في البدء لا بد من تثبيت نقطة مهمة وهي ان الاية التي تقول (ان الدين عند الله الاسلام) لا تعني ما نسميه الدين الاسلامي بل هي تتحدث عن الديانات التوحيدية والتي من الاصح ان نسميها الشرائع وليس الديانات فهناك الشريعة الصابئية والاسلامية واليهودية والمسيحية ولمن اراد التوسع فليراجع .
و من المؤسف جداً ان يكون الصابئة بين ظهرانينا عرق عراقي اصيل وقديم ثم لا نعرف عنهم شيئاً بل جل ما نعرفه هو اشياء مشوهة و خاطئة فنعتقد انهم يؤمنون بالسحر و لشدما فاجئني ان اجد في الكنزا ربا في الكتاب الاول من القسم الايمن (١٤٣- لا تستشيروا العرافين والمنجمين والساحرين الكاذبين في اموركم مخافة ان يرمى بكم اسوة بهؤلاء الى الظلمات) و كم من امور مشهورة عنهم لا اصل لها.
ويبدو ان تعرض ابناء الديانة الصابئية للاضطهاد والتعسف ادى الى عزلهم ومحاولتهم اخفاء طقوسهم وتعاليمهم لذلك احيطت بالغموض حيث يبدو ان الدولة العثمانية لم تعترف بهم و اذتهم و حين جاء الحكم الملكي وكان انذاك الكنزبرا دخيل بن عيدان هو من اظهر امرهم وعرّف بهم وكانت بينه وبين الكاتب عبد الرزاق الحسني محاكمة لنقل الحسني امورا مغلوطة وخاطئة عنهم في كتابه عن الصابئة فحكمت المحكمة لصالح الكنزبرا عيدان وكما يذكر الكاتب رشيد الخيون في تحقيقه لكتاب الديانة المندائية الذي كتب سنة ١٩٢٧ .
ان من يقرأ الكنزا ربا ليقع في انبهار تام من شدة التركيز على القيم الاخلاقية بين ابناء الديانة ومع غيرهم فالصيام عندهم ليس صياماً عن الطعام والشراب بقدر ما هو صيام اخلاقي عن افعال الشر ولا يكل كتابهم عن الايصاء المتكرر والتأكيد على التحلي بالحب والرأفة والرحمة والصدق و كسب الحلال و اقامة العلاقات الاجتماعية الطيبة والصدقة ومساعدة الفقراء و رفض الظلم وغيرها.
و لعل ابرز ما يميزهم هو طقوس التعميد والتطهر المبالغ فيها والتي تقع في الغالب على مياه جارية حيث يتضح انهم يقدسون نهر الفرات ولهم في ذلك طقوس عجيبة ومشددة ولعل محيي شريعتهم النبي يحيى عليه السلام و الذي هو نفسه يوحنا المعمدان الوارد ذكره في الانجيل بأنه من عمد السيد المسيح عليه السلام لعل يوحنا هو من اظهر طقوس التطهير في دينهم كونهم مشهوراً بطقس التعميد و الذي سرى من تلك الديانة الى المسيحية فصارت تعّمد الاطفال و لعلنا نجد اثر التطهر في الاسلام حيث يشابه الغسل الواجب فيه و كذلك من الامور المثيرة هو ان الكنزا ربا يوصي بخمس صلوات والاكثر اثارة ان اثنين منها في الليل و ثلاثة في النهار كما لدى المسلمين و الاشد اثارة وجود وضوء يشابه في بعض اجزاءه وضوء المسلمين ، وملابس رجال الدين عندهم تشبه رداء الحج الذي يرتديه المسلمون عند الذهاب الى الديار المقدسة الى حد كبير حتى انهم يسمون الحزام في الوسط (الهميان) وهي ذات التسمية لدى المسلمين ، ولعل الاشد عجباً مما ذكرت هو انهم يسمون بالمسلمين وذلك ما يغزز مقولة ان الدين غير الشريعة والذي ذكرته في مستهل المقال.
تنّفر الصابئية المندائية من الشيطان وتصفه بالساقط ويبدو انهم يقصدون سقط من السماء لعدم اطاعته للاله الذي يصفونه بملك النور السامي كما انها تسمي الشياطين بالديفي ولعل اصل كلمة (Devil) الانكليزية منها وهنا اود الاشارة الى امر مهم حيث يسمون تلك الشياطين ومنها شمش وسين وهما كما معروف اله الشمس واله القمر لدى البابليين ويسمون بقية الشياطين باسماء الكواكب ومن هنا نعلم خطأ من يقول انهم عبدة كواكب ويبدو هذا الاشتباه قادم من كونهم يتوجهون الى نجمة القطب الشمالي في صلاتهم اي باتجاه النجمة الاكثر ضياءاً كون دينهم دين النور حيث يركزون على مفردة النور كثيراً.
وهم يستخدمون اللغة الآرامية القديمة في كتابهم الذي ترجم في السنوات الاخيرة ليسهل على ابناء الديانة قراءته لصعوبة تلك اللغة تعرضها للاضمحلال و المؤسف ان الكنزا ربا تُرجم للالمانية قبل العربية وذلك امر يدعو للكمد والحزن ان تكون بين ظهرانينا ديانة قديمة تملك وثائق دينية وتاريخية مكتوبة بلغة قديمة ثم لا نعلم عنها شيئاًو لا نترجم لها و لا نستقصيها دراسة وبحثاً و لا نحاول احياء لغتها و تقاليدها التي هي جزء من ارثنا .
و المؤلم ان الكثير من المندائيين هجروا العراق خصوصاً في سنوات الحصار الذي فُرض على البلد في التسعينيات وهم مشتتون في السويد واستراليا و غيرها.
و يبدو وجود علاقة للصابئية المندائية باليهودية حيث يصرح الكنزا ربا في القسم الايمن الكتاب الاول -١٦٨- (من الشعب اليهودي خرجت جميع الاقوام والملل الاخرى) وحيث ان يحيى كان في ارض فلسطين مع اليهود يبدو ان الصابئة كانوا هناك ايضاً فاحيا دينهم الذي يقولون انه ديانة ادم و نوح ولديهم تعاليم النبي يحيى تحت مسمى (دراشة اد يهيا) اي تعاليم يحيى عليه السلام ولست أدري ان كانوا في العراق قبل ذلك او انهم جاءوا الى العراق اثناء السبي الاول والثاني مع اليهود واستقروا فيه مع انه يبدو انهم يوقرون نهر الفرات كما يبدو ان النبي يحيى عليه السلام احيا ديانتهم بعد ان تشتتوا حيث يروون في ولادته ومماته احاديث عجيبة ما يدل على تأثيره العميق فيهم .
و جدير بالذكر انه يرأس الصابئة الان الكنزا برا ستار جبار الحلو الذي له حضور اجتماعي و ديني واضح فيما بعد سقوط النظام وكان يرأسها الريش أمة (رئيس امة) عبد الله بن نجم و قبله الشيخ دخيل بن عيدان.
لست ارى فيما قدمت كافياً لكنه مما يتيسر ولمن اراد التوسع ليراجع الكتاب الذي حققه الكاتب العراقي رشيد الخيون رغم ان الكتاب سردي وليس فيه تحليل لكنه كافٍ ليجعلنا نعيد النظر في امر هذه الديانة.
توجد اضافة سأحاول ان افرد لها مقالاً عن مدينة أور و ديانتها و ألهتها و أشارة الكنزا ربا لها في احد مقاطعه وهي بحاجة الى بحث وتحقيق وتقصي و وقت.