وكالات – كتابات :
تاريخيًا، أدت فترات الإنكماش في الاقتصاد الكلي إلى ارتفاع حاد في عمليات تسريح العمال والموظفين في جميع أنحاء صناعة الإعلام الغربية.
ومع تزايد احتمالات الركود واستعداد المديرين التنفيذيين لتراجع عائدات الإعلانات؛ خلال العام المقبل 2023، في ظل ارتفاع فواتير الطاقة وأسعار المواد الغذائية وتكاليف المعيشة الأخرى بشكلٍ كبير في العديد من الأسواق؛ أضحى الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري في قطاع الإعلام على المحك، بما يُمثل تحديًا أمام مدى رواج وأهمية الصناعة عند المستهلكين المتضررين من الضغوط الاقتصادية الراهنة، وهو ما من شأنه أن يضر بكافة خدمات الإعلام والترفيه؛ بحسب ما استهل به مركز (إنترريغونال) للتحليلات الإستراتيجية، تحليله المنشور على موقع المركز.
مأزق “الأمولة”..
استُخدِم مصطلح: (الأمولة-financialization)، كمفهوم رئيس في شرح الصعوبات التي واجهت صناعة الإعلام الغربية على مدار العقود الثلاثة الماضية؛ إذ يُسلط المفهوم الضوء على النمو غير العادي في حجم القطاع الإعلامي من حيث الأصول المالية مقارنةً بالقطاعات الصناعية والاقتصادية الأخرى، وكيف وضع ذلك الإعلام في مأزق عندما تعثر القطاع مع تعرضه لأزمات مالية واقتصادية.
وبدت الأزمة واضحة؛ في عام 2008، في خضم الأزمة المالية العالمية، عندما أدت المشاكل الناجمة عن ارتفاع مستويات الدين في المؤسسات الإعلامية إلى ظهور مخاوف بشأن تحويل الموارد التي كان من الممكن تخصيصها للإنتاج لمواجهة التكاليف المرتفعة لرأس المال؛ حيث كانت المؤسسات الإعلامية غير قادرة على الوفاء بإلتزاماتها المالية، بعد فترة طويلة من الارتفاع الجارف في حجم تمويلها.
وخلال السنوات الماضية؛ وفي إطار انتشار الإعلام الرقمي، انخفض معدل تداول الصحف؛ وبالتبعية شهدت معدلات القراءة تراجعًا كبيرًا بسبب التنافس بين المواقع الإخبارية على مواقع “الإنترنت” ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، وبالمثل واجه التلفزيون والراديو عادات استهلاكية جديدة قوَّضت الوضع التقليديَّ لهذه الوسائط، حتى أضحت هوامش ربح المؤسسات الإخبارية آخذةً في التناقص، وفي بعض الحالات غير قادرة على تلبية توقعات المساهمين، ومتطلبات العقود المالية المُوقَّعة، وهو ما وضع (الأمولة) في مأزق جديد.
ومع الوقت؛ فقدت الأخبار قيمتها في أعين المُعّلنين؛ حيث قامت المنصات عبر “الإنترنت” بفصل عائدات الإعلانات عن محتوى الأخبار في وسائل الإعلام. وفي غضون ذلك، انتقلت الإعلانات الصغيرة إلى مواقع “الإنترنت”؛ ما حرم الصحف من مصدر دخلٍ مهم، لتكون المحصلة النهائية هي تقليص الوظائف في المؤسسات الإعلامية وإغلاق العديد من الصحف.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي يشهدها الغرب في الوقت الراهن، من جراء الحرب “الروسية-الأوكرانية”، وُضعت (الأمولة) في تحدٍّ إضافي، مع تصاعد شبح الركود، بما يُثير التساؤلات حول مدى قدرة قطاع الإعلام الغربي على الصمود، في ظل التحديات المالية الضخمة التي يتعرض لها في وقتنا الحالي.
تداعيات مقلقة..
أدى ارتفاع فواتير الخدمات العامة وأسعار المواد الغذائية، إلى خلق أزمة كبيرة في صناعة الإعلام الغربية خلال العام الجاري، نتناول أهمها فيما يأتي:
01 – تقليص الوظائف في المؤسسات الإعلامية..
