؛ حين يحاول البعض أن يحدس أو يستنتج المعنى الاصطلاحي عن طريق نفس اللفظ ومدلوله اللغوي!!
فمثلا ؛ إن بعض من يجهل المعنى الإصطلاحي ” للمشترك المعنوي ” يحاول التوصل الى المعنى عن طريق التركيز على اللفظين الذين يتركب منهما المشترك المعنوي وبالتالي قد يستنتج ان معنى المشترك المعنوي هو الترادف!، ﻷن الألفاظ التي تشترك في معنى واحد تسمى الفاظ مترادفة.
وعلى ضوء معنى الترادف هذا، تكون نتيجة هذا الاستنتاج هي أن المشترك المعنوي هو الترادف!!!
وبطبيعة الحال فإن هذه النتيجة غير صحيحة ومخالفة للواقع؛ ﻷن مصطلح المشترك المعنوي يختلف عن مصطلح الترادف كما سيتضح ذلك خلال هذا البحث.
إن مثل هذا الاستنتاج يؤدي الى نتائج ضارة جدا على طالب العلم والمثقف بل وحتى على الفرد الاعتيادي.
إن المشكلة ليست في الحدس والاستنتاج، إنما هي في موضوع الاستنتاج، فإن المصطلحات غالبا لا تنفع أن تكون موضوعا للاستنتاج والحدس عند الجهل بمعانيها.
فإن المعنى اللغوي يختلف كثيراً عن المعنى الإصطلاحي وليس بينهما ترادف.
وكيف يعتمد الاستنتاج على المعنى اللغوي للتوصل الى المعنى الإصطلاحي المجهول!!؟
فمثلا؛ مصطلح ” مجهول المالك ” وهو من المصطلحات الفقهية، فإن معناه الإصطلاحي مغاير ومباين للمعنوى اللغوي، ولايمكن التوصل الى المعنى الإصطلاحي الذي يقصده الفقهاء بالاعتماد على المعنى اللغوي للفظ ” مجهول المالك”.
وعلى هذا الأساس قالوا: ( لا مشاحة في الاصطلاح)، ﻷن الاصطلاح قائم على الصلح والتصالح بين العلماء….
وقد حرص العلماء في دروسهم ومؤلفاتهم على بيان المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي؛ فنجدهم يقولون ان معنى هذا الشئ لغة كذا، واصطلاحا كذا.
وفائدة ذلك هو بيان التباين والاختلاف بين المعنى اللغوي والمعنى الإصطلاحي، وهذا بحد ذاته شاهد ودليل على عدم جدوى الحدس والاستنتاج وإمعان النظر في المصطلحات عند الجهل بمعانيها، فالذي لا يعرف معنى المصطلح يلزمه الرجوع الى اهل العلم والاختصاص كي يعرف المعنى الإصطلاحي.
إن الترادف مغاير ومباين للمشترك المعنوي، فالمعنى الإصطلاحي للترادف هو:
{(” إشتراك الألفاظ المتعددة في معنى واحد “)}[ المصدر: المنطق للشيخ محمد رضا المظفر]
أما المشترك المعنوي هو أشتراك المعاني المتعددة في معنى واحد جامع.
إن اللفظ يختلف عن المعنى بالرغم من وجود العلاقه اللغوية بينهما، فلفظ الجبل هو الصوت الذي يتألف من الحروف الهجائية الثلاثة( الجيم والباء واللام).
أما معنى الجبل المراد منه الصورة الذهنية للجبل، اي صورة الجبل في الذهن.
إن العلاقة بين لفظ الجبل ومعنى الجبل موجودة في الذهن ﻷن السامع سوف يتصور لفظ الجبل فيتصور معنى الجبل بسبب العلاقة الوضعية التي نشأت بين لفظ الجبل ومعنى الجبل.
وعلى هذا الأساس يمكن التمييز بين الترادف والمشترك المعنوي، لأن الترادف هو الفاظ متعددة تشترك في معنى واحد، كلفظ الاسد ولفظ الليث، فإنهما لفظان متعددان لمعنى واحد.
أما المشترك المعنوي فإن موضوعه المعاني المتعددة وليس الألفاظ المتعددة.
