في مثل هذا اليوم، في الثالث والعشرين من آب العام 2017، غادر حياتنا الشاعر والمفكر الفلسطيني أحمد حسين، ابن قريتنا الحبيبة مصمص، وأخ الشاعر الراحل راشد حسين، وصاحب المبدأ والموقف الوطني الثابت.
وبرحيله خسر الشعر والفكر الوطني الفلسطيني والحركة الوطنية الفلسطينية، مفكرًا من طراز خاص، وشاعرًا استثنائيًا مميزًا ومتفردًا بالغ العذوبة، من أصفى وأنقى وأبهى الأصوات الشعرية الفلسطينية، التي عانت التغييب والحصار، نتيجة مواقفه وأفكاره وطروحاته الوطنية والفكرية والسياسية المغايرة للخطاب السياسي والوطني السائد، وممن آثروا العزلة والابتعاد عن دائرة الضوء، وعن المنابر الزائفة والأجواء البائسة الغارقة في الضحالة والركاكة والبؤس والعهر الثقافي والزيف والنفاق والتملق الأدبي.
أحمد حسين قامة أدبية ووطنية، وشخصية فكرية بامتياز، وشاعر مبهر ملتزم بقضايا شعبه الوطنية، وأصالته الوطنية عكست بصماتها وآثارها على الأصالة الإبداعية، أثبت للجميع معدنه الأصيل وفكره الوطني الحُرّ، وعلمنا كيف يكون الشعر حفيفًا كالنثر، وكيف يكون النثر حفيفًا كالشعر.
نصوصه خمائل ثرية متعددة المرايا والمضامين والرؤى المشبعة ثقافة وعمقًا، وفيها يكتب التاريخ الكنعاني، ويصور الوجع الفلسطيني والمأساة الفلسطينية، بأحاسيسه ومشاعره وتجلياته، مستنبطًا الجمالية التعبيرية ذوقًا ومتعة من خلال جمال الفكرة واللفظة والعبارة والأسلوب المذهل والتمكن من اللغة، وبما يملك من ثقافة ومعرفة تراثية وتوراتية، وكنوز الخيال وثراء الروح.
وأحمد حسين عاشق حيفا المتيم بها والمعذب بجمالها، التي قال عنها:
حيفا على شفة الخليج قصيدة/ هيهات يكتب مثلها الشعراء
فحيفا عروس الكرمل والبحر، هي مدينته التي هُجّر منها في عام النكبة 1948، عندما كان في التاسعة من عمره، تحضر بقوة في قصائده، خصوصًا في ديوانه “قراءة في ساحة الإعدام”، فيقول:” أُعْطيكِ رُوحي لَوْ بَقِيتُ أَنا وَأَنْتِ لِوَحْدِنا/ أَسْقيكِ مِنْ شَفَتي شِعْرا خالِصا/ كَنَبيذِ كَرْمَتِنا وَلَونِ مَسائِنا/ لَوْ ذُقْتِ أَحْزاني فَهِمْتِ قَصيدَتي/ وَعَرَفْتِ شُغْلي عَنْ سَريركِ بالمُنى/ حَطتْ عَصافيرُ الحَنينِ عَلى مَدَى/ لا أَنْتِ فيهِ وَلا الجَليلُ وَلا أَنا/ وَالقَلْبُ خَلْفَ العَيْنِ إلا أَنهُ/ رُبانُ لَهْفَتِنا وَدَرْبُ وُلوعِنا/ أَلأَرْضُ أَوْطانٌ وَأَنْتِ سَفينَةٌ/ في بَحْرهِم، وَحَمامَةٌ في بَرنا/ تَدْنو وَتَبعُدُ لا تَرى غُصْنا سِوى/ أَحْزانِنا، فَتَحُط في أَحْزاننا”.
يقول الأديب الفلسطيني رشاد أبو شاور في تقديمه لديوان “قراءة في ساحة الإعدام: ” أحمد حسين شاعر تغتني شاعريته بموهبة أصيلة طالعة من تراثنا وألمنا، وثقافتنا وقهرنا، يعيد بسيرته الشعرية والفكرية والإنسانية كبرياء الشعراء العرب الفرسان، الذين قرنوا الكلمة بالفعل، واغتنت شاعريتهم بالتجربة والمعرفة.
ويضيف: “أحمد حسين يشيد مداميك عالية للشعر الفلسطيني، بل العربي، لا بالغنائية المائعة، ولا بالتعمية المدعية العمق، ولكن بالشعر الذي يقدم “معرفة” مفعمة بالإنسانية و”الرؤية” والتشوف إلى الآتي، وهو حتما آت. هذا الشاعر يمتد صوته، قُل نشيده، في سماء وطننا فوق الجبال، السهول، البحر، مناديا إنساننا في الداخل والشتات، الذي ما أن يقرأه ويسمع صوته حتى يزداد يقينا وثقة وقوة”.
استطاع أحمد حسين أن يتحرر من قيود الشخصية الرمز فجعلها ناطقة بجروحه وهمومه، وأعاد حركتها بشكل حداثي لتؤدي مظاهر متعددة، حيث اكتسبت قصائده دلالات واشارات ورموز تاريخية، من خلال تقاطع الأصوات وتداخلها وتعدد مستوياتها بين الماضي والحاضر، والذاتي والموضوعي. وتنهض رؤيته الشعرية على رغبة الذات الشاعرة في الولادة والانبعاث بالفعل الثوري المقاوم، المجلوب من داخل الذات الفلسطيني ببعدها الجماعي، أو المستند إلى الواقع والقدرة الشخصية والإرادة الوطنية.
أحمد حسين شاعر لن يتكرر، كان متمرسا، ممتلكًا لأدواته الفنية، مكتنزًا باللغة، حافظ على القصيدة والخلق الشعري. وتنضح كتاباته بإرهاصاته اللغوية والايقاعية، وجاءت شفافة متزنة على مستوى اللفظ والصورة والأوزان الشعرية، وعرف كيف يشدنا إلى نشيده الهجري بكل خصائص التجربة، والصور المزدحمة، وخصوبة الخيال، وقوة اللفظ، ومتانة الصياغة، والموقف الوطني الرشيد السديد، والرؤية المستقبلية.
أخيرًا، هنالك أهمية بالغة لإعادة نشر إصدارات شاعرنا وأديبنا الكبير أحمد حسين (أبو شادي)، وجمع ما كتبه من مداخلات ومقالات سياسية وأدبية وسجالات فكرية في صحيفة “الاتحاد” و “كنعان” و”نداء الأسوار”، و”الحصاد” الفحماوية، وفي موقع “أجراس العودة” و”ساحة التحرير” و”التجديد العربي” وغير ذلك من مواقع الكترونية، وإصدارها في مجلد ضخم ليكون بين أيدي الأجيال الفلسطينية الجديدة والقادمة.