قراءة في ديوان “تَقاسيم عَلى مَقامِ النَّدم”
فاتن دراوشة / شاعرة وناقدة من جليل فلسطين
نبذة عن الشّاعر: الشّاعر نمر سعدي من بسمة طبعون الواقعة شرق مدينة حيفا، وهي قرية جَليليَّة معروفة بجمال موقعها. يتميّز شعره بقدرة على التّعبير اللغويّ، والتّصوير الفنّي على حدّ سواء، مُعتمدًا بذلك على خيال جامح منفتح، يُسْتَمَدّ من تناصّات ذات حمولات متعدّدة، موروث ثقافيّ، إشارات وإيحاءات رمزيّة وأسطوريّة، منها الخاصّة، عربيّة وشرقيّة، ومنها العامّة، أجنبيّة وغربيّة، تُحيل إلى دلالات متعدّدة، قد تبتعد عن كلّ نمطيّ، أي وفق المنظور الحداثيّ، ويلمس القارئ في ثنايا شعره فكرًا وذوقًا وإحساسًا ومعرفة ورؤيا. تنصتُ أشعارُهُ لهموم التجربة الحياتيّة وتزخمُ بالموسيقى الهادئة. يمتاز شعره بطاقة إبداعيّة، وغزارة في الإنتاج، ومخزون غنيّ من الموضوعات المتعددّة، وهو يكتب قصيدة التفعيلة، والقصيدة العمودية، وقصيدةَ النّثر. كرَّمته مؤسَّسة الأسوار في عكا عام 2007 .صدرَت له الدواوين الشعريّة التالية: عذابات وضَّاح آخر / 2005 / مطبعة فينوس/ الناصرة موسيقى مرئية / 2008 / منشورات مجلّة مواقف/ الناصرة كأنّي سواي / 2009 ( ديوان في ثلاثة أبواب / 1 كأنّي سواي / 2 نقوش على جناح نورسةٍ زرقاء/ 3 أزهار أولى ) منشورات دائرة الثّقافة العربيّة / دار نشر الوادي / حيفا يوتوبيا أنثى / 2010 / منشورات مركز أوغاريت للتّرجمة والنّشر/ رام الله ماء معذَّب / 2011 / منشورات مجلّة مواقف / الناصرة وقتٌ لأنسنةِ الذئب / 2014 / دار النّسيم للنّشر والتّوزيع/ القاهرة تشبكُ شَعرها بيمامةٍ عطشى / 2014 / دار النّسيم للنّشر والتّوزيع / القاهرة وصايا العاشق / 2014 / دار النّسيم للنّشر والتّوزيع / القاهرة موسيقى مرئيّة / طبعة ثانية / 2015 / دار سؤال/ بيروت / لبنان رمادُ الغواية / 2017 / دار الانتشار العربي/ لبنان/ بالتعاون مع نادي الباحة الأدبيّ/ المملكة العربيّة السّعوديّة استعارات جسديَّة / 2018 / دار العماد للنّشر والتّوزيع ومركز عماد قطري للإبداع والتّنمية الثقافيّة/ مصر تقاسيم على مقام النّدم / 2019 / روافد للنّشر والتّوزيع / القاهرة / مصر غبارُ الوردة (نثر) / 2019 / روافد للنّشر والتّوزيع / القاهرة / مصر كحلُ الفراشة (نثر) / 2019 / روافد للنّشر والتّوزيع / القاهرة / مصر).
الدّيوان: يتكوَّن الدّيوان من ثلاث وسبعين قصيدة تتميّز معظمها بطابع وجدانيّ حيث تلخّص واقعه الروحيّ، النفسيّ، المعنويّ، وتعكس الكثير من عوالمه الدّاخليّة، كالعشق والصّداقة، الخيبات، والانتصارات، الصّراعات، والفرح والحزن. هي معًا تعكس الكثير من ملامح عيشه، وقسمات محيطه، حتّى البداوة تظهر قسماتها جليّة بين سطوره، غالبيّة النّصوص تفعيليّة أي تتبع للشّعر الحديث، وربّما هو أسلوب يتناسق وروح الشّاعر المتمرّدة الصّاخبة، وعوالمه الدّاخليّة التي لا تميل أبدا للقيود والرّتابة. كما ونستشعر تأثّر كبير للشّاعر بالكثير من الشّعراء الغربيّين، وبتجاربهم الشّعريّة التي واكبها من خلال دواوينهم الشّعريّة، وهو يميل لتوظيف الرّموز التّاريخيّة، والدينيّة، والأساطير، في نصوصه، مما يضيف من عمق اللّغة وغزارة المعنى وراء سطوره، فهو يصنع واقعًا وتجربة شعريّة كثيفة مميّزة وعميقة، مدهشة وموحية معًا.
وممّا لفت نظري في هذا الدّيوان أنّ المرأة والأرض أو بالأحرى المرأة والطّبيعة هما صورة تتداخل وتتكامل لدى الشّاعر، بطريقة ولا أروع، فالطّبيعة هي الأنثى التي يعشق، والأنثى التي يعشق هي كالأرض تماما بكلّ تفاصيل نبضها وحياتها، وتقاسيم وجهها وملامحها، الأنثى هي الوطن، والوطن أنثى تعيش داخله وتحتلّ كيانه وفكره وتشغل حواسّه.
سأبدأ بالعنوان: تقاسيم على مقام النّدم.
هنا نراه يعزف ندم روحه والنّدم هنا له علاقة بقصص جمعته بأشخاص عدّة، ندم على ما فات، ندم على ما هو آتٍ ربّما أيضا من حياته القادمة، عندما تتكرّر مآسيه من جديد، وندم على حاضر لا يرضاه جدّا لكنّه وضع قائم، لا يمكنه الفرار منه وتغييره.
أنتقل بعدها للإهداء فهو يُهدي الدّيوان إلى امرأة يغار البحر منها، وهذا يشدّد دور المرأة ومكانتها لدى الشّاعر، وفي عوالمه الدّاخليّة الوجدانيّة الخاصّة. كما ويربط الأنثى بالبحر، ويعكس الكثير من صفات البحر على عالم الأنوثة، ومركّباتها. فهو يوحي لنا هنا أنّ الأنثى التي يهديها ديوانه هي أنثى صاخبة متمرّدة، عميقة، رقيقة، راقية، شفّافة كالماء والبحر، وربّما أكثر قليلا، لدرجة أنّ البحر يغار من تلك الأنثى، ويتمنّى أن يشبهها.
المدخل لهذا الدّيوان والذي اختاره الكاتب ليفتتح ديوانه هو نصّ مترجم لبابلو نيرودا من “مئة سونيتة حُب” من ترجمة كمال يوسف حسين:
“لا أُحبُّكِ كما لو أنكِ وردةٌ من ملحٍ
أو حجرُ ياقوتٍ، أو سهمٌ من قرنفلاتٍ تشيع النار:
أُحبُّكِ مثلما تحَبُّ بعضُ الأمورِ الغامضةِ
سرَّاً، بين الظلِّ والروحِ”
هو يفتتح ديوانه بالحبّ فالحبّ هو الفاتحة لحياته، ولكتابه، ولوجوده، والشّاعر بابلو نيروداهنا لا يحبّ حُبّا تقليديّا كما يفعل الجميع، فحبّه مختلف، وهو لا يعتبر الحبّ قيمة مستهلكة ستنتهي مع الأيّام كما وردة مصنوعة من الملح، ستذوب مع المطر وستنتهي في يوم ما بجمالها وملحها وطعمها، كما أنّه لن يقتنيها كما الأحجار النّادرة ليحترص عليها في خزنته، ويقمع حريّتها، ولا يريدها حُبّا للجمال فقط يذوي بمجرّد مرور العمر، كما القرنفلة التي تنثر العطر والسّحر ثمّ تذوي كما الأجسام التي تشتعل سريعا، دون ترك أثر قويّ يدلّ على أنّها مرّت وعبرت. هو يريدها حُبّا دائما متجدّدا غامضا، يجدّد معناه من غموضه، فكلّما زاد غموضه، زاد شغف الآخر لكشف محتواه، ومن ثمّ تتجدّد به اللّهفة لمعاودة المحاولة من جديد، تماما كالعلاقات المبهمة ما بين الظلّ والرّوح. أي أنّه هنا تناول علاقة بين عاملين الأوّل لا يعلم كنهه سوى الله وهو الرّوح. وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء 85( والظلّ والذي يَصدر عند ارتطام الضّوء بحاجز، وكما نعلم فالنّور هو السرّ الإلهيّ، وحوله تتمحور الأزمنة، وهو بذلك اختار محورين يجمعان الإبهام والحيرة التي لن تنتهي في يوم ما، هو يريدها أنثى غامضة متجدّدة تجمع في داخلها كلّ النّساء، ولا يشعر بالملل في حضرتها، لأنّه سيظلّ مشغولا دائما في تفكيك رموزها، واستشفاف غموضها.
