ومن جانب آخر يذكر السياسي الكردي(عصمت شريف وانلي) في مذكراته حول حدوث الخلاف بين قيادة ملا مصطفى البارزاني والمكتب السياسي بقيادة إبراهيم أحمد سكرتير الحزب، ولجوء ابراهيم أحمد ومام جلال(= جلال الطالباني) والباقين من أعضاء المكتب السياسي الى ايران عام1964م، واقترح عليَ كمال فؤاد (= رئيس جمعية الطلبة الاكراد في أوروبا آنذاك وعضو المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني فيما بعد) السفر لكُردستان ورؤية البارزاني عسى أن يقبل برجوع الجماعة (= منشقي المكتب السياسي) لحضيرة الثورة، وكان هذا رغبتي أيضاً، ” … وسافرت مع كمال فؤاد لطهران في طريقنا لكردستان العراق ونمت عدة ليالي في المنزل الذي كان يقطن به الاخوان أعضاء المكتب السياسي في حي شمال المدينة (= طهران). كانوا أيضاً اخوان لي ولا سيما مام جلال. تعرفت هناك على المرحوم المقدم عزيز شمزيني (= حفيد الشيخ عبيدالله النهري)، وكنت أقدره لكتابة أطروحته في الاتحاد السوفياتي عن القضية الكردية باللغة الروسية. وقرأت ترجمة لها في (جريدة خه بات) بالعربية، ثم غادرت والاخ كمال فؤاد الى كُردستان العراق ( بمساعدة السافاك). اجتمعت مع البارزاني (= ملا مصطفى) في بيته في رانية… وقال لي البارزاني:(أنت أيضاً تريد أن تضع عقرباً في جيبي)، ويقصد بالعقرب ابراهيم احمد، وأضاف : ( لا بأس حاول ذلك). ورجعت والاخ كمال مرتين لطهران، كل مرة في ضيافة الاخوان (= أعضاء المكتب السياسي اللاجئون في ايران)، أو الأصح ضيافة الحكومة الايرانية. لم تنجح المحاولات آنذاك في اصلاح البين بين قيادة البارزاني والمكتب السياسي (= السابق)، بل كان البارزاني قد عين الأخ حبيب محمد كريم (= الفيلي) كسكرتير جديد للحزب الديمقراطي الكردستاني”. ينظر: من مذكرات عصمت شريف وانلي، مؤسسة زين لاحياء التراث والوثائقي والصحفي، السليمانية، 2014/، ص36 – 37.
ويستطرد السيد عصمت وانلي في حديثه بالقول:” زرت في طهران برفقة مام جلال، احسان نوري باشا[(1896-1976م)، قائد الثورة الكردية ضد سلطات تركيا الكمالية عام1930م] في بيته، فطلب أن نتكلم بصوت خافت: (لأن الجدران لا شك ملئى بالميكروفونات)، للتجسس عليه، وتكلم لنا همساً عن رغبته في كتابة مذكراته عن آغري داغ(= معركة قادها ضد الاتراك عام1930م)، وأخذنا في بيته صوراً سوية)”.
رجع السيد وانلي لقصبة رانية وطلب الاخوان المسؤولون في الثورة الكردية أن يشاركهم في الاجتماعات الشعبية والحزبية لوضع (مجلس قيادة الثورة) موضع التنفيذ وووضع القوانين المصاحبة لها، وأصبح السيد عصمت وانلي عضواً في (مجلس قيادة الثورة، بصفته غير الحزبية)، الذي شكله الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني بعد خروج غالبية أعضاء المكتب السياسي عن قيادته بزعامة ابراهيم أحمد سكرتير الحزب)،؛ بسبب اتفاقه مع الرئيس العراقي عبدالسلام محمد عارف على احلال السلام)، وبطلب من البارزاني أصبحت ناطقاً بإسمه خارج الوطن، وممثل الثورة الكردية في الخارج.
