الحداثــــة حداثات
الحداثة حداثات
لم تأت الحداثة كقطعة منعزلة أو أحياء للثقافة اليونانية كما يزعم، بيد أنها واقعا حداثات، سواء في التسلسل التاريخي أو التعدد في التطبيقات واقعيا، متأثرة بطبيعة البيئة التي هي فيها كأي مخرج مدني وهي ليست إلا تراكم للجهد البشري وان صنِّف إلى حالات متعددة، فالحداثة في أمريكا ليست الحداثة في فرنسا وفرنسا غيرها في إنكلترا، وهذه متغايرة مع من دخل في نظامها مثل الصين ودول الشرق الأخرى المشاركة في تطوير المدنية.
الحداثة هي انقلاب مدني مجتمعي قيمي سلوكي ولكن ليس بتعريف واحد، فالقيم في الحداثة التي أتت مع الرسول ص هي قيم أخلاقية نابعة من فكر له نظرة عن الكون والإنسان والحياة، وتفاعلت عالميا لقرون عدة، وابتكرت وأنتجت نظاما حدث الرؤى وطرح أسئلة وإجاب عن أسئلة، وكان مرتكزا على الربوبية والألوهية لله وان اصل العمل هو ما ينفع الناس والحقوق لا تؤخذ بالغلبة وإنما تعطى الحقوق عدلا لأضعف الناس واقل فئة في المجتمع مع القوي ومع الأكثرية؛ لكن الحداثة في عصرنا الحالي هي ليست أخلاقية ولأنها لا تنطلق من فكر عميق وتعتمد التدين كحالة غريزية معتبرة وربما تتعالى وتنخفض وربما تعالج منظور الدين كي لا يعترض طريق النفعية لان اليهودية هي شريعة دين لا تصلح للتطور والعصرنة، والمسيحية دين كما يصفه المسيحيون دين بلا شريعة، فيكون الأمر حسب من يتولى صناعة القرار، لكن سلوكيتها منطلقة من النفعية وتحويل الاله الواحد إلى الدولة لهذا استغرقت في فوضى الاستبداد تحت أي مسمى، وتراجعت الأخلاق وفق التدهور القيمي الطبيعي نتيجة بعده عن ربط السلوك بالله وباليوم الآخر، أو ما يسميه المسيحيون بيوم الدينونة، فكانت تبعية عكسية انتقلت من قوة ومحاكم التفتيش إلى التعايش وقوانين تستحدثها الحداثة والتعايش مع أخلاقيات منافية للقيم التي تؤمن بها وهذا ليس تعميما وإنما هو غالبا ما يحدث كوضع المثلية مثلا وهو احد الإفرازات المرضية للحداثة وعجزها عن إدارة مجتمع سليم كآدمية، حيث انتقلت بقانون العقوبات من الرفض الحاد بعقوبات كالإعدام والحرق إلى أن من يعارضها الآن يصبح متعدي على حقوق الإنسان وفي نفس الدول التي كانت تحكم بذاك وهذا وحدث هذا الانتقال ربما خلال قرن من الزمان.
اللامعقول في الطرح الغربي
يرتكز الطرح الغربي كما نوهت إلى انقطاع الحداثة وكأنه زرع بلا بذور ولا سابق له، وان إلغاء القيم وتاليه الدولة هو البديل لإحداث تقدم ورفاهية لم تتحقق بوصفها فعلا واغلب ما يحصل هو الاستيلاء على ثروات الأخرين وعدمية في العداء المستتر أظهرتها حرب القرم الأخيرة، ورؤية أن الحق ما يفعل بما لا يحق للآخرين تكراره وهذا التخلف في العقلية والنفسية يوضح اذا ما استقرئ كمواصفات الشخصية غير المستقرة، فالحداثة والمعروضة وكأنها إنتاج غربي بحت هي حالة مدنية عبر التاريخ وان عالميتها التي لم تنجح نجح بها الإسلام دون إخضاع للبسطاء وإنما بإزالة جلاوزة الظلم والاستعباد لتترك للناس خياراتها، وهذا ما اعتمد تشويهه بل درس لأبناء المسلمين بطريق مشوهه إثارة غريزة السيادة والتملك فكان الفساد مرافقا حتميا للحركات الإسلامية عند توليها السلطة أو العجز عن إدارة الدولة وفرض أمور تخرجهم عن اصل من أصول القيادة والسيطرة في الإسلام للحاكم (ما أنت عليهم بوكيل) فلا إجبار ولا إخضاع ولا احتقار للآدمية فالإنسان كريم مهما اعتقد حتى لو كان ملحدا، علي واجب أن يكون حرا في قراره ولله الحكم في أمره ما لم يشع فاحشة أو يروج لخداع ناس لم تكتمل أهليتها وعلمها.
نوع من القوننة في حداثة مطلوبة في الفكر الإسلامي لكيلا يكون هنالك ازدواج أو ضعف في الشخصية بتشتت العقلية وتدهور النفسية بالعجز والكراهية وهذا حتما يحصل عندما يكلف الإنسان نفسه بما لم يكلف به، هذه الأمور واضحة حتى في النص، لا إشاعة للفساد ممن فسد، فان لم يؤثر بسلبية على بيئته فهو حر بأمره.
جدلية تراجع المدنيات الحداثية
المدنية حالة متطورة ترفض الثبات والموثوقية وإنما منهج علمي يرتكز على مبدأ الصح والخطأ لكونها نتاج بشري وليس من ماهية الإنسان الحسن المطلق.
