إلى قاسم حنون : رفيقا دؤوبا وصديقاً حميماً منذ أكثر من ثلث قرن.
(*)
حين بدأتُ الكتابة عن (الرواية العمياء) بعد قراءتين: تمهلت ُ عميقا.. حاولت ْ مخيلتي التسلل وحدها لذلك المبنى / المستوطنة/ المحمية/ الدولة العميقة / الحصن المموه برعاية العمياوات والعميان .وبتوقيت محاولة مخيلتي : هامسني صوت الجاسوس المبصر(على كل مبصر أن يتعلّم كيف يكون أعمى؟ /229 ) فقالت ذاكرتي: يا لها من مهنة ٍ شاقة. ثم أغمضتُ عينيّ وفتّحت بصيرتي.. لامسَت باطن قدميّ رطوبة الممرات وتصادم جسدي مع فراغ صلد،خنقني زفيرُ أعمى يغلي بمكبوتات ملتبسة، غمرني صوتٌ يحوقل ونكهة خمرة رديئة، رأيت ُ شخصا لا يقر له قرار يتجول .. يلصق أذنه على الابواب.. وسمعت صوتاً يضيء عميانا ويستفز آخرين : كان الصوت يتهادى قائلا: (نملأ رئتينا بالهواء ونجهل ما هو الهواء../ 186 ).. بنبرة خفيضة عقبت فتاة عمياء(لا يمكنك رؤية عمق البحر من السطح) ثم جاء الرد المتناغم: عزف موسيقي رخيم تفايض مِن أحدى الغرف وتماوج بين الممرات .. تسرب من شقوق الأبواب نحو الغرف : غرفة ً غرفة ً.. ثم توجهت الأنغام بعد أن تركت مراياها في الغرف نحو الحديقة قاصدة تلك الشجرة : وصلتُ الشجرة المهيبة والوقت منتصف القمر .. : صبّحت بالخير في منتصف الليل على الشجرة .. شعرتُها: تتمايل وتتباسم ولم تفزع طيورها النائمة، فعلتُ كما فعل السارد : أخرجت الموبايل وضغطتُ المصباح : بهرتني كتابات العشب على خاصرة الشجرة : كتابات بارزة يقرأها الأعمى والمبصر.. بماذا تخبرنا شفرات الشجرة ؟ هل الظلام هو اللاوعي؟ والنور..؟ ربما .. أقول : ربما : النور هو الوعي. أحيانا لا أسأل أحدا :هل النور: قشرة الأشياء ؟ وفي الظلام يتجوهر كنه المكنون وفص الحكمة؟ لماذا العميان وحدهم خبراء الاحجار الكريمة؟ هل الملامسة أعمق صدقا من الرؤية؟ و لا يصير الظلام نوراً إلاّ حين (تضيء الذات نفسها من الأعماق، عبر محاجر عيونهم المطفأة والمضيئة في آن/183)
(*)
على مستوى قراءة (الرواية العمياء) أيها القارىء عليك أن تتعلم كيف تتذوق الكلمات في الظلام.
(*)
يمهّد لنا المؤلف شاكر نوري الدخول إلى الحصن من خلال تثبيته مخففات الصدمة : مقبوسات : ابن رشد/ شوبنهاور/ جبران/ بشّار بن برد/ المعري: تؤكد فضائل العمى على البصيرة
(*)
في الصفحة التالية نكون مع وجيز الوجيز السردي، بحجم نصف صفحة لرواية بسعة (364) صفحة. لهذه العتبة النصية وظيفة مزدوجة : قراءتي الثانية للرواية رأتها: تقريرا ً موجها للمؤسسة التي كلفت الموظف بالتعامي لمعرفة موجهات الفساد الإداري. وبالنسبة للقارىء يحق له أن يتعامل معها كمقدمة روائية، ومثل كل المقدمات فهي الورقة ما بعد الأخيرة في العمل الروائي وهي الورقة الأولى في التنضيد الطباعي.
(*)
من خلال الاستهلال يعرف القارىء أن السارد المشارك خاض تجربة ً عسيرة ً في فضاء معتم على أكثر من مستوى وهذه التجربة ولادة جديدة للسارد( تسعة أشهر برفقتهم).وبشهادة الموظف المتعامي :(..في عالم مظلم كأنه بطن أمي التي خرجت منه قبل أربعين عاماً. ومازلتُ أرتبط بحبل سرّيّ يجسّد طموحي الكبير من أجل تحقيق الانتصار../ 359 )
(*)
ضمن مشغلي في القراءة المنتجة أصنّف هذه الرواية ضمن الروايات المشطورة، التي تناولتها نقديا وحول هذا الإنشطار تحاول كتابتي .
