23 نوفمبر، 2024 4:37 ص
Search
Close this search box.

سليمان كتاني والنشيد الفاطمي

سليمان كتاني والنشيد الفاطمي

في احتفاء أقامته الملحقية الثقافية الإيرانية في بيروت للكاتب سليمان كتاني تحت عنوان” سليمان كتاني وإمامية القيم” في أيام ذكرى ولادة الإمام علي (ع) في 16 رجب 1442/ 1 آذار 2021.
من النجف حيث تزمع التحضيرات لزيارة الباب فرنسيس، ليتم اللقاء بين الكنيسة والجامع، وبين الأجراس والمآذن، وبوجه خاص، اللقاء بين البابا فرنسيس حبر الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان، وآية الله السيستاني إمام الطائفة الشيعية في النجف؛ ليعزز اللقاء التعددية الدينية والتعايش السلمي بين الأديان.
في القرن 1هـ/ 7م دأبت أولى العلاقات بين المسيحية والإسلام في خضم الصراع الحضاري بين الدولتين الكبريين فارس وبيزنطة، والدولة الإسلامية، وكانت بين قبض وبسط في ظل الفتوح الإسلامية، التي أوقفها الإمام علي (ع) إبان خلافته؛ في الكوفة كبر اعتزاز المسيحيين: نساطرة ويعاقبة بالإمام علي في نجرانية الكوفة، حيث كان ييدير دفة الحوار مع بطاركتهم وأساقفتهم.
في عصر التنوير، وفي بدايات القرن العشرين أكد علماء المسيحية وأدباؤها اعتزازهم بالإمام علي، من أمثال: بولس سلامة، وأمين نخلة، وفؤاد فرام، وجورج جرداغ، وسليمان كتاني، في آخرين من الكتاب اللبنانيين، وخصّوا الإمام علي بكتاباتهم.
بيد أن سليمان كتاني (1912- 2004م) كان أكثر شمولية واستيعابا في دراساته، إذ لم يقف عند الإمام علي ومآثره المعرفية والإدارية في “الإمام علي: نبراس ومتراس” بل توسع في مدوناته حول أهل البيت، ابتداء بالرسول “محمد: شاطئ وسحاب”، و”فاطمة الزهراء: وتر في غمد” و”الإمام الحسن: الكوثر المهدور” و “الإمام الحسين في حلَّة البرفير” و “الإمام زين العابدين: عنقود مرصع” و “الإمام الباقر: نجي الرسول” و “الإمام جعفر: ضمير المعادلات” الإمام الكاظم: ضوء مقهور الشعاع”.
لم تصب فاطمة الزهراء- في المدونات العالمية والإسلامية- حظا وافرا مثل بقية الأئمة أهل البيت، ويتكلفون العذر لقصر حياتها، ولم يلتفتوا الى أنها عاصرت التاريخ النبوي وبداية الخلافة، وما فيها من حوادث غيرت وجه التاريخ، وكان لها دور فاعل فيها مع أبيها حامل الرسالة، وزوجها حامي الرسالة. ومن هنا نقف على عناية قلمية بفاطمة الزهراء لبعض المستشرقين مثل الفرنسي في دراساته عن التصوف والعرفان، إنه جمع خمسمائة ألف نص عن فاطمة بكل اللغات، وكذلك القس الكاثوليكي كريستوفر كلوهسي في إطروحة “فاطمة بنت محمد: نصف شمس” التي نزمع على ترجمتها الى العربية في “مؤسسة أديان للثقافة”، كما ترجمنا ونشرنا كتاب” التشيع في أمريكا” لـ “لياقت تاكيم”.
تمحور كتاب “فاطمة الزهراء: وتر في غمد” حول عنوانات ترسم تضاريس البيئة التي نشأت فيها فاطمة، وتبين خارطة حراكها، من تمثلاتها: “اجتماع ما قبل الإسلام”، “الشرارة الأولى خديجة”، “الأمين محمد: القافلة، البعث”، “الجبهة الجانبية بيت علي”، “الجبهة المعارضة: السقيفة”، “فدك”.
اتجهت بوصلة البحث نحو شخصية المرأة- بعامة- وتحملها مسؤولياتها الاجتماعية، وترتقي الى رأس هرمية التاريخ الأنثوي في بلاد اسماعيل البيت الثاني لإبراهيم، مكة ذات الحضارة الدينية التي ما فتئت تخلق بيئة نبوة محمد الرسول (ص) وأهل بيته، فاطمة التي هي مساق جهادي لإرساء مركب الإسلام، على مسار والدتها خديجة الكبرى التي اختلجت في بيتها شرارة الدين فكانت هي أيقونتها، وفاطمة قبسها.
يبدو ان تلكم القبسات مستلّة مما يختزنه مخيال المسيحي لامرأة مشرقية كانت منبعثا لدين جديد، او ثورة دينية مفتاحها ولادة السيد المسيح (ع)، ألا وهي مريم سيدة النساء؛ ولعله إشارة تكمن في الرمز “نصف شمس” الذي ابتعثه “القس كريستوفر” في عنوانه عن فاطمة، انه تجسيد لإشراقة إيحاء ديني يستغرق نصف العالم التاريخي حتى الآن، مختزل من الذاكرة المسيحية في مريم نصف شمس، ليكتمل الشعاع الديني في العالم.