يبدو أن كانت للسيد عصمت شريف وانلي نية للاتصال باسرائيل، واستغل حاجة الثوار لللاسلحة والمعدات للقيام بزيارتها، حيث يقول بهذا الصدد:” أثناء وجودي في رانية في صيف وأوائل خريف 1964 وجدت أن الثوار الكورد ينقصهم السلاح اللازم لمجابهة جيش بغداد، عدا بندقية (البرنو) التشيكوسلوفاكية التي لا تكفي. وعملت تحقيقاً مع بعض العسكريين الكرد عن حاجاتهم، وذات ليلة كنت وحيداً مع البارزاني تحت خيمته، فسألته: (هل يرغب في ان أذهب لاسرائيل بغية الحصول على مساعدة؟ فقال نعم). واكتفيت بهذا الجواب، ولم أتكلم لأحد عن تحقيقاتي الشخصية حول حاجات الثورة. وبعد يومين رجعت لطهران ونمت ليلة في ( فيلا المكتب السياسي المنشقين عن البارزاني). ثم زرت الجنرال باكرافان رئيس السافاك ( الذي أخذ هذا المنصب بعد الجنرال بختياري) كان باكرافان انساناً طيباً ويحب الحديث معي باللغة الفرنسية التي كان يتفهمها ( وقد أسفت كثيراً عندما سمعت عن اعدامه من قبل الثورة الاسلامية). كنت أزوره كل مرة أمرُ بها بطهران. وبعد الحديث هذه المرة سألني فيما إذا كان لدي أي طلب؟ فقلت له: ( نعم أريد زيارة إسرائيل)، فقال : ( حسناً، سأعمل اللازم لكي تسافر غداً)”. ينظر مذكرات، المرجع السابق، ص38.
وحول طريقة ذهابه الى إسرائيل يشير الى ذلك بالقول:” كان يوجد آنذاك في طهران سفارة غير رسمية لإسرائيل تحت ستار مكتب تجارة. وكما قال الجنرال باكرافان سافرت في اليوم التالي على متن طائرة هلكوبتر من طهران لإسرائيل (= يبدو أن هناك خطأ). وكان بانتظاري في المطار الإسرائيلي مسؤول مخابرات إسرائيلي برتبة عقيد في لباس مدني، إنسان مهذب ويتقن الفرنسية. وذهبنا أولاً لبيته وتعرفت على زوجته، ثم عمل لي برنامج لقاءات غير علنية، إنما رسمية مع كبار الدولة الإسرائيلية، وسألني إذا كان البرنامج جيداً، فقلت: ( إنك أعلم)، كان اسمه العقيد ألوف”. وأثناء تواجدي في إسرائيل التقيت بكبار المسؤولين الذين رأيتهم هنالك، من بينهم: رئيس الوزراء لفي(= ليفي) أشكول(من حزب العمل). شيمون بيريز، الذي ما زال رئيس حزب العمل وحالياً نائب رئيس وزراء في حكومة شارون، وكان آنذاك وزير الجيش بالسلاح، وأخذنا الطعام سويةً مع بيريز وألوف في منزل قائد سلاح الطيران الاسرائيلي: وكان منهم المدير العام لوزارة الخارجية واسمه كان حسب ذاكرتي هرزوك [ حاييم هرتزوك –1918-1997م – الرئيس السادس لاسرائيل]،( وإذا ما صحت ذاكرتي أصبح فيما بعد رئيس الجمهورية، وهو منصب فخري فقط). كما عمل لي السيد ألوف برنامجاً شبه سياحي ( حيث كان اسمي السيد كوهن) وزرنا القدس، والبحر الميت، وبحيرة طبريا، والبرلمان، ومزارع جماعية، وبناء تحت الارض لذكرى ملا يين اليهود الذين ذهبوا ضحية للنازية الهتلرية، وتل أبيب وشاطىء البحر الابيض المتوسط، وكانت طلباتي التي قدمتها للكولونيل ألوف، تنحصر في ارسال مساعدات لثورة ايلول بالمدافع والادوية، والرشاشات الثقيلة، وإذا أمكن بعض المال، وإيجاد علاقة مباشرة مع قيادة الثورة، وإذا أمكن تهيئة بعض الزيارات لي للتكلم بأسم الثورة (= الكردية) في الخارج”. مذكرات، المرجع السابق، ص 38.
عندما كنت في وزارة الخارجية(= الإسرائيلية)، قال مديرها العام: (إن حدوث الخلاف داخل الثورة الكُردية بين القيادة العليا (= ملا مصطفى البارزاني) وم . س (= المكتب السياسي المنشق) كان شيئاً مؤسفاً، فقد زارنا الاستاذ ابراهيم أحمد ومعه العقيد عزيز شمزيني، ووجدناه انساناً عاقلاً، فقلت له إننا نعمل لحل هذه الازمة الطارئة). ينظر: مذكرات عصمت شريف وانلي، المرجع السابق، ص38 – 39.
وبعد نحو اسبوع قضيته في إسرائيل عدت الى طهران وذهبت لبيت الإخوان في المكتب السياسي، وكلهم كانوا حاضرين بما فيهم إبراهيم أحمد، فقلت له أمام الجميع: إن السيد هرزوك يبلغك السلام فقال وهو يهز رأسه: ( سبحان الله، لا يستطيعون حفظ سر)، وهذا يثبت بلا شك دقة كلام السيد مسعود البارزاني حول زيارة ابراهيم احمد وعزيز شمزيني وعمر دبابة الى اسرائيل، وتناقض هذه الرواية مع الرواية التي أدرجها السيد جلال الطالباني في رسالته الى الصحفي الاسرائيلي (شلومو نكديمون)، ونفى فيها زيارة ابراهيم احمد وعزيز شمزيني الى إسرائيل. ينظر: الحلقة العشرون من هذه السلسلة.
الخلاصة، كما يقول السيد وانلي: “أن السيد إبراهيم احمد كان قد أقام علاقة وثيقة مع حكومة الشاه بدون علم البارزاني الذي كان لا يثق بالايرانيين، ثم أقام علاقات خفية مع إسرائيل بدون علمه. وها أنذا أفهمه أمام الجميع إنه كان في إسرائيل وانني راجع لتوي من إسرائيل إنما باسم البارزاني وبعد أخذ موافقته. وزرت أيضاً الجنرال باكرافان فرحب بي كعادته ولكنه لم يسأل عن نتيجة السفرة، ولا شك أنه كان على علمٍ بها. المذكرات، المرجع السابق، ص39.
وقد حرص الايرانيون منذ البداية على ضبط علاقات الثورة الكردية مع إسرائيل على إيقاعهم الخاص وعدم السماح بعقد صفقات من وراء ظهورهم. وكان السافاك قد أبلغ ممثل الموساد في طهران في في 24/12/1964م بأن مبعوثاً من قبل الملا مصطفى البارزاني، هو المحامي (عصمت شريف وانلي) سيتوجه الى إسرائيل في اليوم التالي(25/12/1964م)، وعند وصوله مطار اللُد كان في إستقباله (المقدم ألوف هروبن أحد ضباط الاستخبارات العسكرية في هيئة الاركان الاسرائيلية، وعين فيما بعد نائباً للملحق العسكري الاسرائيلي في باريس خلال السنوات 1962 – 1964م)، الذي رافقه في جولته في إسرائيل. صلاح الخرسان، التيارات السياسية في كردستان العراق، ص157.
وكان وانلي قد عقد سلسلة من الاجتماعات مع مع رئيس الموساد (مائير عاميت) ونائبه يعقوب كروز وغيره من المسؤولين الاسرائيليين، وقد أبلغ وانلي المسؤولين الاسرائيليين خلال تلك الاجتماعات بقرار قيادة الحركة الكردية تعيينه ممثلاً شخصياً للملا مصطفى البارزاني وناطقاً رسمياً بإسمه بدلاً من الدكتور كاميران بدرخان الذي وصفه اللواء مائير عاميت الرئيس الجديد لجهاز الموساد بقوله:” كان بدرخان قد كرّس كل حياته للقضية الكردية، وهو الرجل الذي تمكن من نقل صرخة أبنائه لآذان الغرب، وهو أول زعيم كردي نتعرّف عليه، ويحاول دفعنا نحو تقديم المساعدات للثوار الأكراد. بيد أنه لم يحظ بمكانة مرموقة لدى البارزاني، ورغم ذلك من الجدير بالذكر أن بدرخان هو الذي قدّم النصيحة لاسرائيل، حول كيفية الوصول الى مصطفى البارزاني”. الموساد في العراق، المرجع السابق، ص43.
وبشأن الاجراءات التي اتخذتها إسرائيل بعد عودة السيد وانلي الى إيران ومنها الى كردستان العراق في الايام الاولى من كانون الثاني عام1965م ،” … وأرسلت إسرائيل بعد رجوعي لرانية رجلاً للاتصال المباشر بين قيادة الثورة والسلطات الاسرائيلية كان مجهزاً بوسائل الاتصال التكنيكية، ويعيش خارج البلدة، وكنا نسميه ( بالصديق العزيز). إنني لم أطلب هذه المساعدة ضد العرب، إنما دفاعاً عن الشعب الكردي المظلوم ومساعدة له. وإن الفلسطينيين أنفسهم وقياداتهم لها حالياً علاقات تعاونية مع اسرائيل بغية احلال السلام، ووضع حد لظلم الشعب الفلسطيني ولنضاله كل الاحترام. بل إن هذا ما كتبته في رسالة الدكتوراة التي جاء ذكرها: ( كردستان العراق كيان وطني..)، وأكدت بها على حق الشعبين الاسرائيلي والفلسطيني في تقرير المصير واقامة دولتين متجاورتين في ظل السلام والتعاون لمصلحة الطرفين”. ينظر المذكرات، المرجع السابق، ص39.
وفي شباط عام1965م غادر وانلي كردستان العراق عن طريق ايران في طريقه الى أوروبا ومنها الى الولايات المتحدة الامريكية في زيارة لحشد الدعم الدولي للقضية الكردية، لم يكتب لها النجاج؛ بسبب قيام السفارة العراقية ببذل جهود جبارة من أجل افشال زيارته، وذلك بالضغط على وزارة الخارجية الامريكية. الموساد في العراق، ص117 – 118. حيث اعترف وانلي شخصياً في مذكراته، بالقول:” والحاصل لم تكن سفرتي لأمريكا ناجحة مع الاسف، إذ رفضت السلطات والحكومة الامريكية مقابلتي، ما عدا ( CIA – وكالة الاستخبارات السرية) وهذه لا أحبها، ولم نستطع أن نفعل شيئاً،. كتبت للقاضي الامريكي (وليم دوكلاس William Douglas) الذي كان عضو المحكمة الفدرالية العليا، وكان قد كتب كتاباً عن سفرة له للشرق الاوسط عام1951م فيه أشياء لطيفة عن الشعب الكُردي، وطلبت مساعدته، ولكنه لم يقبل أن يساعد…”. ينظر مذكرات عصمت شريف وانلي، المرجع السابق، ص40 – 41.
وتذكر المصادر الاسرائيلية بأن معنويات السيد عصمت شريف وانلي قد انخفضت عندما عاد الى أوروبا، وعلم بأن علاقات قيادة الحركة الكردية مع الموساد قد تطورت بأساليب أخرى وليس عن طريقه، ثم اكتشف أن مكانته في أوساط الزعامة الكردية (= ملا مصطفى البارزاني) قد تدنت. وأدرك أن الزعيم الكردي البارزاني لم يحب علاقاته القوية والجريئة مع إبرلهيم أحمد وجماعته، وفي شهر ايلول/ سبتمبر عام1965م اعترف وانلي أمام رجال الموساد أنه فقد ثقة البارزاني نهائياً، وأنه حاول القيام بأعمال الوساطة بين البارزاني وابراهيم احمد وجلال الطالباني، لكن البارزاني رده بشدة وغضب. ومهما يكن من أمر فإن شخصيات كردية أخرى احتلت مكانة السيد عصمت شريف وانلي، “غير أن هذا الرجل لن يمحى من ذاكرة إسرائيل”. ينظر: الموساد في العراق، المرجع السابق، ص120.