“أُحبُّكِ مثلَ النبتةِ التي لا تزهرُ
وتخبّئُ في داخلها ضوءَ تلك الزهورِ”
هنا نرى بُعدًا آخر من شخصيّة المرأة التي يريدها الشّاعر بابلو نيرودا كحبيبة له، فهي كالنّبتة التي لا تثمر، هي لا توجد لديها الزّهور التي قد تتطوّر لثمرة، لكنّها عوض الثّمار، نراها تخبّئ ما يصلها من الضّوء، والذي كان من المفروض أن تستغلّها الزّهور للتطوّر لثمر، لضمان التّناسل، والاستمرار جيلا بعد جيل، هو يريدها أن تحتفظ بهذه الطّاقة والحيويّة والجمال لنفسها ولجسدها، فالمرأة التي يعشقها، لن تشارك في حفظ النّوع واستمراره، هو يريدها له فقط، يريدها بكلّ حيويّتها وجمالها ورونقها، وروحها، وحسّها، له هو دون غيره، ربّما هو ينزع للأنانيّة بذلك، لكن مطالبه منطقيّة جدّا كرجل، فهو سيكون في المرتبة الثّانية بعد الثّمار، لو أنّها ساهمت بإنشاء الثّمر، ولن تكون بكامل روعتها وجمالها لأنّ قسما كبيرا من تلك النّضرة سيذوي بعد الثّمار.
“وبفضلِ حُبكِ يعيش معتماً في جسدي
العطرُ المكثَّفُ الطالعُ من الأرضِ”
بفضل حبّه لهذه المرأة الاستثنائيّة يعيش العطر المكثّف الخارج من الأرض مُعْتِمًا داخله، وهنا يمكننا تأمّل واقعا استثنائيّا يخلقه هذا الحبّ الذي يكسر المُسلّمات، فهو بحبّه لها كنبتة جذرها موغل في الأرض، يمتصّ عطر الانتماء لهذه الأرض، بفضل أوراقه، والمسامات التي يهبها له الحبّ، عندما يورق جسده بفضل ذلك الحبّ، هو هنا يربط ما بين الأنثى والأرض، وهو حلقة الوصل بينهما، وكلتاهما تكملان بعضهما البعض، لاستمرار حياته، ولمنحه النّضرة التي يحتاج.
“أُحبُّكِ دون أن أعرف كيف، أو متى أو أينَ
أُحبُّكِ بلا مواربةٍ، بلا عُقدٍ وبلا غرورٍ
هكذا أُحبُّكِ لأني لا أعرف طريقةً أخرى
غير هذهِ، دون أن أكونَ أو تكوني
قريبةً حتى أن يدكِ على صدري يدي
قريبةً حتى أغفو حين تغمضينَ عينيكِ.
وفي خاتمة قصيدة نيرودا، نرى أنّ الرّابط القويّ ما بين الأنثى والطّبيعة وهو كرجل، هو رابط فطريّ طبيعيّ، لا يحتمل التّأويل والتّفسير، فهو لو قام بتفصيل تلك العلاقة، وتشريح كنهها ومعالمها، ستفقد الكثير من الجمال تلك العلاقة، وربّما تفقد ذلك الغموض الذي يكتنفها، ويثيره في الحصول عليها ومتابعتها.
هذا الاختيار لم يكن اختيارا عبثيّا لنصّ يفتتح به نمر سعدي ديوانه الخاصّ، بل هي قيم ومعايير اختارها له كنهج حياة، وكرّس لها الكثير من سطوره، لتتجلّى واضحة تنبض، وتتحرّك بينها، تلك الأفكار وذلك الرّابط ما بينه وبين المرأة والأرض، كان جليّا في نصوص ديوانه، وهذا ما سأتطرّق له في دراستي الحاليّة من خلال اقتباس المواضع التي تطرّقت لهذه الأفكار من النّصوص، وتحليلها، لتتّضح الفكرة وترتبط مكوّنة رؤيا واضحة الأبعاد والمعالم.
النصّ الأوّل في الدّيوان والذي تناول فلسفة الحبّ لدى شاعرنا كان بعنوان: “أشعارٌ محكومةٌ بالشَغف”
شَغِفَ) :فعل)
شغِفَ /شغِفَ بـ يَشغَف، شَغَفًا، فهو شَغِف وشَغوف؛ وهي شَغِفةٌ، والمفعول مشغوف.
شغِف به / شغِف بحبِّه: أحبَّه وأولع به.
شغِفه الحبُّ: شغَفه؛ فتنه وأصاب قلبَه. (قاموس المعجم الوسيط).
ومن العنوان تبدأ ملامح فلسفته للحبّ تبرز، فهو يؤمن بالحبّ قويّا يهزّ أعماقه هزّا، ويتسرّب عميقا إلى وجدانه، ليرسّخ جذوره هناك.
“خدَرُ الحُب
أخدِّرُ بالحُبِّ روحي لأكتبَ”
هو هنا يستعمل الحبّ كمادّة مخدّرة قد أدمنها، هذا المخدّر يخدّر الرّوح ويجعله في حالة ما بين الصّحو والإغفاء، ما بين الموت والحياة، وما بين الأنا بوعيها التّامّ وغيابه في حالة التّخدير، ذلك النّوع الخاصّ من المخدّر، هو حالة استثنائيّة، لا يريد لها أن تشبه واقعه بشيء وإنّما أن تكون واقعا وليد لحظته تماما كالإغماء والغياب عن الوعي، حيث لا يمكن التنبّؤ أبدا عندها بما قد يحدث لنا، ولا أن نعرف الوقت والحيثيّات التي ستلازم ذلك الحدث، الحبّ هنا خارج السّيطرة تماما، وربّما هذا ما يريده شاعرنا، هو يريد أن يحيا ولو للحظات قليلة حالة حبّ استثنائيّة مع الأنثى الفريدة، التي لا تشبه غيرها ولا تتكرّر، في تجربة لا تشبه غيرها، يريد تلك التجربة متجدّدة في كلّ مرّة وفي كلّ بُعد من أبعادها.
“لا شيءَ أصعبُ من أن تكونَ بلا امرأةٍ
بابتسامتها وبحزنِ يدَيها
تربِّي نوارسَ عينيكَ أو تشتهي
خدرَ الصبحِ فيكَ”
وهو هنا يتابع شرحه عن فلسفته للحبّ وللحبيبة، فهو لا يمكنه العيش بدون امرأة، تستطيع بابتسامتها، وبالحزن المتراكم في يديها، أن تربّي النّوارس في بحر عينيه، وأن تشتهي تلك المرأة، خدر الصّبح فيه، فلنتخيّل تلك التّفاصيل التي على الأنثى الطّاغية التي ستحتلّه أن تمتلكها، فالابتسامة والحزن من أوّل شروطها، والمرأة تكون حسّاسة جدّا في فترة حزنها، فاستشعارها للأمور يكون في ذروته في حالة الحزن، كما أنّها تتأثّر بالحزن أكثر من الرّجل، ويحثّ ذلك أعصابها بشكل مبالغ به، وربّما هذا ما جعله يختار هذه الصّفة لها، حيث أنّها ستكون صادقة في مشاعرها تجاهه، وتلك الابتسامة التي تطفو على شفتيها، إنّما دليل محبّتها له، فهي تخفي جاهدة ألم قلبها عنه، لكيلا تنقل له أساها، وهذا نوع من التّضحيات التي تقدّمها المرأة للحبيب. وهنا نراه يربط ما بين الطّبيعة وبينه وبين عوالم تلك المرأة، فهي قادرة على تربية النّوارس في بحار عينيه، ذلك البحر الصّاخب داخله، هي تستطيع تهجين وتدريب نوارسه على يديها، والتحكّم بها، وهذا إن دلّ فيدلّ على مدى قوّة تأثيرها عليه، هي يمكنها ولوج عمق أمواجه الصّاخبة، وأن تتحكّم بتضاريسه وبطيوره كما تشاء، تلك الطّيور التي تعشق التّحليق والحريّة وتموت محلّقة، لا يمكنها الخروج عن سطوة تلك الأنثى التي تستطيع تربيتها والتحكّم بها.
“ولا بحرَ أقربُ منها إليكَ
ولا رملَ أقربُ منكَ إليها”
هو وهي متلاحمان تماما هما كعناصر الطّبيعة متداخلان متكاملان، متناغمان، قريبان للحدّ الذي يصعب فصل أحدهما، أو تعريفه دون سواه، تماما كالعلاقة بين البحر ورمل شاطئه.
“انتبهْ لحفيفِ حدائقها في المساءِ الشتائيِّ
خذ حبقَ الوقتِ من يدها
لا أصابعَ عذَّبها النايُ أعذبُ من فمها
حينَ يبكي على زهرةِ اللوزِ”
وهنا صورة تنبض بمعالم تلك المرأة الوجدانيّة، صورة مستوحاة من الطّبيعة، ولنتأمّل هنا عمق وروعة هذه الصّورة وما حوته من نبض للطّبيعة في أنثى الشّاعر، ونبض للأنثى في الطّبيعة من حولها، فحدائق أنثاه تتساقط بها الأوراق تماما كما شجر الخريف، وربّما هنا تتساقط أوراق ابتسامتها بسبب الحزن، فالأوراق قد تشير للسّنين التي تهبها للغير أو للّحظات الجميلة التي تكرّسها لإسعاد من تحبّ، دون تفكير بسعادتها، وهو حين يجتاح عالمها يدوس تلك الأوراق بقدميّ نبضه، فتصدر حفيفا، كما انّه يقطف حبق الوقت من يديها، فهو لا يستشعر بقيمة الزّمن، دون مداعبة تلك اليدين، والتماس الدّفء منهما، كما أنّ فمها يشبه أصابع عازف النّاي، وذلك لأنّ نغمات حبّها وحروفها الرّقيقة في بكائها على زهرة اللّوز التي تسقط، تكون أعذب ممّا قد يعزفه النّاي من ألحان، تلك هي المرأة التي يحبّ، بكلّ تفاصيل الطّبيعة فيها، وبكلّ ما تعكسه هي من صفات على الطّبيعة من حوله ليعشقهما واحدة من خلال الأخرى.