لقد قامت دولة مدنية تحمل عقلية لقيم إسلامية ترافق عملية التطور المدني بدرجة ما، وانتشرت عبر العالم لتغير الموازين، ومن الطبيعي أن يكون هنالك رفض في بقاع العالم للتغيير خصوصا وان له صبغة دينية لكن ما في العالم من قوى مضادة عاجزة عن صد تقدمها وهي تتصاعد في الانتشار تماما كما يعجز عالمنا اليوم عن التصدي لمخرجات الحداثة الشاذة سلوكيا أو أي منها، لكن تقدم الحداثة الإسلامية بدأ يأخذ طابع الثقة والغرور ونوع من التمكين بدرجة أن لا ينظر إلى العدو بجدية أو يرى ضرورة التطور ليتفاجأ بتطور الأسلحة المواجهة كما الالتفاف عليه من الشرق ليس الهند ودول شرق آسيا تمثل هذا الالتفاف كليا، بل الاختراق الداخلي غير المسيطر عليه في الاقتصاد.
صحيح أن الحداثات الغربية سدت تلك الثغرات التي اخترقت بها الدولة العثمانية وغيرها من الدويلات التي تمثل حالة التمزق الممثلة للترف والغفلة وضيق الأفق من الحكم الوراثي المنتشر آنذاك رغم تعدده الذي لم يك إيجابيا قطعا بل كان ينخر بعضه والجميع منشغل عن تقدم الغرب في شرق آسيا ولذي منه بدأ احتلال البلاد العربية بجنود هنود أصلا، وكان يمكن أن يحدث تلاقح ثقافي ممتاز يوقف حالة الصراع التاريخية التي استمرت ولحد الآن في تصاعد عندما افرت عصبة الأمم الانتداب المباشر على العراق مثلا، لكن مراوغة بريطانيا وتحويل إدارتها إلى إدارة الهند الشرقية خلق اضطربا في الداخل العراقي فالهنود متدربين كتكنوقراط وليس متدربين على إدارة احتلال، وهنالك انفه عند العراقيين كان يمكن أن تعالج بالإقناع لو تولت بريطانيا الانتداب مباشرة، وبدأت مرحلة التطوير والمشاركة مع العراقيين الذين يمكن أن يضيفوا الكثير للحداثة المشتركة وكان يمكن أن يبقي بريطانيا في المقدمة، كخط ثاني مقارب لها بالحجم وذو ثروات، وهذا لا يترك أمريكا تتفوق لتحل محل بريطانيا ثم لتكون بريطانيا شبه تابع للقرار أو تأخذ دور الأسماك المرافقة للحيتان أو القرش.
اليوم الحداثات تتهاوى لاصطدامها ببعضها فلا قيمة تجمعها وإنما هنالك القيمة الأساس وهي النفعية ما يفرقها حتى وان بدت مجتمعة، حتى التوجه بنفس مسيحي لم يخطط له إحيائيا وإنما نوع من العصبية بلا فهم كمظهر يبرز الفشل، الإنسان أصبح عمليا عبدا للدولة، وباتت المنظومة القيمية أمرا حتميا للإنسان، معاداة الغرب للإسلام ظنا انه ضد الحداثة هو انطباع أتى من زمن حروب الفرنجة والتحشيد بتصوير الإسلام شر مطلق لتبرير التحشيد الذي اتضحت مراميه وبما ثبته التاريخ لكن لم ينعكس ما اكتشف على تقييم السلوكية الغربية تجاه الإسلام لانهيار المنظومة ولم تعد تشكل اكثر من خطر يصطنع عند الحاجة لحاجة منظومة الحداثة إلى تحديات كي تستمر ونلاحظ حذا وانتقال التحديات في حرب القرم الحالية.
ما يهدد الحداثة من المسلمين هي الصورة المشوهة التي حولت إلى واقع على الأرض كحالة الكل يعلم أنها شاذة وغباء من يشيطن الإسلام لمجرد انه مخالف له، لكن لو تركت الأفكار المستنيرة باستقراء للواقع والمستنبطة للحلول فان هنالك ما سيعود على الإنسانية بخير كثير لان الإسلام بأصله لا يرفض المخالف بل يحمي المعتقدات الأخرى وما نراه اليوم من التطرف عكس هذا بل المخالف فئة واسعة هي المسلمون انفسهم وتطورت إلى كل ما لا يفكر بطريقهم، وتضييق الواسع ليس فهما صحيحا، فغاية الإسلام العدل وغاية المسلمين تهيئة البيئة لامتلاك الإنسان أهليته وقراره وهو مسؤول عن قراره وليس فرض أي صيغة أو منظومة حكم إلا مما اتفقت الأمة عليه.
عندما تتحول العلمانية أو محاولات التميز بالدين وكأن الحقيقة عدمية وتتخندق فهذه من معالم التخلف والانحدار الفكري ولابد أن نفكر جميعا بالارتقاء الفكري لأنه المقدمة الصحيحة نحو حداثة من نوع آخر تتناسب مع تقارب المسافات والزمن في صناعة حياة تحترم الآدمية والكرامة الإنسانية ذلك لان ما يعرف بمصطلح الحداثة اليوم بات يعاني من التيه والهرم؛ فلابد من رؤية جديدة تقود الواقع كقيمة أخلاقية ليس لخلق العدو بل لإيقاف الانحدار في الآدمية.