وفقًا لبيانات (Challenger Gray & Christmas)، فإن صناعة الإعلام الغربية قد انكمشت على مدى العقدين الماضيين، بفعل فترات الركود الثلاثة الأخيرة؛ بما في ذلك إنهيار فقاعة “الإنترنت” في عام 2001؛ والأزمة المالية العالمية: 2007 – 2008، وتفشي جائحة (كوفيد-19)، وهو ما صاحبته طفرات في اتجاه فقدان الوظائف بين الشركات الإعلامية الغربية، وهي أكبر الفترات التي شهدت تخفيضًا في الطاقم الإعلامي لمؤسسات الإعلام الغربية؛ وذلك بغية خفض النفقات.
وتجدد ذلك مع إعلان أكبر مؤسستين إعلاميتين في “أستراليا”؛ في عام 2017، عن تخفيضات كبيرة في طاقمها الصحافي، وهما: مؤسسة (Fairfax Media)، ومؤسسة (News Corporation).
وهو التوجه الذي عاد من جديد، مع إعلان (بي. بي. سي)؛ في أيلول/سبتمبر 2022، عن إلغائها نحو: 400 وظيفة، بسبب تجميد رسوم الترخيص والارتفاع السريع في التكاليف، وقيام شركتي: (Meta) و(Twitter) بتجميد التوظيف الجزئي، إضافة إلى كلٍّ من شركتي: (Insider) و(Vice Media) للوسائط الرقمية، اللتَيْن أعلنتا تباطُيء التوظيف.
02 – تقييد الإنفاق الإعلاني والاستثماري..
خلال السنوات الماضية؛ لجأت دول وسط “أوروبا” وشرقها إلى خفض الإنفاق في وسائل الإعلام، وقد أدى الانخفاض المضاعف في عائدات الإعلانات إلى انخفاض في عدد الموظفين ومصادر الأخبار، مع تخفيضات خاصة في التقارير الاستقصائية والإقليمية والدولية، وهو ما يُرجَّح حدوثه من جديد، خاصةً أن العالم يبدو على أعتاب ركود جديد؛ إذ تُشير التوقعات إلى احتمالية تراجع الإعلانات بنسبة: 20% بحلول نهاية العام الجاري.
ويتوقع بنك الاستثمار (Berenberg) أن يشهد عام 2023 بالكامل، انخفاضًا في الإنفاق الإعلاني، في ظل توقعات بالنمو الاقتصادي السلبي في الأسواق الغربية الرئيسة، كما يتوقع البنك انخفاضًا بنسبة: 5% في الإنفاق على وسائل الإعلام العالمية في عام 2023؛ ما يعكس حقيقة أن سوق الإعلانات تميل إلى المبالغة في رد الفعل تجاه الانكماش الاقتصادي.
وبناءً عليه خفَّض البنك تقديراته للوكالات الإعلامية الغربية، ليعكس مدى تأثير ضعف البيئة الاقتصادية على صناعة الإعلان والتسويق.
03 – انخفاض عائدات الإعلان..
بالتبعية؛ فإن من شأن انخفاض الإنفاق الإعلاني أن يؤدي إلى تراجع عائدات الإعلان لدى عدد كبير من الشركات الإعلامية المنتجة لها؛ حيث تُجني العديد من شركات الوسائط الرقمية الجزء الأكبر من أموالها من الإعلانات، بما في ذلك شركة الوسائط العالمية؛ (Conde Nast)، ومؤسسة الإعلام الأميركية (BuzzFeed).
ووفق “Blake Chandlee”؛ رئيس إدارة حلول الأعمال العالمية في (TikTok)، فإن هناك ما يقرب من: 2% إلى: 6% انكماشًا في الإنفاق الإعلاني شهدته العديد من المؤسسات الإعلامية، بيد أن (تيك توك) لم تشهده حتى الآن، إلا أن ذلك الاتجاه يفرض ضرورة توخي الحذر.
04 – تراجع أسهم كبرى المؤسسات الإعلامية..