وقد تشترك المعاني المتعددة في لفظ واحد وهذا يسمى إصطلاحا( المشترك اللفظي)، فالمشترك اللفظي هو :
[{” اللفظ الذي تعدد معناه وقد وضع للجميع كل على حدة، ولكن من دون ان يسبق وضعه لبعضها على وضعه للاخر مثل (عين) الموضوع لحاسة النظر وينبوع الماء والذهب ومثل (الجون) الموضوع للاسود والأبيض والمشترك كثير في اللغة العربية”}](المصدر: المنطق للشيخ المظفر).
وقد تشترك المعاني المتعددة في معنى واحد وهذا هو المشترك المعنوي.
وقد تبين لنا جليا أن المشترك المعنوي يختلف عن المشترك اللفظي وأيضا يختلف عن الترادف بالرغم من أنها جميعا تستبطن فكرة الاشتراك إلا ان المشترك والشركاء يختلف فيما بينها:
فالشركاء في ( الترادف ) هي الألفاظ المتعددة، والشركاء في ( المشترك اللفظي) هي المعاني المتعددة، والشركاء في (المشترك المعنوي) هي المعاني المتعددة، الا ان الشركاء في المشترك المعنوي يشتركون في معنى واحد بينما الشركاء في المشترك اللفظي يشتركون في لفظ واحد.
فالشركاء إما الفاظ متعددة واما معاني متعددة،
والمشترك إما معنى واحد وإما لفظ واحد،
وحاصل ضرب 2×2 تكون النتيجة ثبوتا اربعة احتمالات:
الاحتمال الاول : المعاني المتعددة التي تشترك في معنى واحد، وهذا هو المشترك المعنوي.
الاحتمال الثاني: المعاني المتعددة التي تشترك في لفظ واحد، كالمشترك اللفظي.
الاحتمال الثالث: الالفاظ المتعددة التي تشترك في معنى واحد، وهذا هو الترادف.
الاحتمال الرابع: الألفاظ المتعددة التي تشترك في لفظ واحد وهذا الاحتمال ليس له مصداق.
وينبغي الان ذكر بعض الامثلة للمشترك المعنوي، وهي كثيرة، الا انني سأقتصر على بعضها توخيا للاختصار وفسح المجال للقارئ اللبيب في البحث عن أمثلة ومصاديق اخرى للمشترك المعنوي:
المثال الاول:
الوجوب والاستحباب.
فالوجوب هو اﻷمر بالشئ مع الإلزام بالفعل.
والاستحباب هو اﻷمر بالشئ مع الترخيص بالترك.
فإن المشترك المعنوي بين معنى الوجوب ومعنى الاستحباب هو معنى الطلب ﻷن الامر هو الطلب فالمعنى المشترك هو الطلب، فالوجوب طلب إلزامي، والاستحباب طلب غير الزامي(ترخيصي).
والمشترك المعنوي بينهما ( المعنى الجامع) هو الطلب.
المثال الثاني
الحرمة والكراهة
فالحرمة هي المنع عن الشئ مع الالزام بالترك.
والكراهة هي المنع عن الشئ مع الترخيص بالفعل.
والمشترك المعنوي بين معنى الحرمة والكراهة هو المنع.
فالحرمة منع إلزامي، والكراهة منع غير إلزامي( ترخيصي).
المثال الثالث:
وهذا المثال له فائدته العظيمة، أنقله من الجزء الثاني من كتاب فقه الاخلاق للسيد الشهيد محمد الصدر(قدس سره)، حيث جاء فيه ما نصه:
[{” يمكن أن ترد الزكاة في اللغة على معنيين : الكثرة والطبية، فيكون زكا بمعنى كثر وزاد، وبمعنى طاب وطهر، ولا تنافي بينهما. إذن، يمكن ان يجتمعا، بل هما في أكثر الموارد متفقان .
وموارد الزكاة منحصرة بموارد الخير، ولاتشمل موارد الشر، فزيادة العصيان والطغيان، وزيادة العقاب في الدنيا وفي الآخرة، لايمكن أن يسمى زكاة وإن كان فيها معنى الكثرة. وأما عدم توفر الطيبة فيها فهو واضح.