في النشيد الفاطمي: “يا عديلة مريم، يا قيثارة النبي، يا ثورة اللحد، يا وترا في غمد” يكاد الشق الأول: “يا عديلة مريم” يشف عن خيوط الترسيم الثقافي المنبعثة من وحي قلمية الكاتب المسيحي سليمان كتاني، لوضع معادلة الحياة الدينية التي أزهرت في حضن امرأتين: مريم وفاطمة، فهما طرفا المعادلة المتوازنة في مسارها الجهادي بين الألم والأمل، فكلتاهما أم ذبيح على عماد الإصلاح الذي رفعاه كقيمة يستلهمها مجتمعهما الى اليوم، ففاطمة عديلة مريم في الدفاع عن مشروعها الذي اختلجته السماء، كلتاهما نافحت- بشجاعة- مجتمعا امتاز بفريته الباطل؛ من أجل تجسيد قيمة الحق والعدل بدت مشروعية التوازن، يقول كتاني: “لقد عبق خط وصلك ببنت عمران، يا ابنة المصطفى، فتلك مريم ما فرشت الأرض إلا من نتف الزنابق، وأنت النفحة الزهراء، ما نفت الطيب الا مناهل الكوثر”.
يحمل الشق الثاني من النشيد نداء “يا قيثارة النبي” عبق التاريخ وتمثلات رمزيته في قيثارة الملكة شبعاد السومرية (-2450ق.م)، ومدى علاقة القيثارة بالألوهة وما ترشح عنها من نغمات نحو المقدس؛ ولعل دلالة فاطمة قيثارة النبي تؤشر رحيق النبوة وصوتها الصادح في أروقة الحياة الدينية عبر عبقات بنيها أئمة أهل البيت، وتشير الى حياتها مع أبيها حيث رضعت من شفاهه رشفات النبوة، والتسقت به حتى كانت خاصرته التي يتألم لوجعها. وتشير من جهة أخرى الى تكريس حياتها على مسار النبوة، فقد قدمت التضحيات الجسيمة، أدلها انها قدمت للفداء بين يدي أبيها نفسها و زوجها وبين يديها ولداها الحسن والحسين في ميدان المباهلة مع مسيحي نجران ورهبانهم، تلبية لنداء المقدس {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (آل عمران، آية 57)؛ فكانت الواحدة من بين نساء البيت النبوي ونساء المسلمين التي حظيت بهذا الموقف، وهي الوحيدة بين مجتمع النساء اصطفيت الى كساء أبيها يوم نزلت آية التطهير لآل البيت، فهي- كما وصفها النبي- أم أبيها، وهي في توصيف كتاني: “لقد كانت النبوة طفلك البكر، داعبتيه بيد، قبلتيه بفم، عانقتيه بعين، رافقتيه بقلب، حضنتيه بروح، ضممتيه بشوق، فأشعلت بين حناياك أشواق السماء، والتهبت في محجريك أثقال المعاني”، وحسبها انها ابنة أعظم نبي، وزوجة إمام بطل، وأم الحسنين سيدي شباب أهل الجنة، وسيدة نساء العالمين.
لا شك إن هذه القيثارة لم تتوقف عن صدحها نغمة الحق حتى بعيد وفاة أبيها، إذ وقفت تنشد عليها في مجتمع الخليفة، بعدما تخطت الى صدر المجلس، وأعلنت عن غضبها على ركوب تراث أبيها وحرمانها من ربيعه، في خطبتها “الفدكية” ترجمت عوالي القيم: قيمة الحق، وقيمة العدل، وقيمة الشجاعة والموقف، بأحسن ما يجود به الخطيب المقنع من بيان وحجج؛ حتى قال كتاني: “من قال: إن البطولات وقف على الرجال” (ص150).
الشق الثالث من النشيج الفاطمي ” يا ثورة اللحد” نداء آخر يكتنز بالرمزية، في يوم طويل لم تنجل فيه الشمس بعدئذ انكسفت، وتفجرت الظلمة في بيت الأحزان، ودفنت في ليل دامس واجدة على جماعة اضهدتها حقها، لم تتح للمتسلط ان يتبرك بالصلاة على جنازة بضعة النبي، من هناك بدأت ثورة السؤالات تتناثر وتترى هنا وهناك، لم تجد جواباتها إلا في نضال علي الإمام ثلاثين سنة ومعارضته المتسمة بالحلم والصبر ، ومن ثم بالحروب المفتعلة عليه، حتى استشهد في محراب الصلاة، وجاءت جوابات الحسن الإمام لعشر سنين ينشد فيه السلام لأمة الإسلام، تلتها جوابات الثورة التي اضطلع بها الحسين الإمام لعشر سنين، تلتها ثورات للعلويين تترى، حتى قصرت من عمر دولة أمية، وجلها شرارات من ذاك اللحد.