شهدت أسهم واحدة من أكبر المؤسسات الإعلامية الغربية؛ (buzzfeed)، تراجعًا بأكثر من: 80%، رغم استحواذها على نحو: 48.7 مليون دولار من عائدات الإعلانات خلال الربع الأول من العام الجاري؛ أي نحو: 53% من إجمالي المبيعات، وهو ما يعني تآكل أرباح مؤسسات إعلامية أخرى؛ وذلك في ظل التوترات الجيوسياسية وتداعياتها الاقتصادية التي نالت من العديد من مؤسسات الإعلام الغربية منذ مطلع العام الجاري.
وبحسب تصريح لـ”غرايدون كارتر-Graydon Carter”، مؤسس شركة (Air Mail)، فإن الشركات عادةً ما تتطلع إلى خفض الإنفاق المالي على التسويق والإعلان؛ لتجنب الوقوع في ضائقة مالية كبيرة.
وعلى غرار ذلك، صرحت شركة (Snap)؛ مالكة (Snapchat)، في شهر آيار/مايو الماضي من العام الجاري، بأن: “بيئة الاقتصاد الكلي تدهورت بشكلٍ أكبر وأسرع مما كان متوقعًا؛ ما تسبب في انخفاض أسهمها بنسبة: 40% في يومٍ واحد”.
05 – تزايد أعباء الديون في قطاع الإعلام الغربي..
في الآونة الأخيرة؛ وقع قطاع الإعلام في مأزق كبير بسبب أعباء الديون المتزايدة عليه؛ فبرغم كونه من الطبيعي أن تتحمَّل معظم الشركات الكبيرة قدرًا من الديون، فإن الدين يعمل كسيف ذي حدين، بحسب الظروف الاقتصادية القائمة؛ فإذا ما كانت ظروف الاقتصاد الكلي مستقرة وواعدة، فإن ذلك يُشجع الشركات على تحمل بعض الديون؛ لتنمية الاستثمار في القطاع وزيادة الأرباح، وعلى العكس تمامًا مع تدهور الظروف الاقتصادية، يُصبح سداد الديون أكثر تكلفةً، وقد تتعرض الشركة في النهاية لخطر التخلف عن السداد.
ولعل الشركات الإعلامية الغربية الأعلى مديونيةً التي تتصدر قائمة الديون؛ بحسب شركة وسائل الإعلام والترفيه الأميركية (Warner Media)، هي: شركة (AT&T)، وشركة (Comcast)، وشركة (Discovery).
06 – تراجع عائدات القطاع الإعلامي الأوروبي..
بحسب البيانات المتاحة على موقع (Statista)؛ المحدثة في شهر تشرين أول/أكتوبر 2022، فإن إيرادات قطاع الإعلام الأوروبي هي الأكثر تراجعًا خلال عام 2022؛ حيث بلغت: 264.30 مليار دولار أميركي، وهو تراجع يُقدَّر بنسبة: -6.3% عن عام 2021؛ الذي شهد انتعاشًا في القطاع بعد فترة ركود بفعل تفشي (كوفيد-19) خلال عام 2020.
وهو التراجع الذي يُعزَى بشكلٍ رئيس إلى التداعيات السلبية للحرب “الروسية-الأوكرانية” على قطاع الإعلام الأوروبي.
سيناريو محتمل..
في ضوء ما سبق، يتضح أن عام 2023، وسط التوقعات السلبية بحدوث ركود عالمي، سيكون فيه قطاع الإعلام الغربي أول القطاعات المتضررة؛ فعلى سبيل المثال، تسود توقعات قاتمة بشأن تراجع عائدات الإعلان الصافية في جميع الوسائط المرئية والمسموعة والإعلانات بـ”ألمانيا”، بنسبة: 2.2% بنهاية العام الجاري، ويتوقع انخفاض عائدات الإعلانات في التلفزيون بنسبة: 6%؛ والإذاعة بنسبة: 3%.
في الوقت نفسه، ستستمر مبيعات الإعلانات في سوق البث في النمو، لكنها لن تعوض الانخفاض في الإعلانات التقليدية.
وهو الأمر الذي يُحتمل أن يُلقي بظلاله على شكل القطاع الإعلامي وأنماط الاستهلاك خلال ما تبقى من العام الجاري والعام المقبل، كما يلي:
01 – تباطؤ الإنفاق الاستهلاكي الإجمالي..
