محسن أطيمش/ دير الملاك).. نختار قصيدة (دعوة للخدر) من ديوان(أغاني الحارس المتعب)
لتصمت الأجراس
وأفقأ بعقب حذائك الشمس
وأطفئ عيون الناس
فليس في مدينة النعاس
غد ولا أمس
ونمْ
يا أيها المستيقظ الوحيد كالألم
علق على مشجبك الصديء
ونمْ
يا أيها المنبوذ في الندم
أنزع جلود الناس
دعها لهم وليمة في الغاب
فليس في مدينة النعاس
غد ولا أمسْ
ولن ترى في قطرات الدم
هابيل
فنمْ
العالم الكبير خلف الباب
نامْ
لا ساعة تأرق في عينيه لا أرقام
ونامت الكلاب
والليل نام
ونامت اللصوص والحراس
فنم
أطفئ عيون الناس
ونمْ
ولتصمت الأجراس
لتصمت… ال…
راس
آس.. .. س)
(*)
لو سألت الشاعر صلاح فائق من أنت؟ سيكون جوابه : أنا عازف بيانو تحت حافر حصان !! يا لها من مهنة لرجل نجده يواصل الجلوس مع (دببة في مأتم) وحين تسأله عن أحوال القصيدة ، يكون جوابه : كل قصيدةٍ لي، بدايتُها أنثى، وكل أنثى في قصيدتي بدايتُها صوت القلم عند الكتابة. وإذا سألت صلاح فائق: ما هو المطلوب؟ سيقول: ينبغي جرد هذه الكتابة من شائعات النساء، ومن جمل ٍ طويلة ٍ تقترب من خيول ٍ لا تصهل. صلاح فائق 1945 يمكن أين ينضده مؤرخ الشعر ضمن(جيل الستينات) لكن موهبته الشعرية خارقة لمفهوم الأجيال وها نحن في 2024 ونشعر حين نقرأ قصائد صلاح فائق في طليعة الحداثة الشعرية العراقية . فهو يستعمل الواقعي لتثبيت ما وراء الواقع. فتصدقه حين يقول في أحدى قصائده(أنني من أتباع زرافة) ..ديوانه (دببة في مأتم) عناوين مجموعة أقفاص : القفص الأول(دببة في مأتم) ..الثاني(زرافة تبكي في محكمة) الثالث( حتى تطير ثيران مجنحة) القفص الرابع (ذئب يتغطى بلحاف من زجاج) والقفص الأخير(فجرٌ يبحث عن عازف كمان).. ممكن العودة إلى مقالتنا في موقع الحوار المتمدن: (الشاعر صلاح فائق .. في (دببة في مأتم) من اقتصاد المجاز إلى اقتصاد الصياغة/ 19/ 9/ 2014
(*)
حسب الشيخ جعفر: جيلياً يعتبره مؤرخ الأدب من الشعراء الستينيين
والبينة بالنسبة لي مجموعته الشعرية الأولى (نخلة ُ الله) القصائد من 1964 إلى 1967 لكن هذا الشاعر (الستيني) جعل شعراء الريادة يتبعونه وبعض شعراء السبعينات من خلال تجربة الشاعر مع القصيدة المدورة وجسدها في (الرباعية الأولى ) و(الرباعية الثانية) (الرباعية الثالثة) (قارة سابعة) (الطائر المرمري) . وفي مجموعة (زيارة السيدة السومرية ) التدوير الشعري له السيادة. هذه الاجناسية الشعرية أيقظها الشاعر من سباتها، هناك محاولة في التدوير للشاعر خليل الخوري في (ديوانه الثالث (لا در في الصدف) في1963 ثلاث محاولات شعرية مدورة: (الشمس والنمل) في 1858 و(أغنية الشيطان) في 1963 و(ليل بلا نجوم) – بلا تاريخ. ويمكن أن نقول إن يوسف الخطيب كان ممن أسسوا لكتابة القصيدة التفعيلية المدورة التي ستنضج في ما بعد على يدي الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر/155/ سامي مهدي/ ذاكرة الشعر)
. تميز حسب الشيخ جعفر بتوظيف الجملة الفعلية والفعل بتنويعاته الثلاثة وادخل الحالة الشبحية في نصوصه كما جعل الشخوص تتحاور فيما بينها وفي (الرباعية الثانية) استعمل ضمير المتكلم( ألمُّ الغبار القديم ألم الصدى عن تصاوير وجهي…(الرباعية الأولى) حكاية البراءة ثم الدنس. جعلت شعراءً كباراً يسيرون على نهج حسب الشيخ جعفر : فقد عاد لتجربته الأولى في التدوير أعني قصيدته (مرثية الألوية الأربعة عشر ) الموجودة في ديوانه (قصائد مرئية ) 1965 وها هو سعدي في منتصف السبعينات يصدّر مجموعة (تحت جدارية فائق)وفيها نماذج متطورة من القصيدة المدوّرة. والقصيدة الأولى من ديوان (كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة) وكذلك فعل البياتي في قصائد ديوانه (قمر شيراز) 1975 ويشهد الشاعر هاشم شفيق على ذلك في قوله وهو يجالس البياتي (ما أن شربنا القهوة، حتى أخرج البياتي من جيب سترته قصيدة وقرأها عليّ ، كنت آنئذ مستغرقا في جمال تلك القصيدة التي شاءها مدوّرة) ثم يضيف هاشم شفيق (عن حبّ بعيد وخيالي، مليئةبإرسال صوفي متهجد) ما بين القوسين هي طقوس قصائد حسب الشيخ جعفر في التدوير الشعري، يعلن هاشم شفيق قائلا(في مطلع السبعينات كان الشعر العراقي قد قطع مرحلة كبيرة من التطوّر الجمالي والشكلي والفني على يد الشعراء الذين جاءوا بعدهم، وكان البياتي بتلك القصيدة يحاكي ذلك التطور الجديد ويجاريه/ 139) لقد كسرا مفهوم المجايلة كسرها سعدي يوسف بقصائد على غرار يانيس ريتسوس. وكسرها حسب الشيخ جعفر بالقصيدة المدورة
