19 ديسمبر، 2024 12:51 ص

في الوعي و المعنى

في الوعي و المعنى

اذا اردنا ان نؤمن بقانون الانتخاب الطبيعي وان الطبيعة تفرض شروطها علينا وتجعلنا نتأقلم معها فأننا سنكون امام سؤال يفرض نفسه علينا بالمقابل ولكي نفهم هذا السؤال لا بد ان نسترشد بمقولة ان الانسان هو حيوان مفكر فأختلاف الانسان عن الحيوان هو في قوة التفكير هذا التفكير بدوره انتج لدينا حالة ذهنية متطورة نسميها الوعي .

حيث يشكل الوعي احد اهم نقاط الانقلاب والتحول في التاريخ البشري فالوعي بالذات و وعي المحيط امران بحاجة الى التوقف عندهما و التأمل ملياً فيهما.

من هنا يفرض السؤال نفسه علينا ومفاده :

إن ظاهرة الوعي في حقيقتها تشكل تطوراً للذهن البشري ولكن ما هي الحاجة التي جعلت الذهن البشري يتطور ويصل عبر الانتخاب الطبيعي الى تلك المرحلة الذهنية المسماة (وعي) ، و لا يقف الامر عند هذا الحد ففكرة المعنى والغاية من الوجود تنبثق كأول و ابرز نتاج لهذا الوعي وبالتالي تفرض نفسها هي الاخرى وتضع سؤالاً محيراً اخر لطالما حير العلماء والمفكرين وانتج اتجاهات وفلسفات في ضوء مفهوم معنى وغاية الوجود.

نحن نشعر بالحاجة العميقة التي تضطهدنا من الداخل لأجل ادراك المعنى ولعل أساس الفلسفة هو هذه الصيرورة التي بينتها فانبثاق الوعي ومن ثم ظهور سؤال المعنى كأول و ابرز نتاج للوعي أرسى اول اساسات التفلسف في حياتنا.

ولربما تكون لحظة التفلسف في غاية ومعنى الوجود هي اولى لحظات ظهور الدين في حياة البشرية و لذلك ايضاً يظهر لدينا لمَ كان الدين ظاهرة عامة نجد اثارها في مختلف الاثار التي خلفها الانسان سواء البدائي او المتحضر . 

و لربما يفسر ذلك ايضاً طقوس الموت التي لم تتخلف لدى عامة بني البشر لأرتباطها ايضاً بشكل شديد بمفاهيم الغاية ومعنى الوجود .

يظهر اذن ان الداروينية مدينةٌ لنا بأجابة عن حدوث نقطة التحول تلك التي صرنا خلالها نحمل صفة (الوعي) هذه اللحظة التي رفع الانسان خلالها رأسه من الارض ليتطلع آفاق السماء ، هذه اللحظة التي جعلته مشغولاً ومأخوذاً بفهم وجوده والغاية منه .

اننا بافتراضنا ان الانسان العاقل الذي يطلق عليه في علم الانثربولوجيا (الهوموسابينز) يفترق عن الانسان الذي قبله بحجم الدماغ وبالتالي تطور العقل نفترض سلفاً وجود حاجة ادت الى هذا التطور وكذلك الامر بالنسبة الى الوعي فهذه الانتقالة تؤشر وجود حاجة تلمسّها ذلك الانسان أدت به الى ان يعي ذاته بدرجة أساس ومحيطه بدرجة ثانية ومن ثم ينبثق عن هذا الوعي سؤال المعنى الذي هو بمنزلة اللازم لهذا الوعي.

ولكن هل تمتلك الداروينية الحق في الاجابة عن هذا السؤال اقصد تطور الوعي وانبثاق سؤال المعنى ام ان الامر خارج اختصاصها ، حيث يظهر ان الداروينيون يعتقدون ان نظريتهم نظرية مادية يمكنها ان تفسر بميكانيكية آلية كل مظاهر الوجود و ظواهره فهل سؤال المعنى يا ترى يمكن ان يكون مشمولاً بذلك .

اعتقد ان هذا السؤال اي سؤال المعنى لا يتسق مع تلك النظرية المغُرقة في المادية اذ المعنى ُيلزم بوجود غاية وهو ما لا يتفق مع التفسير المادي الذي يزعم لنفسه القدرة على الاجابة عن اسئلة الحياة و لكنه لا يرى للخلق من غاية.

مع ذلك يمكننا ان نتساءل لمَ يبقى هذا السؤال مُلحاً وضاغطاً ونجده ظاهراً بقوة اثناء طفولتنا حتى تكبته وتعمي عليه احداث حياتنا المتوالية فيسُكن ويترسب الى قاع النفس ، الا يعني ذلك انه مركوز في اصل خلقتنا ويتخذ خانة ابدية في تلافيف ادمغتنا .

انه لمن الغريب ان يكون هذا الكون منتظماً ضمن قوانين فيزيائية وكيميائية تتحكم في دقائقه و ذراته كما تتحكم في اكوانه ومجراته ثم تكون الحياة التي هي احد عناصر هذا الكون عبثاً و كأننا رُمينا في هذه البقعة من الكون الفسيح دون قانون جزافاً وعبثاً و اضحوكة لا نختلف عن حصاة تُداس كل يوم دون ان يأبه لها احد او كسفينة في عباب البحر لا تجد لها مرفأً و لا مستقرا .

ان سؤال المعنى هذا التطور الخطير في وعي الانسان هو الذي أمدّه بالحياة وهو الذي ساهم في بلوّرة مفهوم القيم وهو الذي ساهم في ايجاد الحضارات و سائر التحولات المعنوية والمادية التي حصلت للانسان طيلة الفترة التي قضاها على هذا الكوكب.

كما ان هذا السؤال هو الذي أمدّ الانسان بالامل ولولا الامل لما كانت حياتنا مفهومة هذا الامل الذي انبثق من وجود المعنى ، ومن تصور تلك النقطة التي ينبغي للانسان ان يسعى للوصول اليها تلك الغاية المرتسمة في الافق التي تشّد الانسان وتغريه بالحياة وهي ذاتها التي مهدت لانتخابه ليعيش الحبور واللذة في تكشف المعنى وتلمسه خلال دورة حياته القصيرة في هذه الزاوية من الكون.