” حسناً لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة ، سأريهم سأتكلّم متى أشاء و في أيّ وقتٍ و بأعلى صوت ، لن يقوى أحد على إسكاتي “.
* أكاديميّة و كاتبة سورية مقيمة في موسكو
نحن أبناء بلاد الشام قُدّر لنا أن تنهش الأوجاع أرواحنا قبل ممات الجسد ، مازلنا نودّع رموز الحياة لنا يوماً بعد يوماً ، ومدننا مازالت تنزف بلا توقّف ، بعد عشرة أيّام من إحياء ذكرى غياب محمود درويش الثانية عشر ، و وستة عشر يوماً على فجيعتنا ببيروت، نقلب صفحة الروزنامة بعبثٍ هذا الصبح ، من دون أيّ شوق لأيّة ذكرى أخرى ، من بعد أن اعتدنا أن تكون ذكرياتنا معجونة من دمٍ و دمع .
بدون إنذار يدرك العربيّ المنكوب اليوم ١٩ أغسطس ٢٠٢٠ مرور ستّ سنوات على رحيل شطر البرتقالة الفلسطينيّة الثّانية ، و آخر ثالث ثلاثة حبّات عنب فلسطينيّ أحمر قاتم قتامة دم أطفال أرض الشام في عنقود شعراء المقاومة – سميح القاسم بعد أن سبقاه رفيقا أحلامه وآلامه محمود درويش وتوفيق زياد .
” حسناً لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة ، سأريهم سأتكلّم متى أشاء و في أيّ وقتٍ و بأعلى صوت ، لن يقوى أحد على إسكاتي “.
بكى الطفل ذات مرّة فذُعر ركّاب القطار الذي يقلّ عائلته في غمار الحرب العالميّة الثانية من أم تستدلّ الطائرات الألمانية طريقا إليهم فهددوا بقتل الطفل و إسكاته إلى الأبد .
غضب الطفل فأصبح سميح القاسم ، مقسماً أن لا يسكت أبداً ، عبثاً حاولوا اسكاته لكن محالٌ أن يصمت الليمون في الجليل ، أن يهدأ النعناع البريّ في بيسان ، أن ينضب زيت الزيتون الراماوي ، و محالٌ أن يسكت صوت القاسم من أرض الحسرات .
غاضباً منتفضاً مهدّداً متوعداً بالنصر متبنّياً صوت الفلسطينيّ الحزين أبداً :
تقدّموا .. بناقلات جندكم .. و راجمات حقدكم .. و هددوا و شرّدوا و يتّموا و هدّموا .. لن تكسروا أعماقنا . لن تهزموا أشواقنا .. نحن القضاء المبرم .
في الزرقاء الأردنية 11/5/1939 ولد القاسم حيث كان أبوه ضابطاً في قوّة حدود شرق الأردن ، درس الابتدائية في الرّامة والثانوية في الناصرة ، و كتب الشّعر في الثانية عشر من عمره فصادق راشد حسين ، شكيب جهشان ، جمال لعوار ، طه محمد علي ، عمر حمودة الزعبي ، توفيق فياض ، فرج نور سلمان ، أحمد ريحاوي .
رفض قانون التجنيد الإجباري الذي فرضته حكومة اسرائيل على أبناء الطائفة الدرزية ١٩٥٦ فقام بتشكيل أول تنظيم سياسي يعارض تجنيد الشباب الدروز ( باسم الدروز الشباب الأحرار ) متيمّناً بتنظيم ( الضبّاط الأحرار ) بقيادة جمال عبد النّاصر في مصر ، فوقّعوا البيانات و أقاموا الندوات و الاجتماعات التي يعلنون فيها رفضهم لهذا القانون ، و أُلقي القبض على سميح و سُجن عدة مرات ، و عوقب أشدّ العقوبات بغية كسر شموخه الذي تميّز به فجعلوه يعمل قسراً في غرفة الموتى في مستشفى ( رمبام ) و في شقّ الطرقات .
لكن صوت النضال الفلسطيني ّ لم يرضخ لسجانيه حتى أدرك المسؤولون في الجيش أنّ وجود سميح بين المجنّدين الآخرين يحرّضهم على التمرّد فقرروا تسريحه مرغمين .
درس في قسم الهندسة في معهد ( التخنيون ) في حيفا و عمل مدرّساً للمرحلة الابتدائية ، متابعاً المضيّ في طريقه الثوريّ ، مستمرّاً بقصائده التي تتغنّى بثورات العرب و أمجادهم ، فأطلق مجموعته الأولى ( مواكب الشمس ١٩٥٨) تليها ( أغاني الدروب ١٩٦٤) ممّا استفزّ المسؤولين في وزارة المعارف ففصلوه من العمل .
اُعتُقل القاسم من قبل السلطات الاسرائيلية ، و فرضاً أقام في الإقامة الجبرّية في غرفته في حيفا من مغيب الشمس حتى شروقها ، و حاولوا اتّهامه بشتّى التّهم الملفّقة ، و صادروا مجموعاته الشعريّة حتى اعترض ( سارتر ) على مصادرة ديوان سميح ( و يكون أم يأتي طائر الرعد ١٩٦٩ ) حيث كان في زيارة للبلاد آنذاك .
و بعد أن قبل سميح العمل برئاسة تحرير مجلة ( هذا العالم ) اليساريّة العبريّة واسعة الانتشار لصاحبها الصحفيّ اليساريّ المعروف ( أوري أفنيري ) صاحب مجلّة ( هعولام هازيه ) ، اختلف مع أفنيري على المواقف المبدئية و ترك العمل في (هذا العالم ) بعد أشهر .
تابع في عالم الصحافة من محرّر في صحف الحزب الشيوعيّ في ( الغد) و ( الاتحاد) و ( الجديد ) ، و أسّس مع صديقه عصام خوري ( منشورات عربسك ١٩٧٣ ) ، و أدار المؤسسة الشعبية للفنون في حيفا .
شغل منصب رئيس اتحاد الكتّاب ٤٨ الفصليّة و فيما بعد رئاسة ( الاتّحاد العامّ للكتاب العرب الفلسطينيين ) في اسرائيل ، و رئاسة تحرير مجلّة إضاءات .
اُنتخب لأكثر من مرّة عضواً في اللّجنة المركزيّة للحزب الشيوعيّ ، و ترأس سميح لعدّة سنوات تحرير جريدة ( كلّ العرب ) التي تصدر من الناصرة .
جاءت الانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠ فكسرت وجدان سميح ، حيث قامت اسرائيل بإعادة احتلال معظم أراضي فلسطين مع تدمير البنى التحتية في كلّ الأراضي المحتلّة في الضفّة الغربيّة و قطاع غزّة و قتلت مئات الفلسطينيين و حاصرت ياسر عرفات رئيس فلسطين بمقرّه في رام الله حتى آخر يوم في حياته .
عَمُقَ جرح القاسم مع عمق جراحنا المتوالية ٢٠٠٣ عندما احتلت القوّات الأمريكيّة و حلفاؤها العراق ، و استمرّت النكبات حتى ٢٠٠٦ حيث غزت القوات الاسرائيليّة أراضي لبنان بما عرفت آنذاك حرب لبنان الثّانية ، و كذلك قطّاع غزّة حتى ٢٠٠٨ . فكانت كتابات سميح فصلاً جديداً في الأدب العربيّ ، وصل إلى عمق الضمير العربي و الانتماء القومي . و اشتهرت كتاباته من الداخل مع محمود درويش بشطري البرتقالة فكانت هذه المراسلات حالة أدبية نادرة .
وجاء موت ياسر عرفات عام ٢٠٠٤ و تلاه موت توأم روح القاسم محمود درويش ٢٠٠٨ ، حتى أتاه خبر إصابته بسرطان الكبد يوم ١٢/٧/٢٠١١ .
و بعد أكثر من سبعين ديوان شعر ورواية قصيرة و مسرحية و سيرة شخصية يوم ١٩ أغسطس ٢٠١٤ حمل الفلسطينيّون بأيديهم قصفات الزيتون و الريحان و غنّوا له منتصب القامة أمشي …
نعم .. منتصب القامة مشى سميح إلى الموت ، على أكتاف الفلسطينيين تربّع نعشه ، حملوه و غنّوا له ، قلبه قمرٌ أحمر ، قلبه بستان ، فيه.. فيه العوسج فيه الريحان .. شفتاه سماء تمطر ، نارٌ حيناً حبّاً أحيان …….