“خذني إليكَ تقولُ ولكنها ليسَ تعني
يراودها يأسُها الوحشُ عن نفسها
وهيَ لا تتمنَّعُ منهُ”
وهو هنا يجسّد لنا مدى استسلام تلك الأنثى للأسى والحزن، فهي غير جادّة في محاولة هروبها من ذلك الحزن، ولو إلى حضن ذلك الحبيب، هروبها من الحزن دائما ما يكون مؤقّتا إلى حضنه، هذا الهروب المؤقّت، تماما كاختلاس لحظات السّعادة في تجربة الحبّ، هو هروب من الواقع في لحظات قليلة، تستدعي أن يعيش المرء اللحظة بكلّ تفاصيلها، خاصّة وأنّها قد لا تتكرّر، وقد لا تطول، هي دائمة الاستسلام لحزنها، وهي مخلصة لذلك الحزن، لكنّها تخون حزنها باستسلامها للحبيب وحضنه، فأيّ لحظات ستجمعهما!
“انتهى اليومُ دع قلبَها أيُّها الحزنُ
كيْ تستردَّ المجازَ من الحلمِ
كيْ تشربَ الآنَ قهوتها
ثمَّ تنهضُ محفوفةً ببياضِ الشموسِ إلى شأنها”
هو هنا يعود لتأكيد علاقة أنثاه بحزنها، فذلك الحزن عليه السّماح لها بعد انتهاء نهارها في خدمته وطاعته، أن تستردّ مجاز حبيبها، أن تعيشه حلما، وأن تشرب في حضرته قهوتها، وربّما هنا القهوة كناية عن سواد اللّيل، فهي عند الفجر ستعود من أحلامها لتبعث في حضن الأسى من جديد، لذا فهي تسترق الحلم، لكي تخلد إلى حضن حبيبها، في تجربة مجازيّة ما بين الصّحو والإغفاء، حالة ما بين بين، تمكّنهما من أن يعيشا بعض لحظات الحبّ ولو مجازا.
“لا قصائدَ من جسدِ الماءِ أغربْ
أُخدِّرُ بالحُبِّ روحي وأذهبْ.”
وهو يختتم القصيدة هنا من حيث ابتدأها، فهذه الحالة هي ما ذكره من المخدّر في بداية القصيدة، القصيدة هي تلك السّاحة التي يراقص بها أنثاه على سطرها، تلك الأنثى المشرّبة بالطّبيعة حتّى النّخاع والمزروعة في تربة الأسى والحزن.
في نصّ آخر بعنوان “روحٌ في البحيرة”
يخاطب أنثاه قائلا: “هاتي فراشاتِ النهارِ وكفكفي عني كوابيسي
لعلَّكِ تنصتينَ الى يديَّ وتفهمينَ بكاءَها الرعويَّ”
فهو يطلب منها أن تحضر معها فراشات الضّوء ليبدأ نهاره بها، نهار يخفّف عنه وطأة كوابيس ليله، فتلك الأنثى قادرة على الإصغاء لبكاء يديه، ذلك الذي يشبه حداء الرّعاة في سيرها لرعي أغنامها، وهنا نرى تلاحما رهيبا ونبضا مدهشا للطّبيعة في أنثاه، هي جزء لا يتجزّأ من الطّبيعة، والطّبيعة جزء لا يتجزّأ منها.
“روحٌ في البحيرةِ أنتِ.. أوفيليا التي يبكي عليها الماءُ.. ”
وهو هنا يشبّهها بزهرة الأوفيليا التي تطفو على صفحة الماء، ويضفي عليها أيضا مسحة من الحزن، فالماء يبكي عليها، ذلك التّفاعل ما بين عناصر الطّبيعة وروح من يحبّ والحزن خليط مبهر، يميل للصّدق والنّقاء، فالأرواح تشفّ أكثر في حزنها، وهو يسعى للشّفافية في حبّه، الذي يقتنصه من حضن المجهول والغيب والحزن، هو يسعى لعلاقة مثاليّة صادقة، تلامس أعماقه وتسكنها، وهو يعي أنّه لن يجدها في حياته اليوميّة لذا فهو يمثّلها بلحظات تأثير المخدّر لأنهّا عندما يرتطم بواقعه من جديد ستزول ويزول أثرها سريعا.
“وحدي في القصيدةِ مثلَ قلبِ الشاعرِ المدفونِ حيَّاً..
كنتِ صندوقَ الحنينِ ومعجمَ الأسرارِ
فيما كنتُ أصرخُ كلَّما تهوي
أصابعُك المضاءةُ بالزنابقِ في الظلامِ أمام عيني
كفكفي حزني الجميلَ بما توهَّجَ فيكِ من حسنٍ حزينْ
من أيِّ بئرٍ جاءَ هذا الحزنُ يا أمَّ البنينْ؟”
وهو هنا يتابع حديثه للحبيبة فقلبه مدفون داخل سطور قصيدته، وداخل مجازاته وصوره، يبحث عن الأنثى التي تستطيع اقتلاعه من واقعه، وأن تخدّر عيشه بعشقها، هذه الأنثى هي صندوق حنينه، ومعجم لأسراره، لكنّه في كلّ استفاقة له من الحلم، كان يراها تهوي وتسقط في ظلام العيش والواقع، وهو هنا يشبّه تلك المرأة بالولّادة أمّ البنين، ويضفي عليها لمسة من النّور والتوهّج، حيث يديها كالزّنابق تتوهّج، هي في ذهنه عالم كامل متكامل، لكنّه يعي أنّه لن يجدها في غير مجازاته وصوره، لذا عندما يباغته الواقع خارج سقوطه تسقط وتتهاوى صورتها، في ظلام ذلك الواقع وكربه.
وفي نصّه “قبسٌ من الرؤيا” نجده يقول:
ولن تموتَ سوى على أعلى صليبٍ
ناضحٍ بمرارةِ العطرِ المفخَّخِ والمصفَّى
من يدِ امرأةٍ أطحتَ بقلبها الأعمى
وأنتَ إلى نبوَّتكَ الأخيرةِ
أو بطولتكَ الأثيرةِ
يا ابنَ دمعتكَ الكبيرةِ ذاهبٌ
في منتهى هذا السرابِ الآدميّْ”.
هو هنا يعيد ربط الطّبيعة بالمرأة ويعيد ربط الحبّ والعشق بالموت والحزن، ويشدّد على روابط اليدين والقدرة على استشفاف البوح والهمس عبرهما، في حين الواقع ما هو إلّا سراب آدميّ، إنساننا لا ينطق إلّا في حيّز هذا المجاز، وفي حضرة العشق الذي لا نستطيع أن نلمسه حيّا إلّا في سطورنا، صورة في غاية الرّوعة، تنبض بالوجع والحبّ والصّدق.
وفي نصّ آخر بعنوان: “تسائلُ عاشقةٌ نفسها” نجده يقول:
“ستنقصُهُ لغةٌ في الأصابعِ
كيما يفسرَّ ما فيهِ من قلقٍ عاشقٍ”
هو هنا يعود للتأكيد على لغة اليدين، وربط القلق والحزن بالحبّ.
“وسحابةُ صيفٍ ليغفو قليلاً
ويرتاحَ من تعبٍ كافرٍ آخرَ اليومِ”
وهنا أيضا عودة على كَوْن مساحة العشق هي إنّما استراحة، يأخذها تماما كسحابة الصّيف، سريعة وواهية، لكن أثرها كبير عميق في النّفس والرّوح، فهو يعيش الحبّ مجازا بين سطوره.
“فيما تسائلُ عاشقةٌ نفسَها
وهي تكتمُ حُبَّاً جديداً بسريَّةٍ مُعلنةْ
مَرَّ من دونِ أن يتمرأى بعينيَّ شخصٌ غريبٌ
فماذا وجدتُ به دونَ كلِّ الرجالِ إذنْ؟
فهو في نزقٍ دائمٍ
هل وجدتُ حنانَ أبي مثلاً؟
أو روائحَ طفليَ؟
لا لستُ أدري..
وجدتُ أنايَ على راحتيهِ
ولم أجدْ الحبَّ فيهِ ولا لعنةَ الأمكنةْ”.
وهو هنا يرينا فلسفة الحبّ من وجهة نظر المرأة العاشقة، فهي تعيش الحبّ كحالة اغتراب في عيني الرّجل، وتسائل نفسها تُرى ما الذي وجدته في هذا الرّجل؟ هي تبحث به عن الأب، أو الابن، وقد تجد نفسها به، وقد تربط به المكان، وهنا عودة على ربط الحبيب بالمكان والبيئة والأرض، فالحبيب كما الحبيبة هو وطن مصغّر يربطنا بالوطن الكبير.