يأتي الشق الرابع من النشيد “يا وترا في غمد” نداء يستخلص المقاطع الثلاثة السابقة، لكنه يستشرف مستقبل الأيام، نشيج القيثارة الحزين يظل أصداء الزمان والمكان مجللة بالسواد، وفي ذكرى تلكم الأيام المفجعة تلمع نغمات الحزن من ذاك الوتر المغمود، غضبى، كصوت أم وترت بفقد وحيدها، تستلهمها أفئدة الناس هوى، لتشع منها سهام الثورة على الجائرين أنَّى كانوا.
يكاد منهج كتاني في كتابة السيرة يكون مختلفا، فهو لم يرسم حياة فاطمة على نحو تقليدي، عماده النقل وعنعنة السند، ولم يكن أكاديميا يبتني سرده على الاستقراء والاستنتاج والتحليل، بل استعمل الأسلوب الأدبي في استيحاء المعاني، وتوظيف البنى اللفظية المشحونة بالبيان والبديع والصور وحتى الرموز، فقدمت عبقا وألقا على طبق عاجي، تشف لها الأسماع، وتسر الأنظار، فاسم فاطمة زاهر أنَّى كان.
في نافلة العنوانات التي هيكلها كتاني، ورد عنوان “ما قبل الإسلام” أراد منه رسم صورة لمجتمع فاطمة الأول، فقد قيل انها ولدت قبل البعثة بخمس سنين، وقيل ولدت بعد البعثة بخمس سنين؛ هنا أخذ طفق يقرأ تاريخ الجاهلية من خلال جزيرة العرب، وقبائلها المتحركة كالرمال في فيافيها تحت عوامل القحط والتصحر، واقتصاد منحط وغير منظم، ونهج اجتماعيّ قاسٍ وهزيل، من تمثلاته: شيوع الغزو بين القبائل والبقاء للأقوى، وتهميش المراة حد الاحتقار، الذي دعاهم الى وأد البنات تحت طائلة الشرف الذكوري، فافتقرت الخيمة الاجتماعية الى الأنثى شبَّتها الثانية وعمادها.
تحصل من هذا السرد إن جزيرة العرب كانت تشتمل على مفردات الانحطاط الحضاري في الحيوات: الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية والفكرية والدينية… من هذا الجبّ الحضاري الكالح الظلمة اندلق نور فاطمة؛ لست أدري هل كان كتاني يتشدق وجوب الثنوية (النور والظلمة) التي استقاها التاريخ من “أفستا زرادشت”؟ وهل ثمة نور انبثق مشرقا في الصبح؟.
إن قراءة العنوان من حدوده الزمكانية أمر ضروري في منهجية البحث، أما قراءته مكانيا من الخارج فتعكس صورة الإطار الخارجي، وأما مكانية الداخل فترسم ملامح الصورة وأبعادها، وقد يكون الحد الداخلي يختلف تماما، أو بشكل نسبي، عن عن ملامح الحد الخارجي؛ وهذا ما عليه مكة، أم القرى التي تحيطها بأبعادها الحضارية، مثل: نجران المسيحية، ويثرب اليهودية تشكل الأغلبية، والطائف الوثنية، فازدانت مكة بشمولها التعددية الدينية والاجتماعية، فالديانات الإبراهيمية من الموحدين تتعبد في رسم إبراهيم وإسماعيل على جدار البيت، واليهود في رسم هارون وموسى، والمسيحية بلوحة مريم والمسيح، وبدايات الدعوة الجديدة، حيث يقيم الصلاة محمد وخديجة وعلي، فضلا عن وجود الصابئة والمجوسية، وتلكم هي الأديان التي ذكرها القرآن الكريم، أضف اليها الديانة الوثنية في تنوع أوثانها حتى بلغت 360 وثنا، وهي أكثر أتباعا؛ يَأْتُوها الناس {رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.
وتميزت مكة بتنظيمها الاجتماعي المتمثل في التماسك الأسري، ووجود الأحلاف مثل حلف الفضول، الذي يعجز عنه أي قانون- الى اليوم- للحفاظ على الحقوق، وتوزيع فضول التجارة على الفقراء، ودور المرأة في الحياة الاجتماعية والتجارة مثل خديجة بنت خويلد، وهند بنت عتبة؛ والتنظيم السياسي المتمثل بإدارة أشراف عشيرة قريش، وهو ما توليه تمثلاته اليوم في بلدان الجزيرة؛ والتنظيم الاقتصادي وإدارة تجارة {قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}. ومهما يكن لقد بزغ من وادي مكة رجال خلدهم التاريخ مثل: قصي وهاشم وعبد المطلب وابوطالب ومحمد ثم علي، من أسرة واحدة، ومثلهم من النساء، جميعا ترعرعوا في حضارة مكة، وليس من ظلمات جزيرة العرب.
أخيرا لم يكن الكاتب موفقا في عرضه المبحث الأول، إذ عارضه في مباحثه التالية عن خديجة وقوافلها، وإرادتها الحرة في الزواج، وتلكم المباحث كان موفقا فيها غاية التوفيق.

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات