ثانيا: القوميون الاشتراكيون، والحزب الآخر هو الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه جلال حسام الدين الطالباني، وقد كان سابقا اتحادا بين ثلاثة أجنحة رئيسية: أولاهما تسمى العصبة الماركسية اللينينية الكردستانية ومختصرها (الكومله)، وثانيهما الحركة الاشتراكية الكردستانية، ومختصرها (البزوتنه وه)، وثالثها الخط العريض، وهي تضم شخصيات عشائرية ومثقفة مرتبطة شخصيا بالسيد جلال الطالباني.
وتعود بداية تأسيس العصبة الماركسية اللينينية (= الكومله) الى فترة الانشقاق الذي حدث بين جناحي الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي عام 1964م، المحافظ بقيادة ملا مصطفى البارزاني، واليساري أو ما يطلق عليه جناح المكتب السياسي بقيادة المحاميين ابراهيم احمد(1914-2000م) وجلال الطالباني(1933-2017م). وقد استثمر جلال الطالباني أجواء الحرية التي وفرها لهم التحالف مع نظام الفريق عبد الرحمن محمد عارف رئيس الجمهورية العراقية عام 1966م لتطبيق نظريات كبار المفكرين الماركسيين في العالم وخصوصاً الزعيم الصيني ماوتسي تونغ ( 1893-1976م) على المجتمع الكردي في العراق الذي تطغى عليه الصبغة العشائرية. وترجع أسباب تأثر الطالباني بالفكر الماوي وبالتجربة الصينية في تطبيق الاشتراكية الى اعتقاده أنها أكثر ملائمة للتطبيق في كردستان العراق من التجربة السوفيتية التي تعتمد على وجود طبقة عاملة متماسكة، وهو ما يفتقده مجتمع كردستان العراق ذو الطبيعة الفلاحية والذي يتشابه مع المجتمع الصيني .
وتجدر الإشارة الى أنَ أول نشاط جنيني يبشر بالفكر الماركسي في كردستان الجنوبية – العراق قد ارتبط بعودة الأسرى الكرد المنضوين في الجيش العثماني الذي كانوا يحاربون الجيش الروسي القيصري في الحرب العالمية الاولى، والذين أطلق سراحهم الجيش الاحمر بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية عام1917، إذ شرع هؤلاء يروّجون تصوراتهم عن الثورة البلشفية وقائدها لينين في مدينتي السليمانية وكويسنجق . ومن أبرز هؤلاء الضابط جمال ملا عبدالله عرفان)1881-1922م)الذي شكل في مطلع عام1920م عدة مجموعات سياسية في السليمانية هي: كوردستان، كه زه نك (= الشعاع)، فيداكارانى كورد(= فائيو الكرد)، وه ته ن بروران(= عشاق الوطن)، وبه رزى وه لات(= تعالي الوطن)، ودعت هذه المجموعات الى إرباك سلطات الاحتلال البريطاني واداراتها في السليمانية التي كانت تمهد لعودة الشيخ محمود الحفيد الى كردستان، كما أخذت تنشر الافكار اليسارية والماركسية، وقد اغتيل الضابط جمال عرفان في مدينة السليمانية في12 كانون الاول عام1922م بسبب نشره الافكار الاشتراكية والشيوعية، وبدسيسة من الاستعمار البريطاني والرجعية على حد تعبير أحد الباحثين الشيوعيين.
ويبدو أن الفكر الإسلامي التقليدي كان لا يزال هو سيد الساحة في تلك الحقبة من أيام حكمدارية الشيخ محمود الحفيد(1881-1956م)، الذي كان يتزعم ايضاً الطريقة الصوفية القادرية
ولكن الفكر اليساري في بغداد وتأثر عدد من المثقفين العرب العراقيين بنهج الماركسيين العرب في سوريا، وتشكيل أولى الحلقات الماركسية في بغداد، وكان أبرز هؤلاء (حسين الرحال) الذي عاد من المانيا وتشرب بالفكر الماركسي هناك، وكون عام 1924م الحلقة الماركسية الاولى في العراق التي ضمت كل من : محمد سليم فتاح، ومحمود أحمد السيد، وعبدالله جدوع، وعوني بكر صدقي، ومصطفى علي، وحميد رفعت.وقد سميت هذه الجماعة باسم (جماعة الرحال) أو (جماعة الصحيفة) نسبةً الى جريدة الصحافة التي أصدروها في 28 كانون الاول/يناير عام 1924م. وكانت صحيفة (الليبرمنثلي) التي كان يصدرها (بالم دات) في بريطانيا، و(الأومانتيه) الفرنسية ، قد خدمت في تعريف هؤلاء الشباب بالفكر الماركسي. إلا أن هؤلاء الشباب وبالرغم ما أتصفوا به من حيوية ونشاط في مساجلاتهم الفكرية مع خصومهم من أصحاب الفكر المحافظ (= الرجعي بنظر الماركسيين والشيوعيين) عجزوا عن أن يقيموا علاقات نضالية وثيقة بالعمال والفلاحين على الرغم من عطفهم على قضايا العمال، وظلوا يحصرون نشاطهم بالفكر الاشتراكي متخذين من الصحافة ووسيلتهم الى ذلك.
ويذكر جلال الطالباني في كتابه (كردستان والحركة القومية الكردية، الصفحة:67-68):” … وتسجل سنة1935 بداية انتشار الافكار الديمقراطية واليسارية بين الشباب الكرد. فقد كون المثقفون الاكراد أمثال السادة حمزة عبدالله ورشيد عارف وإبراهيم أحمد وعبدالصمد محمد وحسن الطالباني وغيرهم علاقات وثيقة مع جماعة الاهالي – الديمقراطية في العراق (= تيار يساري تأسس في بغداد عام1931م) التي كان من أقطابها الاساتذة كامل الجادرجي، وعبدالفتاح ابراهيم، ومحمد حديد، وكان الزعيم الوطني الخالد جعفر أبو التمن رائدهم الروحي، ولكن الشباب الكردي لم يكونوا متفقين تماماً فيما بينهم، فقد انضم الاستاذ حمزة عبدالله والسيد عبد الصمد محمد الى أول خلية ماركسية كانت قد تأسست (= عند عد تأسيس الحزب الشيوعي العراقي في 13/3/1934م)، بينما كان السيد رشيد عارف وحسن الطالباني من المقربين الى جماعة الاهالي، أما الاستاذ إبراهيم احمد فقد ظل مستقلاً يحافظ على علاقاته الحسنة مع التقدميين والديمقراطيين العرب”.
وكان السيد حمرة عبدالله(1904-1998م) يدرس في تلك الآونة في كلية الحقوق في بغداد التي تخرج منها سنة1934م، أما إبراهيم أحمد فقد تخرج من كلية الحقوق عام1937م.
إلا أن ما تعرض له الحزب الشيوعي من حملات من قبل السلطات الملكية العراقية في أواخر العقد الثالث أضعف نمو هذا الاتجاه. ولكن الاتجاه عاود نموه مع استعادة الحزب الشيوعي نشاطه في مطلع الاربعينات. ففي عام 1941-1942م ظهرت أولى الخلايا الشيوعية في أربيل، وبعد عام من ذلك ظهرت الخلايا الشيوعية في السليمانية، ثم في مدينة كركوك
أما بخصوص الفكر اليساري في كردستان العراق فلم يتبلور ويتحول الى تيار، إلا في النصف الثاني من عقد الثلاثينات من القرن العشرين، وتحديداً في مدينتي السليمانية، وكويسنجق بتأثير الطلبة الذين كانوا يدرسون في الكليات والمعاهد العالية في بغداد، ومن أبرزهم: المحامي إبراهيم أحمد، والشاعر كوران، والشاعر فائق بيكس، والمعلم نوري حمه أمين (استاذ جلال الطالباني في كوينسجق)، وساد هذا الفكر داخل الاوساط المثقفة الكردية قبل ظهور الجمعيات والاحزاب الكردية، ابتداءً من سنة1935م، بتأثير جمعية الاهالي العراقية التي تأسست في عام1931م، والتي كانت تنحو نحو اليسار قبل تأسيس الحزب الشيوعي العراقي في عام1934م.
كما لا يمكن الاستهانة بما لعبته مجلة كلاويز (= السهيل) التي تأسست عام1939م، وكان صاحب الامتياز إبراهيم أحمد، ومدير التحرير (علاء الدين السجادي) من دور ملحوظ في نشر الوعي القومي الكردي بما كانت تنشره من مقالات ودراسات بهذا الشأن، واستمر صدورها الى عام 1949م حيث توقفت بعد اعلان الحكومة العراقية الاحكام العرفية.
ويذكر الباحث العراقي (صلاح الخرسان في كتابه، التيارات السياسية في كردستان العراق، الصفحة: 326-327):”أن الطالباني شأنه في ذلك شأن كل المتأثرين بالتيار الصيني الماوي كان يتهم القيادة السوفيتية بقيادة (خروتشوف وليونيد بريجنيف) آنذاك بالتحريفية وبالخروج على الخط الذي ينبغي أن تسير عليه الحركة الاشتراكية العالمية. وفي ظل تلك الظروف التقى جلال الطالباني بالسياسي الايراني الدكتور(كورش لا شائي) الملقب بالدكتور جلال مسؤول منظمة الثورة الايرانية (= سازمان انقلاب ايران) الذي انشق عن حزب توده الايراني(= الشيوعي الإيراني)، ودخل الى العراق عام1965م كمعارض سياسي للشاه الايراني محمد رضا بهلوي(1941-1979م)، فتأثر الطالباني بأفكاره الثورية واقتنع منه بضرورة العمل على انشاء نواة ماركسية خالصة تتحول بالتدريج الى حزب ثوري قادر على النهوض بمسؤولياته وفق الشروط التالية: الاولى وجود منبر اعلامي يبث أفكاره بين الجماهير ويمهد الطريق أمام الحزب الثوري. وثانيهما تكوين خلايا تنظيمية سرية يتم تثقيفها على ضوء ما يجري طرحه في برنامج المنبر الاعلامي” .
ويضع السيد جلال الطالباني في مذكراته النقاط على الحروف في توضيح الأسباب التي دعته الى تبني الإتجاه الصيني ومناصرته بالقول،:” ما جذبنا أكثر في الصراع الدائر بين الإتجاه الصيني السوفيتي هو مسألة النضال الثوري ضد الإمبريالية والإعتماد على الظهير الشعبي، وكذلك دعم وإسناد حركات التحرر لشعوب العالم.في تلك الفترة كانت الخروشوفية ترفض كل هذا، ولذلك وقعنا نحن الأغلبية تحت تأثير المباديء الصينية وتأثرنا بأفكار ماوتسي تونغ. وكانت هناك أوجه تشابه كثيرة بين الوضع الصيني والوضع الكردستاني، فالماركسية اللينينية طبقت في الصين وهي بلد شبه إقطاعي وشبه محتل ومتخلف وتقع ضمن خارطة العالم الثالث، وكذلك نضالهم الطبقي الذي بدأ من القرى والأرياف ثم إنتقل الى الجبال والوديان وإنتهى بتحرير المدن، كل ذلك كانت قريبة من واقع كردستان. هذا بالإضافة الى الإنتصارات التي حققتها الصين وكذلك المقالات التي نشرت في الصحف، ومجلة كلاويز(= السهيل- التي كانت تصدر في السليمانية)، وبعض الكتب المترجمة الى اللغة العربية، كل ذلك كان له تأثير في الأفراد الذين إعتبروا أنفسهم ماركسيون لينينيون في الحزب، وخصوصا أن الخروشوفية كانت تؤيد تأسيس الإتحاد الإشتراكي في بلدان كمصر وسوريا والعراق تضم كل الأحزاب الثورية وأن تحل جميع الأحزاب الماركسية اللينينية نفسها بتلك البلدان”. وبخصوص الموقف من الاتحاد السوفيتي، فإن السيد الطالباني يحدد موقفه في هذا الصدد بما يلي:” كان السوفييات من الناحيتين النظرية والعملية يؤيدون قيادة الملا مصطفى(= البارزاني) ضد قيادة المكتب السياسي، حتى أنهم نشروا مقالا في جريدة البرافدا حول تلك الخلافات، ووصف المقال قيادات وأعضاء ومريدي جناح المكتب السياسي باليساريين المتطرفين. وإستطرد المقال بالقول (أن هؤلاء يؤمنون فقط بالنضال الثوري ولا يفهمون حقيقة أن التطور هو سمة من سمات النضال بشكله السلمي، فهؤلاء مجموعة متطرفة ومخطئة من الناحية الفكرية وأسسوا لجناح داخل الحزب ضد الجناح الآخر الذي لا يؤمن بتلك الأفكار العنفية والمتطرفة)”.