ربما يدفع مناخ الركود الاقتصادي، المستهلكين إلى خفض أو تقليل إنفاقهم الإجمالي على اشتراكاتهم في قطاع الإعلام، من أجل خفض التكاليف والإنفاق؛ وذلك عن طريق التبديل إلى باقات مخفضة أو أقل في المستوى، أو إلغاء الاشتراكات من الأساس؛ ما سيترك أثرًا سلبيًا كبيرًا على الإعلانات التقليدية؛ نظرًا إلى اعتمادها على العلامات التجارية الكبرى، التي من المُرجح أن تخفض ميزانيات الإعلانات، في ظل ركود الطلب على خدماتها.
02 – زيادة أهمية الإعلانات الرقمية..
قد تتطلع المؤسسات الإعلامية الغربية في ظل حالة الركود المتوقعة؛ خلال العام المقبل، إلى الاعتماد على الإعلانات الرقمية بدلاً من الإعلانات التقليدية المكلفة؛ ما يُرجِّح ازدهار ذلك النوع من الإعلانات؛ نظرًا إلى كونها وسيلة فعالة من حيث التكلفة ومعدل وصولها إلى المستهلكين، وهو ما يُزيد فرص الاستفادة منها في زيادة نسبة المبيعات أكثر من الإعلانات التقليدية، خاصةً لدى صغار المعلنين؛ حيث ستكون الإعلانات الرقمية ذات أهمية متزايدة لكياناتهم.
03 – تضرُّر خدمات الفيديو والتلفزيون المدفوعة..
من المُرجَّح أن تعمل الخدمات عبر الإنترنت التي تدعمها الإعلانات الرقمية، كمصدر للترفيه المجاني، للمستهلكين الذين يرغبون في مشاهدة التلفزيون أو الاستماع إلى الموسيقى؛ ما يُرجح تقليل أو تجنب الإنفاق على الاشتراكات؛ إذ يُتوقع أن تتحمل خدمات التلفزيون المدفوعة العبء الأكبر من محاولات المستهلكين لتقليل الإنفاق العام، بما يؤدي إلى انخفاض عائداتها وربما توقُّفها.
04 – انخفاض مبيعات التذاكر في السينما..
تعتمد صناعة السينما عادةً على إيرادات مبيعات التذاكر مدفوعةً برغبات الأشخاص في مشاهدة فيلم معين أو الحصول على تجربة اجتماعية بعينها.
ومن ثم؛ فإنه في ظل المخاوف من الركود المحتمل، وارتفاع تكاليف المعيشة، فإنه من المتوقع أن يحظى قطاع السينما بمقدار صغير من إنفاق الأسر الغربية بمتوسط عدد زيارات بمعدل: 2.7 مرة لكل شخص في السنة.
05 – تراجع مبيعات الموسيقى الرقمية والألعاب الإلكترونية..
سرعان ما أصبح شراء المقاطع الصوتية والألبومات الرقمية قطاعًا متخصصًا في صناعة البيع بالتجزئة للموسيقى، غير أن أزمة تكلفة المعيشة ستؤدي، على الأرجح، إلى تسريع الانخفاض الحاد في ذلك القطاع، كما من المُرجَّح أن تتعرَّض عمليات شراء الألعاب الإلكترونية لضغوط التضخم، خاصةً أن ذلك النوع من الألعاب أسعارها مرتفعة بالفعل.
ختامًا؛ رغم الضغوط التضخمية ومخاوف الركود التي من المؤكد أن تُلقي بتبعاتها على صناعة الإعلام الغربية؛ كإحدى الصناعات المتضررة في خلال العام الجاري والمقبل، فإن من المحتمل أن تتعافى الصناعة سريعًا، بتلاشي الظروف الاقتصادية الضاغطة، نظرًا إلى حقيقة مفادها أن الصناعة تتمتع في الأساس بتمويلٍ كبير، كما أنها في وضع أفضل مما هي عليه قبل عقد من الزمان، في ظل تنوع إستراتيجيات الصناعة، وانتشار التبني الرقمي الذي أكسب العديد من خدماتها شعبية كبيرة؛ لذا من المُرجح أن يتحمَّل قطاع الإعلام الضغوط الهبوطية، وإن كان سيشهد تراجعًا فسيكون ذلك تراجعًا مؤقتًا سرعان ما سينتهي بتحسُّن أحوال الاقتصاد الكلي.