ومن هنا يمكن الجمع بين المفهومين بالقول بأن الزكاة هي كثرة الطيبة والطهارة، أو كثرة الخير وزيادته، يعني كثرة أي شيء يمثل جانب الخير في هذا الكون .
نعم، قد نسمي الطيبة زكاة، وإن لم يكن فيها كثرة، إلا أن الصحيح أن مجرد حصول الطيبة هي زيادة بالمعنى المعنوي .
والزكاة في هذا المعنى المشترك لها موارد عديدة، أهمها : المال والبدن والنفس. “}] إنتهى
المثال الرابع:
أيضا أنقله من الجزء الاول القسم الاول من كتاب ما وراء الفقه للسيد الشهيد محمد الصدر (قدس الله نفسه الزكية) حيث جاء فيه ما نصه:
[{” والذي يتحصل من هذا التطويل ان للطهارة او التطهير عدة معان:
1- انقطاع دم الحيض.
2- الاغتسال من الحيض او الجنابة.
3- الاستنجاء من البول والغائط.
4- التنزه عن الدنس والباطل.
5- التنزه عن الاثم وما لا يجمل.
6- طهارة الاخلاق.
7- طهارة القلب وهداه.
8- الطهارة التي تحصل باقامة الحد.
9- الطهارة التي تحصل بالعلو عن الماديات، كالملائكة.
10- الختان.
فهذه عشرة معاني، استعملت في لغة العرب بالاستعمال الحقيقي لان الاصل هو الحقيقة مع الشك في المجاز. وحتى لو كان فيها ما هو مجاز بالاصل، اعني في اول استعمالاته، الا ان الوجدان قاض باشتهاره الى حد يتحول الى الحقيقة خلال العصور الطويلة من الاستعمال. فالتبادر قائم على الحقيقة بلا اشكال.
كل ما في الامر ان هذه المعاني المتكثرة لابد من ارجاعها الى معنى جامع واحد يكون هو الاساس في الفهم. وتكون هذه الكثرة من قبيل المصاديق له. وليس هذا المعنى الواحد الا النزاهة وانعدام الدنس. غير ان الدنس يكون على اشكال ومستويات مختلفة. “}] إنتهى
والمعنى الجامع الواحد هو المشترك المعنوي بين هذه المعاني اللغوية العشرة، وهذا المشترك المعنوي هو (النزاهة وإنعدام الدنس )، إن هذا الكلام خير شاهد على إجتهاد السيد الشهيد محمد الصدر في فقه اللغة وقد كتبت قبل سنين مضت عن هذا الموضوع بحثا تحت عنوان( فقه اللغة في فكر الشهيد محمد الصدر).
وقبل الختام أود الاشارة الى سؤال يطرحه الفلاسفة وهو:
هل الوجود مشترك معنوي أم مشترك لفظي؟
وأعتقد أن التمييز بين المشترك المعنوي والمشترك اللفظي في غاية الأهمية لطالب العلم، ﻷنه يمثل موضوع المسألة على حد تعبير المناطقة….
فلو كان الجواب ان الوجود مشترك لفظي فهذا يعني أن معاني الوجود المتعددة لا تشترك في معنى جامع ويكون اشتراكها في لفظ واحد وهو لفظ الوجود، وقد ذهب بعض الفلاسفة الى القول بهذا الرأي.
وأما لو كان الجواب أن الوجود مشترك معنوي فإن المعاني المتعددة للوجود تشترك في معنى واحد جامع، وهذا ما ذهب اليه بعض الفلاسفة.
بقيت الاشارة الى أن المراد من الوجود ليس المعنى اللغوي العرفي الذي هو أقرب إلى المعنى الفلسفي للماهية..
بل المراد من الوجود هو الوجود بالمعنى الفلسفي الدقي فالوجود بحسب اصطلاح الفلاسفة هو المفهوم البديهي المعقول ….
وهذا ما تطرقت له في بداية هذا البحث في بيان المعنى الإصطلاحي الذي يختلف كثيرا عن المعنى اللغوي …
———————————-