(*)
التقيتً الشاعر صادق الصائغ في مهرجان مربد هذا العام 2024 لقائي الأول كان في مهرجان المثقفين برعاية وزير الثقافة الأستاذ مفيد الجزائري 2003.صادق الصائغ، مواليد 1936 وكان ينشر قصائدهُ العمودية في مجلتيّ(الفنون) ومجلة (الآداب) اللبنانية. لكنه في أوائل السبعينات أصدر مجموعة شعرية نادرة (نشيد الكركدن) وأنيقة الطباعة والورق. مقدمة المجموعة الشعرية : بقلم المترجم والروائي نجيب المانع.. والرسوم الداخلية تخطيطات التشكيلي كاظم حيدر. لكن للأسف لم يقترب أي ناقد من النقاد العراقيين ويكتب مقالة ً عن هذه المجموعة!! هكذا يحدثني الصائغ في الليلة الأولى من مهرجان مربد 2024
(*)
في كتابه (بغداد السبعينات) يخبرنا الشاعر هاشم شفيق في ص169
(فأنت إن قرأت تجربة السياب الشعرية، فعليك أن تجد إضافة إلى الخيط المحلي، الخيط العالمي الذي يربط هذه التجربة الرائدة بغيرها من شعر عالمي) هنا يتحول القارئ إلى جيولوجي أو عالم آثار،منخلال ذلك يصل القارئ إلى الينابيع الشعرية التي استسقى منها شعر السياب (لوركا. أليوت. أودن . ستيفن سبندر. ولويس مكنس وأديث ستويل) هنا نتوقف قليلا ونسأل ما الذي فعله السياب؟ يتفق الأغلبية ما فعله استيعاب تجارب هؤلاء ثم تمثل هذه التجارب وانتج تجربة ً جديدة ًتعود براءة اختراعها. له وما فعله السياب سيفعله البياتي وبلند الحيدري ونازك الملائكة. لكن هناك محاولات لم تستطع اخفاء الأثر كما جرى ذلك لأودنيس بخصوص الاستفادة من منجز سان جان بيرس فالهضم الثقافي كان عسيراً في الوقت نفسه نجح الماغوط وأنسي الحاج وعبد الصبور في تثبيت بصماتهم على التجربة.
(*)
سعدي يوسف
هناك من يرى إن بين عالم سعدي يوسف وعالم لوركا : أكثر من وشيجة بدت مبكرة ونمت بل أن احتفاء سعدي يعني الكثير فغنائية سعدي شديدة القرب من غنائية لوركا. وكذلك البساطة في شعره،وأيضا الاحتفاء بالطبيعة المحلية والكتابة عن الناس البسطاء. كتب لوركا عن غرناطة وكتب سعدي عن البصرة وقراها،كل ذلك يعني أن سعدي يمتلك الذكاء والوعي وقوة الموهبة فهو لم يقلد لوركا. بل حاول كما يبدو لنا أن ينشئ من عالم البصرة ومحيطها الريفي ما يوازي عالم لوركا الأندلسي، كما لو أنه يريد تعريق وتبصير تجربة لوركا : تجربة عراقية بصرية. نحج سعدي لأنه رافق نتاجات لوركا منذ 1954 وقرأها باللغة الانكليزية
استفادة جميلة وعميقة قام بها سعدي نقلا عن تجربة شعرية انتجها لوركا: حين نقرأ قصيدة سعدي(اغتيال محمد بن عبد الحسين) لها علاقة بقصيدة لوركا(مصرع أنتويو ألكمبوريو. وقصيدتا سعدي (الليل أزرق) و(الهارب الليلي) تقترب من قصيدة لوركا(أغنية السائر في نومه) وقصيدة سعدي(ميت في بلد سلامة) تتجاور مع قصيدة لوركا
(مصرع مصارع الثيران)
(*)
سعدي يوسف/ يانيس ريتسوس
لم يكتف سعدي بترجمات( إيماءات) وهي قصائد اختار سعدي من اربع مجاميع ل يانيس ريتسوس فأن من يقرأ كتاب سعدي( يوميات الجنوب يوميات الجنون) في بيروت 1981 القصائد هنا تحاكي قصائد ريتسوس القصيرة في التقاطها مشهدا من الحياة اليومية وتصويره بتفاصيله وجزئياته وانهائه بخاتمة غير متوقعة وسينتقل تأثير ريتسوس على شعر سعدي الموزون في الدواوين التالي (مَن يعرف الوردة) (الوحيد يستيقظ)
هناك محاولة شعرية لم تتكر لدى سعدي. فهو التقط قصيدة للروائي لورنس داريل اسمها(الشخص الثاني) وكتبها على وفق بصمته
لكن سركون بولص اعترض على محاولة سعدي واعتبرها استنساخا رديئا لقصيدة لورنس داريل / مجلة الآداب/ ع5/ 1965
استفادت ورقتي من المؤلفات التالية