“علَّمَتْني كما لم تعلِّمْ سوايَ
ليسَ في يدها قبضُ ماءٍ ولا خمرةٌ
بل رمادُ الخطيئةِ أو جمرةُ الفاجعةْ
وأنا لم أكن مرَّةً قيسَ
كي أتحلَّق حولَ خلاخيلها
وأبوسَ السهامَ المضيئةَ تلكَ التي
قدَّتْ القلبَ من قُبُلٍ
والتي علَّمتني (كما لم تعلِّم سوايَ)
قراءةَ سفرِ المزاميرِ والجامعةْ
واضحٌ شغفي مثلُ شمسِ الضحى
ودمي مثلُ ضحكةِ ليلى الطفوليةِ النبرِ
لا يرتدي الأقنعةْ”
وهنا يعود هو لتفسير وشرح فلسفته في الحبّ، فالمرأة التي يعشقها علّمته ما لم تعلّم سواه من الرّجال، علاقته المحرّمة بها تلك التي يقتنصها معها في لحظات اختماره وتخديره بالخطيئة، وبنظرات عينيها التي تشقّ قميص قلبه من قُبُل، حيث قالت له هيت لك، حين راودته عن نفسه، في حين دماؤه المثخنة بالعشق والشّغف، شفيفة وواضحة تماما، كشمس الضّحى، وكالضّحكة على شفاه طفلة بريئة وادعة، وهنا نراه ما بين الغواية، وبين النّقاء في المشاعر، ينسج روحًا أخرى للعشق، حيث يعيش العشق مجازًا، بنوع من التّضارب الذّهنيّ، ولكن بما أنّ هذه الحالة لا تكون غير اقتناصة، وهروب من واقع للمجاز، فلن يكون هناك مشكلة، فيما لو اشتملت تلك الحالة المجازيّة البحتة التي يعيشها التّناقضات، فلربّما، تلك التّناقضات، هي ما سيزيد اشتعال الحزن الذي يذكي ويشعل بدوره نار الحبّ ويؤجّجها في صدره.
وفي نصّ آخر بعنوان: “سمكٌ طائرٌ” نجده يقول:
“لها الآنَ أكتبُ لكنها ليسَ تدري
لمن أكتبُ الآنَ هذا الكلامَ البسيطَ..
فهل فكَّرتْ أنني قد نسيتُ إنارةَ وحدتها بالقصائدِ
أو بشموعِ دمي..
أو ضَللتُ طريقَ الرجوعِ الى قلبها..؟
وأنا لا بشيءٍ أفكِّرُ إلا بدمعةِ طفلٍ
ستقهرُ أعتى الطغاةِ..
لها الآنَ أكتبُ وهي بنسيانها المرِّ تشطبُ
كلَّ أغاني الحياةِ
تفكِّرُ قلبي تغيَّرَ والقلبُ في يدها
طوعَ نيرانها وهواها
تربِّيهِ وردةَ فلٍّ على مهلها تتفتَّحُ
أو قُبلةً في الشفاهِ
جاءَ من نسلها سمكٌ طائرٌ في الفضاءِ
وأسرابُ طيرٍ تجوبُ المياهْ”
هو هنا يربط ما بين الطّبيعة وبين المرأة وبينه، ونراه يخلق طبيعة وواقعا مُغايرًا في مجازه، حيث العصافير تسبح في الماء، وحيث السّمك يطير في الأجواء، ذلك الواقع المغاير يناسب تلك الاقتناصة الفريدة للعشق بين سطور مجازه، والمرأة التي يعشقها تقوم بتربية قلبه كوردة تتعهّدها بالرّعاية والعناية. صور تعمّق الحسّ، وتزرع الدّهشة في النّفس، فحالة العشق كما أردف من قبل هي حالة استثنائيّة، لا يمكن أن يعيشها إلّا مجازا على سطره.
وفي نصّ آخر بعنوان: “من أورثني سواهُ هذا الشَغف؟” نجده يقول: “في القفصِ الصدريِّ
طيرٌ طائشٌ أعمى.. سرابيٌّ..
أنينُ البحرِ في أصدافِ عينيهِ
وفي رملِ شراييني وفي احتراقهِ الأزرقِ
من أورثني سواهُ هذا الشغفَ الناصعَ
أو شرارةَ الغوايةِ الأولى
بكاءَ الجسدِ.. الضلالَ في أوديةِ المجازِ
ملحاً في دمي يجهشُ
نوَّاراً غريباً كزهورِ الغيبِ في آذارَ
عشقاً غامضاً
وغيمةً بيضاءَ حولَ هالةِ اليدينِ
تيهاً في صحارى الشِعرِ
أو شبهَ حلولٍ في خواتمِ الندى الليليِّ
أو أصابعِ الرمادِ؟
لا يفضي إلى معنى
ولا يتركني أرتاحُ من طائرةٍ مائيَّةٍ في عصبي تئنُّ
أو يحملُ عني وردةَ الغبارِ أو فراشةَ الحديدِ
في ظهيرةٍ بيضاءَ…
هذا الطائرُ الشاعرُ كلَّ لحظةٍ
يطلعُ من منحوتةٍ فضيَّةٍ لامرأةٍ عاشقةٍ
في متحفِ الفنونِ
أو ينسلُّ من ركامِ فكرةٍ عن الحبِّ
ومن حطامِ ألواحِ الوصايا العشرِ
أو من دمعةِ السماءْ”
وهنا تعميق آخر لفلسفته عن الحبّ والعشق، حيث عناصر الطّبيعة تتداخل في نسج ذلك الشّبق والعشق، وفي إشعال نار الغواية في دمه، بما في ذلك البحر والرّمال والموج، والرّماد، والنّدى والصّحراء، وهو يربطها جميعا بالمرأة التي يعشق، حيث يخرج الطائر من جسد تلك المرأة بعد أن أخذ تشكيله من كلّ تلك العناصر من الطّبيعة، وهو هنا أيضا يشدّد على أهميّة الحزن والدّمع في حالة العشق المجازيّ الفريدة التي يعيشها، فالدّمعة عنصر أساسيّ في تشكيلها.
وفي نصّ آخر بعنوان: “آن سكستون” يقول:
“الآنَ لو صادفتُ آن سكستون تذرعُ شارعاً حذوي
فماذا قد أقولُ لها؟
تُرى سأبوحُ حينَ أرى أصابعها النحيلةَ
وهيَ تصنعُ قهوةَ الايقاعِ
أني ليلةً ما من ليالي العمرِ
وحدي كنتُ أشربُ صوتها الرقراقَ
وهو يفيضُ في اليوتيوبِ؟
هل سأقولُ في عفويَّةٍ وبجرأةٍ العشَّاقِ
كم أحببتها يوماً على عصبيَّةٍ فيها
وحزنٍ ليسَ تشفى منهُ…؟
ماذا كنتُ أطلبُ من يديها
في مهبِّ العمرِ والنوستالجيا؟
سيجارةً أم قبلةً أم نظرةً خرساءَ أم أيقونةً لفظيَّةً؟
أم يا تُرى تلويحةً لي من ضفافِ حنانها
وجنانها لجهنَّمي الحمراءِ؟
لكن آنَ ما كانت لتعبأ بي
ولو عاتبتها بلطافةٍ وبهمستينِ
على طريقتها المريعةِ في انتقاءِ الانتحارِ
وربَّما مرَّت مسارعةً خطاها
مثلَ أنثى الأقحوانِ
ولم تُعِر قلبي شعاعاً واحداً
أو تلتفتْ لي.”
وهنا نحن نرى مثالا على إحدى حالات العشق المجازيّ التي عاشها الشّاعر في مقتبل العمر، فهو قد عشق المطربة عشقا مجازيّا على الورق وبين سطوره، وهو هنا يربط ما بين عشقه لصوتها، وعشقه للقهوة، وللطّبيعة والتي تمتزج معا وتختلط في عالم مجازيّ فريد، وهو هنا يعشق حالة خاصّة في هذه المطربة، فأكثر ما قد أثّر به هو انتحارها، فحالة الشّجن واليأس التي عاشتها قبل الانتحار، ربّما هي أكثر ما أثّر به، وكذلك العصبيّة التي تميّزها، والتي تثير أشجان قلبه.
وفي نصّ آخر بعنوان: “مجازُ الحنين” نجده يقول:
“تقولُ لي: (كأنَّ عصفورةً
في صوتها الأزرقِ عصفُ السنينْ)
دعْ كلَّ ما في الدُرجِ من أنجمٍ
خضراءَ في الريحِ ومنسيَّةٍ
في غبَشِ الأحلامِ قد تهطلُ
حدائقُ الأشعارِ سريَّةٌ
يطلعُ منها قمرٌ مهمَلُ
أزهارهُ العمياءُ ممهورةٌ
للماءِ.. لا تزهرُ أو تذبلُ
تصيحُ بي قصيدةٌ لم يزلْ
من ألفِ عامٍ طيرُها يرحلُ
أطلق من الغبارِ مسجونةً
ضاقَ بها الليلكُ والمنزلُ
دعْ نهرَها يرقصُ ملءَ السماء
وشَعرَها في مطرٍ يوغلُ
أنا التي أصرخُ في كلِّ ما
كتبتَ.. أو أضحكُ أو أسألُ:
فراشةٌ عنيفةٌ أم يدٌ
تأكلُ من يديَّ ما تأكلُ؟
لـمِّعْ بعينيكَ مجازَ الحنينْ
فصدأُ الحياةِ مُسترسلُ”
وهنا أيضا نرى تجربة العشق المجازيّة بأبعادها المختلفة، حيث الطّبيعة تمتزج بالمحبوبة، وحيث المجاز يكلّل التّجربة، والقصيدة تشكّل أرضا لهذه الحالة، فهنا نرى العصافير والطّيور والبحر الأزرق والرّيح والقمر والماء والأزهار والنّهر والسّماء والمطر والفراشات، جميعها تتداخل وتتناسق لتشكيل المحبوبة وتجربة الحبّ المجازيّة البحتة.
وفي نصّ آخر بعنوان: “طلَليَّة” نجده يقول:
“قفا نبكِ.. قالَ
وحدَّقَ في يدهِ
لا ليمسكَ خيطَ القصيدةِ في غابةِ الليلِ
بل ليرى ما تخبِّئُ أشعارُهُ من تآويلَ…
كانَ على طللِ الغيبِ ينهرُ أشباحَهُ
ثمَّ يفتحُ بابَ قصيدتهِ للرياحِ
ويبدأ: يا ليتني حجرٌ
ثمَّ يصمتُ…
يا ليتني شجَرٌ
والدمُ المتخثِّرُ ينزفُ حتى
من الشجرِ المقتنى كاليبابِ
قفا نتأمَّلُ فوضى الخرابِ
قفا لنودِّعَ أيامَنا
وقفا لنشيِّعَ أحلامَنا
وقفا بي مليَّاً على طلَلٍ مُوجعٍ
مثلَ وشمٍ بخاصرةِ الأرضِ يلمعُ
كي أذرفَ الدمعَ والشِعرَ والقلبَ…
لنْ أتشمَّسَ في بحرِ آذارَ
أو أتأملَّ فلسفةَ الحبِّ
أو أبتني دارةً من سحابٍ لأنثى الغيابْ.”
وهنا واقع مجازيّ آخر يفلسف العشق، ويمزج تفاصيل الطّبيعة المختلفة لتشكيل حالة خاصّة على أرض التأويل والمجاز والقصيدة، حيث يدمج عناصر كالغابة، اللّيل، أشباح، الرّياح، حجر، شجر، دم، يباب، خراب، أيّام، طلل، وجع، الأرض، سحاب، مع الأنثى التي يهبها للغياب والدّمع والأحلام والمجاز والشّعر. هو واقع افتراضيّ بحت، ينسجه بأسلوب فريد، ليعيش حالة الفرادة تلك في عشقه على الورق، حالة مجازيّة تنسلخ عن واقعه، وتتكلّل بالوجع والدّمع.
وفي نص آخر بعنوان: “امرأة” نجده يقول:
“وحدَها امرأةٌ في القصيدةِ
تحملُ في يدها كوكباً لليمامِ
وخبزاً لفصلِ الربيعِ
وفي قلبها قمراً من غناءْ
وحدَها امرأةٌ في الحنينِ العموميِّ. . لا كالنساءْ.”
هنا أيضا نجده يخلق للأنثى واقعا استثنائيّا مجازيّا، حالة فريدة لامرأة غير كلّ النّساء، يمازج ما بينها وبين الطّبيعة، ويمنحها صفاتها، وهو هنا من خلال المجاز واللّغة يحاول إبراز الفرادة في لحظة العشق، بحيث يجعل من تلك المرأة قريبة من الأسطورة، فهو لا يمكنه التّواصل معها إلّا فوق سطوره، ولا يمكنه تحسّس معالمها، إلّا بتخيّل بيئتها ومحيطها.
وفي قصيدة أخرى بعنوان: “شغفٌ مُجرَّد: نجده يقول:
“مطرٌ ربيعيٌّ وسريٌّ يهبُّ على حديقتها
وشمسٌ في يديها الآنَ يا قلبي..
وسبعُ زنابقٍ
وكتاب كافكا الساحليُّ
ودمعةٌ فضيَّةٌ..
ومحارةٌ تحوي ارتطامَكَ في الطريقِ بنجمةٍ رمليةٍ
في الكرملِ السحريِّ
حينَ رأيتُها تمشي على عجَلٍ
وتنظرُ مثلَ وردٍ في الظهيرةِ باتجاهِ البحرِ..
تنحتُ من صدى الفرحِ النظيفِ صخورَ ضحكتها..
وكلُّ كلامها في الصفحةِ الزرقاءِ يُبكيني..
سرابُ مدينةٍ بحريَّةٍ هيَ.. لمَّعتْ عطشي المجرَّدَ؟
أم بقايا غيمةٍ في الشِعرِ؟
أم عطَشُ الحقيقةِ للمجازِ..
وما تجمَّع في دمي الصيفيِّ من نُقَطِ الجَمالِ؟”
وهنا أيضا نراه يخلق من المجاز واقعا متفرّدا يسكن أنثاه به، واقع يرسم به الكثير من ملامح الطّبيعة والبيئة، بحيث يربط به ما بين الأنثى وبين هذه البيئة، وكذلك نراه هنا أيضا يضفي لمسة الحزن على المحبوبة، فهي لا بدّ لها أن تحمل الحزن في قلبها لتستوفي شروطه للعشق والحبّ.
وفي قصيدة أخرى بعنوان: “لَسْعُ بنفسَج” نجده يقول:
“لعنقاءِ هذا النهارِ الربيعيِّ ما تشتهيهِ
ولي أن أقولَ
الغريباتُ هنَّ الجميلاتُ
لسعُ البنفسجِ في الخاصرةْ.”
حتّى في هذه الومضة المختزلة، نجده يربط ما بين المرأة والبنفسج والنّهار، وهو يخلق لها واقعا افتراضيّا مجازيّا ليتسنّى لها لسعه بحزنها، تلك المسحة من الحزن لا بدّ وأن تأتي ليستقيم العشق في عروقه.
وفي قصيدته: “قصيدةٌ عبثيَّة” نجده يقول:
“قاسمتني كوابيسَها مثلَ تفَّاحةٍ
والحديثَ الطويلَ المُملَّ عن الأدبِ العبثيِّ
وقصَّةِ (فنَّانِ جوعٍ)..
وعطرَ الأكاسيا وخبزَ الفراغِ..
وأشياءَ أخرى
ولم تنسَ في جسدي شوكَها المتوجِّسَ
لم تنسَ أغنيةَ الماءِ.. أو فلَّها
أنا من نسيتُ دمي في حرائقها
والحدائقَ في جسمها.. كلَّها.”
وهو هنا أيضا يربط ما بين المرأة والطّبيعة من حولها، حيث الماء والفلّ والأكاسيا، والتّفاحة، وهي هنا تشاطره شوكها والحرائق أي أنّها تدخل إلى قلبه من باب الوجع، وتترسّخ به هناك.
وفي نصّ آخر بعنوان: “شاعرٌ حديثٌ” نجده يتحدّث عن الشّاعر بقوله: “ولقدْ تشقَّقتْ قدماهُ
من كثرةِ ما مشى في بريَّةِ الريحِ
وعلى شهوةِ الماءِ
هو فقط يبحثُ بعينيهِ المنكسرتينِ مثلَ قوسَيْ قزحٍ
والمشتعلتينِ بثلجٍ أسودَ
عن مدنٍ جديدةٍ يتعلَّقُ بها
تعلَّقَ الطفلِ بأمِّهِ
ونساءٍ مرحاتٍ يدفنُ فيهنَّ قلقَهُ
الذي أورثهُ إياهُ حبَّةُ التفاحِ الأولى.”
هو هنا يربط بين الحبّ والأنثى وجسده والطّبيعة في آن، فسيره في الطّبيعة إنّما بهدف البحث عن تلك الأنثى التي سيدفن بها قلقه، وهو هنا يوصلنا بطريقة أو بأخرى لارتباط الحبّ بالوجع، ففي جسد تلك الأنثى سيُدفن القلق والأوجاع. ونرى الطّبيعة هنا تتجسّد في صور وواقع مغاير نوعا ما، فالثّلج أسود، كما أنّه كمسيح عشق قادر على السّير على الرّيح والماء، وهنا نرى أنّه يعتبر ذلك الحبّ رسالة سامية يحملها.
وفي نصّ بعنوان: “غَيمَةٌ في الأصابع” نجده يصف أنثى أخرى فيقول: “أكتبها بالحنين
نصفَ نائمةٍ تنقرُ الهاتفَ الخلويَّ وتبسمُ..
ترهفُ أعضاءَها للنسيمِ
وما يتنادى على ساحلِ البحرِ
من مطرٍ هائجٍ لطيورِ السنونو
وترشدُ ضلِّيلها القلبَ للطابقِ العُلويِّ
هنا في قطارِ المساءِ..
أشاعرةٌ هي لا تكتبُ الشعرَ أم غيمةٌ في الأصابعِ
أم ذئبةٌ في القصيدةِ..
أم زرقةٌ لا تفسَّرُ أم وردةٌ في الغروبْ؟
أنا الآن أكتبها بالحنينِ الوجوديِّ..
هل أطمئنُّ الى أنني أنتمي لكآبتها فرَحاً
ولكلِّ العصورِ وكلِّ الشعوبْ؟”
وهنا أيضا نجد أنثاه منغمسة في الطّبيعة من حولها، ومستقاة من تفاصيلها، حيث تتفاعل مع النّسيم والبحر والسّنونو والمطر وزرقة السّماء والغروب، وهي في عينيه تمسك بين أصابعها الغيم، وهنا نرى المجاز والقصيدة يأخذون حيّزا من هذا الواقع حيث شاعرته تسير كما ذئبة متوحّشة في داخل القصيدة، وهو يصرّ أن يضفي مسحة من الكآبة عليها في نهاية النصّ، فهو شرط من شروط عشقه لها.
وفي نصّ: “نعمةُ الصمت” يقول:
“لكانَ عرفَ عندما انسابتْ وردةُ الحقيقةِ من حديقةِ قلبهِ
الفرقَ الكبيرَ بينَ شوكةٍ زرقاءَ في دمهِ
وقبلةٍ يطيِّرها على أطرافِ أصابعهِ لامرأةٍ مجهولةٍ
تجلسُ في أقصى زاويةٍ في مقهى مكتظٍ برائحةِ السماءْ.”
فالأنثى هنا أيضا غريبة جزء من واقع مؤقّت، تجلس في المقهى، وهو يرمي لها بقبلته، والحبّ هنا أيضا موجع كالشّوك وهو يربط الأنثى بالورد والمقهى والرّكن.
وفي نصّ بعنوان: “أغاني تروبادور مجهول” نجده يقول:
“كلَّ يومٍ تعبرُ من أمامي وأنا أجهلها
أراها بعينِ الشاعرِ
بكاملِ بياضها وزينتها ومرَحها وجمالِ قلبها
ولكنني للأسف لا أرى شعاعَ الكآبةِ النابضَ في عينيها
وهذهِ مشكلةٌ حقيقيَّةٌ
أن ترى كلَّ شيء ولا ترى الكآبةْ
سأدلقُ فنجانَ قهوتي على الأرض
وألغي برنامجَ قراءتي لهذا اليومِ
حداداً على الحمامةِ التي لا أعرفها.”
فهو هنا سيتنازل عن قهوته التي يعشقها لكون المرأة التي دخلت ناصية قلبه لا تشعّ كآبة ووجعا، هي بهذه الحالة فقدت شرطا هامّا، ولذا فحالة الحبّ المجازيّة لم تكتمل، وطقوس القهوة بُدّدت.
وفي نصّ له بعنوان: “يا زهرةَ الرُمَّانْ” نجده يقول:
“قلبي الملولُ ونورساتُ البحرِ..
عاطفتي الرفيعةُ كالصراطِ
وساعةٌ رمليَّةٌ صمَّاءُ في رأسي
وحبرٌ لا يُرى ويُمَّسُّ
أصبحَ فائضاً عن كلِّ حاجاتِ القصيدةِ..
يبدأُ الطيرانْ
حجَرٌ سماويُّ الندى بيديهِ من قاعِ الخرافةِ
فاستعيديني من الكثبانْ
يا حكمةً بيضاءَ
أو يا قُبلةً للماءِ تنبضُ في شراييني وفي عينيَّ
يا قلَقي الذي يخضرُّ في تشرينَ
يا وشماً بخاصرةِ الحبيبةِ فسَّرَ التحنانْ
يا زهرةَ الرمَّانِ كوني لي
لأحملَ نجمتي يا زهرةَ الرمَّانْ.”
هنا أيضا نراه ينسج واقعا مجازيّا للحبّ حيث القلق وشم في خاصرة الحبيبة، وحيث تمتزج عناصر الطّبيعة في مشهد الحبّ، فنرى الاخضرار، والكثبان، والنّدى، والبّحر والنّوارس، كما أنّ القصيدة والمجاز هنا كان لهما دورا في المشهد.
وفي نصّ آخر بعنوان: “نسيان” نراه يحدّث أنثاه قائلا:
“أنا أنسى فاكتبي لي اسمكَ
في كلِّ رقاعِ الأرضِ حتى أتمرَّدْ
ضدَّ روحي..
وأناديكِ كما يحلو..
أحلُّ الصدفَ المعقودَ في كفَّيكِ
عن نهرِ الزبَرجَدْ
أنا أنسى.. أتناسى..
أتعافى عندما تأتينَ من حزني
كأني الباحثُ الدهريُّ في عينيكِ
عن شيءٍ محدَّدْ.”
هي واقع يعيشه مجازا حيث لا يذكر حتّى اسمه، يعجنه بالصّدف والنّهر وزبرجده، ليبحث عن وميض العشق في العينين، وتلك الأنثى تنبثق من حزنه.
وفي نصّ: “يا زهرةَ الصُبَّار” نجده يخاطبها قائلا:
“يا زهرةَ الصُبَّارِ لا تبكي على الماضي
فقلبي مضغةٌ من نارْ
سيكونُ متسَّعٌ لنا لو في شقوقِ الوقتِ..
لو في فجوةٍ صغرى رأتْ وجهَ الضحيَّةِ في دموعِ الدارْ
لا تقطفي قلبي ولا تتحرَّجي مني
فأنتِ أختُ الذين تعذَّبوا وتشرَّدوا في الأرضِ
أنتِ حنينُ أنفاسي لمنديلٍ عصيِّ الريحِ
أو شغفي بعطرِ العشقِ في أيَّارْ
فقصيدتي كُتبتْ على عجَلٍ
وهذي قهوتي شُربتْ على عجَلٍ
وحامَ دمي على الأنهارْ
يا زهرةَ الصُبَّار لا تبكي على ما ضاعَ..
كوني لي لأطلقَ زفرتي يا زهرةَ الصُبَّارْ.”
هنا نراه يشبّه تلك الحبيبة بزهرة الصبّار، حيث تنمو بين الأشواك، وقطفها يعني توجّعه، وهو هنا يعيش الحالة على عجل، في القصيدة ومع القهوة في خياله الذي يعشق الجمال حين يشرخه من داخله ويؤلمه.
وفي نصّ: “طريقٌ عموديَّةٌ” نجده يعطي فلسفة لحياته كاملة حيث يتحدّث عنها قائلا: “حياتي طريقٌ عموديَّةٌ
ونهارٌ بلا زنبقاتٍ ثلاثٍ
وليلٌ بهِ ضجَرٌ مرعبٌ
يقضمُ الآنَ تفاحةَ الآخرةْ
وأحلامَهُ واحداً واحداً
وهو في شرفةٍ يتناولُ فنجانَ قهوتهِ
بيدٍ من بكاءٍ ويشربهُ
ويفكِّرُ مثلَ التماثيلِ باليقظةِ الماكرةْ
حياتي طريقٌ سماويَّةٌ
للمضائين بالندَمِ الساحليِّ
وللشعراء اليتامى.. وللفرسِ النافرةْ
أنتِ كلُّ القصيدةِ يا امرأةً
لم تكنْ أبداً مرَّةً شاعرةْ.”
وهو هنا لا يريد من حياته عدا تلك المرأة التي تحيا في قصائده، والتي تشكلّ كلّ قصيدته لا جزءًا منها، تلك المرأة المجبولة فوق السّطور، من عناصر البيئة القريبة، بشكل منفرد بهيّ.
وفي نصّ: “هيَ ما أريدُ الآنَ من حبقِ الشقاء” نجده حتّى في العنوان يدمج ما بين الطّبيعة والأنثى والشّقاء، ثلاثة شروط أساسيّة لا تستقيم حالته المجازيّة للعشق إلّا بها.
“أشعارُكِ الزرقاءُ والسيجارةُ الأولى أمامَ البحرِ
واللانداي والغزَلُ الايروسيُّ القديمُ
وغمغماتُ نوارسٍ قربي
ولعنةُ نثركِ الروحيِّ في مجرى دمائي
هيَ ما أريدُ الآنَ من قلقِ الحياةِ المُرِّ
أو حبقِ الشقاءِ
هاتي بلاداً لم أزرها مرَّةً وخذي سمائي.”
وهنا أيضا نراه يستوحي أجواء مجازيّة فوق سطوره، ونراه يزرع القلق في تلك التّجربة ونراه يصوغ مشاهد أنثاه وعشقه بما يحاذي البيئة والطّبيعة من حوله، كالنّوارس والبحر وغيرها.
وفي نصّ آخر بعنوان: “زليخَة” نجده يقول:
“ذابتْ من الشهواتِ شمسُكِ يا زليخةُ
ذابَ جسمُكِ في الشفوفِ وفي القلائدِ
وانتهتْ كلُّ الحروبِ الآدميَّةِ
والسنابلُ لا تزالُ رقيقةً خضراءَ
والقمرُ الحرونُ مسوَّراً بالغيمِ في نيسانَ
وحدَكِ في القصيدةِ والحياةِ
وفي بداياتِ التأمُّلِ أو نهاياتِ الظنونِ
تجفِّفينَ قميصَ هاويتي
بماءٍ في الأصابعِ مثلَ لذعِ النارِ
قُدِّي ألفَ قلبٍ لي لعلِّي
من ظلامِ البئرِ سوفَ أطيرُ حيَّا
فبكاؤكِ العفويُّ في الأحلامِ
يصرخُ بي نبيَّا.”
نراه هنا يلمّح لشخصيّة زوجة عزيز مصر التي راودت يوسف عن نفسه، فهو يريد أنثى مجازيّة تراوده عن قلبه وشغفه، وهو نبيّ عشق سيبعث من بئره الذي يقبع داخله، هنا أيضا نرى امتزاج تلك الأنثى بعناصر الطّبيعة، وهي تبكي أي تثيره بأوجاعها ودموعها.
وفي نصّ له بعنوان: “قصيدةٌ إلى خليل حاوي” نجده يقول:
“عاشقٌ دونما امرأةٍ واحدةْ
تربِّي لهُ حزنَهُ
قلبُهُ كالفراشةِ في ليلِ نيسانَ
يبحثُ عن نجمةٍ في سباتْ”
وهنا أيضا يعرض الأنثى الحبيبة كواقع افتراضيّ، ويربطها بالطّبيعة حيث يغدو قلبه معها كالفراشة في ليالي الرّبيع، وذاك القلب يبحث عن نجمة تخلد لسباتها، كما وأنّه يربط تلك الأنثى بالوجع والحزن فهي تربّي الحزن لعاشقها.
وفي نصّ آخر بعنوان: “تقاسيم عَلى مقامِ الندَمْ V” نجده يقول:
“تقتصُّ مني وردةٌ ناريَّةٌ بيضاءُ
تشبكها الحياةُ بشَعرها الغجريِّ..
ناعمةٌ وقاسيةُ الحقيقةِ والعيون”
هنا أيضا نلمح قسوة تلك الوردة ذات الطّابع النّاريّ، وذلك الشّعر الغجريّ المتمرّد، والعيون القاسية الجريئة، تلك الحبيبة بكلّ عفويّتها وقسوتها، وبكلّ الجرأة التي تحملها تتجلّى في عالمه ما بين الحقيقة والمجاز، وما بين الطّبيعة والأنوثة الصّاخبة الحيّة النّابضة.
ونجده في فقرة أخرى يقول: “على يدي حجرٌ قاسٍ يصيرُ إلى
عبيرِ سوسنةٍ.. لو زارَ مخدَعَها
على شفاهي رمادٌ شعَّ.. في جسدي
ماءٌ يعلِّمُ موسيقايَ أضلعَها
تقولُ آخرَ هذا اليومِ: خُذ بيدي
من أوَّلِ الرعشةِ الصغرى لأسمعَها
كأنَّ روحيَ في الكونينِ ما لمستْ
سرَّاً بأصبعها إلاَّ ليوجعَها
تحتاجُ قلباً سلوقيَّاً لتتبعَهُ
حتى سماءِ الأغاني لا ليتبعَها
أقسمتُ باللهِ لو جُرِّدتُ من شبَقي
لصرتُ خيطَ هباءٍ ذائبٍ معَها
لو دمعةٌ هيَ في آجرِّ قرطبةٍ
لأحرقتْ قلبَ من في الأمسِ ضيَّعَها
ما من وصولٍ حقيقيٍّ أو امرأةٍ
تعطي لأبعدَ حزنٍ فيَّ أذرعَها”
هنا أيضا نراه يصف عوالم عشقه وفلسفته للعشق، وهو يدمج هنا ما بين أنثاه وبين حضارة بائدة في قرطبة، فهو حجر في تلك الحضارة، هو جزء لا يتجزّأ من معالمها، يتوه بها، ويرث منها الوجع، حيث يبكي حرقة على ضياعها، وعلى شرفه المسفوك إذ يحتلّها الغريب، ويعجز هو عن وصلها، صورة قويّة جدّا، نراه بها قد وصف حالة عشق وشبق لا متناهية، لحبيبة مغتصبة، حيث الحضارة والأنثى وجهان لجسد واحد، وحيث هو كعاشق يتّحد بهما، ويتماهى معهما.
“غرِّري بي كالحياةِ وكالقصيدةِ ما دمتُ واجهتكِ بطيبةِ قلبي وبوردةِ صراحتي البيضاء.. لم أكن أعرف أنكِ بحاجةٍ إلى قدرٍ غيرِ قليلٍ من المكرِ والمراوغة والحيلة..
سأغتابكِ بقلبي بعفويَّةِ المسافرِ الضجر وعصبيَّةِ الشعراءِ المزاجيِّين.. فماذا يفعلُ شاعرٌ بطيبةِ قلبهِ في هذا الزمنِ الوغد؟ يأخذها إلى بيتهِ أو إلى الركنِ القصيِّ في مقهىً أو معبدٍ ويحضنها طوالَ الليلِ؟”
هو هنا يحادث تلك الحبيبة، وهو يزجّ بها زجّا في ثنايا المجاز، حيث الحبيبة كالحياة وكالقصيدة، وحيث قلبه وردة بيضاء، وهي ماكرة تعرف كيف تثير أشجانه وأوجاعه، لتفترس قلبه وحواسّه. ولكنّه هنا أيضا لا يستطيع أن يحياها إلّا في مجازه، حيث ركن المقهى القصيّ في اللّيل أثناء أحلامه.
ونراه يستطرد في فقرة أخرى قائلا: “كانَ لزاماً على القلبِ أن يعتذرْ
لسيِّدةٍ زوَّجتْ غيمةً لينابيعها
ولهاويةٍ شبهِ بحريَّةٍ
ولرملِ المتاهةِ أو للمعلَّقةِ العاشرةْ
وكان لزاماً عَليْ
أن أتمَّ القصيدةَ في آخرِ الصُبحِ
أو أقرأ البحثَ عن سرِّ رائحةِ الجسدِ الأنثويِّ
وتأثيرِ دورتهِ القمريَّةِ ليلاً على العطرِ
أو حينَ يشربهُ القلبُ في جرعةٍ من ظمأْ
كان يجدرُ بي أن ألمِّعَ معنى الصدأْ
بماءِ المجازِ وبالرعويَّاتِ أو بدمِ العاشقةْ
ولكنني دون جدوى أكافحُ انفلونزا الزهورْ
منذُ شهرٍ ونصفٍ..
وحُبَّ حزيرانَ أحلى الشهورْ”
هنا نراه يُزاوج ما بين تلك الأنثى وما بين الطّبيعة، حيث المرأة قامت بتزويج غيمة لينابيعها، فالمرأة هنا تماما كالأرض لها تضاريس ومعالم، ولها سماء وينابيع، تقوم بمزاوجة هذه المعالم، وهو يدمج معالم البحر والرّمل هنا أيضا، ليستحضر الطّبيعة بكلّ معالمها النّاعمة والمتوحّشة. كما نراه يزجّ بها في المجاز، حيث نجدها في ثنايا المعلّقة، بين الأبيات، وفي القصيدة التي يكملها، حين يتنسّم روائح أنوثتها، التي يربطها بالقمر ودورته، ويصرّ أن ينهي الأجواء بالدّم والوجع والمرض، وبأجواء الحداء والرّعويّات، حيث تداخل الألم والصّبر والعناية، والاهتمام معًا. صورة تنبض بالحياة، بالغرابة والفرادة، بالصّدق والنّقاء، وبالرّغبة الدّفينة بالحياة والعشق.
وفي فقرة أخرى من النصّ نجده يقول: “لسعةُ السخريةْ
تتحرَّشُ بي وتقودُ دمي
في مهبِّ الفراشةِ أو في قطارِ المساءِ
إلى عبثٍ نزِقٍ قد يؤدِّي أخيراً إلى التوريةْ”
هنا أيضا نجد الرّبط ما بين المجاز والتّورية، وما بين الطّبيعة والأنوثة، وحيث الوجع يتجسّد بالسّخرية وبتحرّشها به وبدمه، وحيث أنثاه كالفراشة تطير في المساء.
ونجده يقول في فقرة أخرى: “شكرا إلهي على كلِّ نورسِ ماءٍ
لهذا النهارِ الجميلْ
مسَّ قلبي وطارَ بغيرِ احتراقٍ..
وشكرا إلهي على كلِّ شيءٍ
خصوصاً على وردةِ اليأسِ
حينَ تشقُّ بأشواكها القلبَ
شكراً على ندمٍ من دمٍ
وعلى صخرةٍ تنهشُ الصدرَ
في شمسِ مكَّةَ
شكراً على المستحيلْ”
وهنا أيضا نجد العديد من اللّوحات التي تربط ما بين عشق الأنثى والطّبيعة، وما بين الوجع والمجاز، حيث النّورس يمسّ القلب دون احتراق، ووردة اليأس وأشواكها التي تجرح القلب، والصّخرة التي تنهش الصّدر، والمستحيل في مكّة، حيث العشق للمعالم في المدينة المقدّسة بكلّ معالم طهرها، وصعوبة نيلها على يد عُشّاقها.
ونراه في فقرة أخرى يخاطب مأمون القانونيّ قائلا: “عزيزي يا ديكَ الجنِّ
دواءُ كآبتكِ الشهريَّةِ
صومُكَ عن شفتَينِ من التوتِ المعقودْ
عن جسدٍ تعصرُهُ شهوتُكَ السوداءُ
كعنقودِ العنبِ الحِصرِمْ
وصياحُكِ في الفجرِ المشهودْ:
يا حوريَّةَ قلبي.. يا وردةَ أعضائي.. يا وردُ..
الماءُ تيبَّسَ في جسدي
مذْ صامَ دمي عن تمرِكِ
منذُ تكسَّرَ آجرُّ الرغبةِ في صدري..
يا ديكَ الجنِّ
تأمَّلْ وردتكَ البيضاءَ
تأمَّلْ غيمةَ عانتها في أوجِ الصيفِ
تأمَّلْ وردَ وضوءَ محارتها الزرقاءِ وطرْ
عن جرحٍ جمالٍ يتوَّجعُ أو عن ثغرٍ يفتَّرْ
يا ديكَ الجنِّ كسَرتَ بأفعالكَ ظهري
ومزجتَ رمادَ أنوثةِ من أحببتَ
بخمرِ الشِعرِ..