(*)
في ص265، تحت عنوان (ملاحظة) يعلن المؤلف عن مواد انتاجه للرواية
*قصة(الشبيه) لفقيد الأدب العراقي فهد الأسدي
وهذا يعني يوجد لدينا تشطار بين جنسين سرديين : جنس القصة القصيرة سيغترف منه الروائي شاكر نوري ويشتغله روائيا فيتسع الفضاء النصي وتتحول غرفة القص إلى بيت الرواية
*حياة اللغوي الاندلسي الأعمي : أبو الحسن بن إسماعيل المعروف بأبن سيدة
*أرشيف معهد النور لطلبة ذوي الإعاقة البصرية/ بغداد الطوبجي. حي السلام. تأسس في 1949. وقد أجرى الروائي شاكر نوري حوارات مع بعض أساتذته في 2002 وهذه الاستعانة ستنقل الوثيقة من جفافها إلى ليونة الطقس الروائي
(*)
العمل الروائي من الكائنات النصية: شاكر نوري الروائي الدؤوب على تجاوز إبداعاته الروائية، هنا يعلن أكثر العنوانات الروائية صدمة ً (الرواية العمياء) !! لو كان العنوان رواية العميان لكان التلقي فاتراً. لكن أن تكون الرواية عمياء فصدمة التلقي تشوقنا لتحريك السطور بعيوننا، هنا التباين بين العنوان والسارد المشارك فلو كان السارد أعمى لما تمكن من كل هذه الكشوفات في معهد العميان. لكن هذا السارد هو الإنشطار الاول في الرواية فهو الأعمى مؤقتا وحصريا بتوقيت تسعة شهور. فهذا المتعامي هو الذي رأى الخراب المنسّق في معهد تفسيد العمياوات والعميان وتفسيد حياتهم وأحلامهن .. وربما تشفع حياة الفتاة العمياء لمروان بصرهُ فهو ليس أعمى وبشهادة مروان (لم تبق أمامي أيّة وسيلة لإقناعها سوى أن تطّلع على الرواية العمياء../ 364).. العمى هنا تأويليا ربما يعني أن هذه الكشوفات ستبقى في ملف العماء التابع للوزارة (لأنه يدخل في إطار منجزاتها الخطيرة التي لايمكن خروجها إلى العلن. وإن حصل وكُشف سرّها فستُعرّض المؤسسة نفسها للفضحية،إذ كيف لها أن تتجسس على العميان، هي التي تريد أن تظهر بأنها تذُود عنهم وعن حقوقهم وتسهر على مصالحهم/359 ).. ستكون قراءة لجنة الوزارة لتقارير مروان : منشطرة ً بين :
*أقتناع الاغلبية
*تمسك البعض بغموض التقارير وأفتقارها للدقة في إدانة المجرمين الذين تجنوا على معهد العميان
(*)
في الفضاء المغلق لاوجود للأبيض ولا للأسود،لكن يوجد أكثر من ضوءٍ في النفق.
*الجمال الأعمى لمعشوقة السارد : حياة
*ضوء الموسيقى من عزف وغناء فريدون
*غواية الكلمات من شفتي بورهان
*لطخات فرشاة التشكيلي الأعمى : سيرغين
*العينان المبصرتان والذاكرة الفتية للصبي القارىء
*الزيبق : شخصية تمسرح ذاتها في عدة أقنعة، وتبث نذالتها كحضور دائم
(*)
مهمة السارد : هي (الكشف عن شبكات الفساد اللامرئيّة، الغامضة في أعماق هذا المجتمع المصغّر، معهد تأهيل العميان ../ 348 ) وهي ليست مهمة طوعية. بشهادة السارد (أجبرتني وظيفتي على دخول هذا المعهد../ 180 ) كما أجبرته أن تكون تقاريره السرية مجردة من أسلوبه الشخصي. وهنا نلمس إنشطارا سرديا
فالمؤسسة التي يعمل فيها تريد خفايا ظاهرة الفساد في المعهد أما مكابدات العميان فذلك شأن آخر!! فأهمية هذه المهمة الشاقة تنحصر في (حصول مديرنا على الأوسمة والألقاب من الوزارة كبطل في القضاء على الفساد، تلك الموضة سادت،لدرجة أن الفاسدين أنفسهم أنخرطوا في محاربة الفساد../ 313 ) وهكذا هو حالنا العراقي الآن بكل معنى الكلمة.
(*)
موضوعة الرواية : كيفية التصدي للظلام بالموسيقا والرسم والإصغاء لقراءة الكتب وتعاطي المخدرات والشعوذة والدعارة. خصوصا : (غرائب المعهد لا تُعد ّ، ولا تحصى../307 ) السارد النوعي يتعامل بالرحمة لا بالعدالة، يلفق من عماهم مبررات لهم (الحياة أغلقت منافذها في وجوههم،فلم يروا أي منفذ غير هذا الفساد للتحايل على الحياة،لأنها ربما سخرية الزمن، وكل العميان هنا يبحثون عن حياة سعيدة. لا سبيل إليها إلا بالحيل البارعة، والخداع الذكيّ../ 204)
(*)
إنشطارات الرواية : تفتحها إيماءة السارد النوعي في الاستهلال( ولا أدرك معنى الشبيه لولا مقلدي الزيبق / 9 ).. وشخصية الزيبق مشطورة : معلن / مخبوء فهو الوجه المعلن من شبكة الفساد المخبوءة خلفه ((الزيبق وإن كان جزءاً منها، لكن المهمة الكبرى الملقاة على عاتقي أن أخترق تلك الشبكة اللعينة التي تستغل العميان ../132)
عالم العميان كتلة متراصة، لا يستطيع أي شخص ( الوصول إلى النقطة العميقة من عذاباتهم وهذيانهم وشهواتهم ورغباتهم وهلوساتهم وحيلهم ومهاراتهم ../ 318).. لكن بدخول القادم من عالم المبصرين، المتجسس على حريات العميان..(سيتغيّر كل شيء،عالمان مشطوران إلى نصفين : واقعيّ وحدسي../ 349).. وهناك إنشطار جمعي بين الداخل / الخارج (بفقدانهم بصرهم،صبّوا نقمتهم على الخارج بشعورهم أنّ جدارا ً أرتفع بينهم وبينه../ 312 ).. ومن جراء ذلك يرفضون الآخر المختلف، ولا يترددون عن قتله، لذا نرى الزيبق الذي يشك في عمى السارد يخاطبه (ألم يكفكم هذا العالم الواسع حتى تتطفلوا على عالمنا؟../ 240 ).. ومن خلال تركيم هذا الانشطار رأى السارد نفسه في تجاذبات متقاطعة (هكذا تتجاذبني فكرتان متناقضتان،أن أبقى داخل أسوار المعهد،أو أهرب إلى خارجها..)..
(*)
عزلة العميان وأهمال الدولة وتهمشيها لهذه الفئة من المجتمع وبسب مثلث التهميش والأهمال والعزلة : أنشطرت سرديات آيلة عن المكان والمكين (شاع عنهم أن حتى عقارب ساعاتهم تدور بعكس الدوران المألوف. من اليسار إلى اليمين،تاركين التربة خصبة لتأليف القصص والحكايات والأساطير حولهم، ومن أقرب الناس لهم : أهل الحيّ الذي يقع فيه مبنى المعهد../244 ) وهناك الإنشطار الموجب المتعالي على كل وخزة ألم بشهادة العازف فريدون : (فقدان البصر، ورؤية عالم أبعد../78)…
(*)
مبنى معهد العميان له إنشطاراته الهندسية. وداخل الإنشطار إنشطار ثان وثالث : (في المعهد سراديب تنزل إلى طوابق في أسفل الأرض، كان مدفنا أيام زمان ولم يعد كذلك بعد إنشاء أكبر مقبرة في العالم ../ 180).. والمقبرة يجدد الزنا حياتها بشكل نسبي (شاع أن بعض العمياوات دفن رضعّا لقطاء هناك، ممازاد المكان رهبة وغموضا..) وضمن الإنشطار يوجد سجن ٌ للعميان أيضا.!!
(*)
السارد نفسه مشطورٌ سرديا : من قبل مديره الذي كلّفه بالمهمة، أصبح السارد ممسرحا من قبل المدير/ مخرج النص التجسسي (مديري يلقّنني الدروس عندما تغيب عن ذهني الكلمات والعبارات التي يجب أن أتفوّه بها مع العميان أو مع إدارة المعهد، حتى وجدتُ نفسي إنسانا آليّا، لا يتكلم من تلقاء نفسه، بل من خلال الملّقن الجالس في غرفة التلقين. وجدتُ نفسي أمام نص مخيف، يجعلني،أنا الفصيح بالكلمات أتلعثم وأتردّد../ 182 )
(*)
ترى قراءتي أن هذه الانشطارات لها حيو يتها المشوقة في الرواية
شاكر نوري \ الرواية العمياء\ شركة المطبوعات للتوزيع والنشر\ بيروت\ 2020