ألا تندمْ؟”
وهنا نرى صورة جليّة لمعالم ندمه، حيث يعكس فلسفة عشقه على تجربة الشّاعر، ويربط ما بين الأنثى والطّبيعة والمجاز والوجع، ونراه يلوم الشّاعر على انتهاك معالم تلك الأنثى بوحشيّته، حيث يقول له أنّه قام بإحراق تلك الأنثى إذ تجرّع معالم الجسد، وأنّه بذلك كسر ظهره، فهو يخشى على أنثاه من وحشيّة شبقه، ولا يريدها إلّا في مجازه، خوفًا منه على معالم ذاك الجسد من التّلف والأذى.
“هيَ لم تقلْ شيئاً
أنا أيضاً نسيتُ ولم أقلْ شيئاً
ولكني بكيتُ بغيرِ ما سببٍ
شعرتُ بوخزةٍ في القلبِ
أو وجعٍ خفيفٍ في المفاصلِ..
ثمَّ قامتْ في رؤايَ
فناولتني شهدَها بالزنجبيلِ
وبالبنفسجِ في العيونِ
وألقمتني زهرةً بريَّةً
ثمَّ اختفتْ
فشربتُ من كأسي على مضَضٍ
ونمتُ على ثرى وجعِ
البنفسجِ في العيونْ”
وهنا نرى ذلك الحوار الذي يجري بينه وبينها في عالم مجازه دونما كلمات، فهو يحادثها بعينيه، وهي تخزه وتوجعه، وتهبه من حناياها الشّهد والزّنجبيل اللّاذع في آن واحد، والبنفسج والزّهر البريّ المتوحّش في آن، وهو ينام على أوجاعه ويشرب على مضض. صورة عميقة لأوجاع الحبّ والعشق، ولما تخلّفه تباريحه في النّفس، وللدّمج الحيّ النّابض ما بين الأنثى والطّبيعة.
ونراه في فقرة أخرى يستطرد قائلا: “كم الساعةُ الآنَ يا ذئبُ؟
قلبُكَ مُنتَهكٌ
واشتهاؤكَ في كلِّ أرضٍ مشاعُ..
تأجَّلَ موتُكَ كُرمى لسيَّدةٍ
في المزاميرِ تلهو وتلعبُ..
وانفرطَ الخرزُ الدائريُّ بأسفلِ ظهركَ..
يسهرُ إيقاعُ عينيكَ في الصخرةِ الساحليَّةِ
يرثيكَ ليلٌ مُضاعُ
سوفَ تقضمُ تفاحةَ الشهوةِ الآدميَّةِ
يوماً بكلتي يديكَ
وتشربُ نهرَ الجمالِ بأكملهِ
وهو يشطرُ صحراءَ روحكَ ظُهراً
إلى كوكبَيْ عطشٍ نادمينِ
ولن ترتوي أبداً…
لن يقودَ دماءكَ حتى النهايةِ
إلاَّ جنى الشجرِ المشتهى
وستخرجُ منكَ شعوبٌ جياعُ”
وهو هنا يصف شبق وشهوة الرّجل بذئب مفترس، فهو يمقت ذلك الجانب الفضّ من رجولته، وهو يصف تعامله مع الجسد بأوصاف قاسية جدّا، هذا التّعامل الذي يورث روحه التّعب والإرهاق، والعطش، والجوع، تعامله مع تلك الأنثى الصّارخة، بكلّ معالم الطّبيعة وتضاريس جسدها يتعبه ويرهقه حتّى بين سطوره، لأنّه بذلك يجرح وردها، ويخدش نعومة معالمها.
ونجده يقول في فقرة أخرى: “لن يكفي الشاعرَ عمرٌ واحدْ
قد يحتاجُ إلى حيواتٍ أخرى
كي يتسكَّعَ في بلدانِ رواياتِ الحُبِّ
ويكتبَ مرثيَّةْ
لحبيبتهِ الأولى المنسيَّةْ
ويبحثَ عن فمها في الفجرِ البحريِّ
وفي أبعدِ كوكبْ
يحتاجُ الشاعرُ ألفَ حياةٍ
كي يركضَ خلفَ امرأةٍ واحدةٍ
في كلِّ نساءِ الأرضِ
ولا يتعبْ”
هنا أيضا نجده يزجّ بأنثاه في عوالم مجازه، حيث الحياة الأخرى التي يحتاجها كشاعر بين سطوره، وحيث معالم الطّبيعة في جسدها الأنثويّ الصّارخ بالحياة، وحيث الوجع وركضه خلف تلك الأنثى دون كلل أو ملل.
ونجده في فقرة أخرى يُشير مرّة أخرى لقصّة سيّدنا يوسف وزليخة التي شُغفت به، والتي استدرجته ليقع في الخطيئة قائلا: “تركتُ ورائي منكِ ألفَ زليخةٍ
لقَدِّ قميصٍ خيطَ من شَهوةٍ ودمْ
وجئتُ كأنكيدو لبابكِ حاملاً
حدائقَ قلبي.. قاضماً وردةَ الندَمْ
مُري نشوةً في الضلعِ حتى تقودني
إذا ثمرُ التفَّاحِ قادَ إلى الألمْ”
وهنا نراه يدمج ما بين تلك القصّة من القرآن وما ترمز له من قوّة العشق وعنفه، وبين الأساطير والآلهة، حيث أنكيدو وندمه، هذا التّوظيف للرّموز التّاريخيّة والدّينيّة إنّما هو تعميق لوقع وأثر فلسفة العشق في النّفوس، وخاصّة في جوّه المجازيّ الذي لا يُريد له أن يخلو من الوجع.
ونراه في فقرة أخرى يخاطب أنثاه قائلا: “حُطِّي كزهرةِ صُبَّارٍ على عُنقي
وأطلقي فرَساً.. جسمي لها عرَبهْ
كلُّ البحيراتِ نامتْ في السرابِ.. وذا
سِفرُ الأناشيدِ قد أغفى على الكنَبهْ
عليكِ لن يقصصَ الرؤيا سوايَ.. فلا
تُصدِّقي لغوَ أفلاطونَ أو كَذِبَهْ”
هنا نراه يعود لوصف الأنثى بزهرة الصّبار التي تلسع بأشواكها القلب وتوجعه، وهو يدمج أجواء تلك الأنثى بالسّراب لكي يشدّد على جانب الوجع في عشقه لها، وهو هنا يكفر بأفلاطون وبمدينته الفاضلة، فالفضيلة أبعد ما تكون عن شبق يسري في دمه، لأنثى تعيش بمجازه لتورثه وجع وتباريح عشقها.
ونراه في فقرة أخرى يقول: “البلادُ التي كنتُ أحببتُها
تُشبهُ امرأةً طيَّرتْ في القطارِ
لعينَيْ فتىً ليسَ تعرفهُ
شوكَ قُبلتها الذابلة
آه من فتنة لا تقالُ
ومن نزوةٍ في دمي قاحلةْ”
وهنا أيضا نجد الدّمج بين البلاد والأنثى، وبين السّفر وأوجاعه وذات الأنثى التي تورثه الوجع، وتلك القبلة التي تخز بشوكها القلب، تلك الأنثى التي تورث دمه القحل والجفاف، لا لشيء إلّا لكونه لن يستطيع وصلها على غير سطوره.
ونجده في فقرة أخرى يقول لها: “ظلُّ عطركِ يرسمُ لي ما يشاءُ
بمكرِ ثعالبَ حمراءَ تسكرُ في كرمةٍ
يترصَّدني ويدبِّرُ لي..
ليسَ عطراً تماماً
ولكنه محضُ ضوءٍ غريبٍ
لهُ ظلُّ بحرٍ وليمونةٍ
لا يُرى.. ويُرى..
لا يُمسُّ وتلمسُهُ الحاسةُّ الواضحةْ
أسميِّهِ…
لا أعرفُ الآنَ ما هوَ هذا الغموضُ
الذي يتفتَّقُ عن شهوةٍ
كلَّما عضَّتْ القلبَ عصفورةُ الرغبةِ الجارحةْ
لن أعوِّلَ بعدَكِ إلا على جسدِ الرائحةْ”
هنا أيضا نجده يجسّد المعاناة والوجع في تجربة العشق المجازيّ التي يعيشها في قصيدته وعلى سطره. والغموض الذي يكتنف تلك التّجربة الغريبة من العشق، والوجع الرّهيب الذي تورثه إيّاه تلك التّجربة، بكلّ معالم الحرمان التي تكتنفها.
وفي نصّ آخر بعنوان: “جيتارةُ حنينٍ أزرق VI” نجده يقول:
“إلامَ سأقضمُ وردةَ صلصالها
وتفَّاحَها الساحليَّ الأنيقْ
وأحمي غبارَ الندى من يديها
وأنشقُ نرجسَها الآدميَّ..
إلامَ بلهفةِ خلخالها
أنادي الملائكةَ الطيِّبينَ
وأغمدُ أحجارَها في العروقِ
وأنهارَها في النهارِ / الحريقْ؟”
هنا نراه ما بين طينها وبين تكوينها الرّقيق كوردة يترجم تجربة عشقه لأنثاها، فهو ينشق نرجسها الآدميّ، وهنا صورة صاخبة لعشق المكنون، هو يعشقها كطين كأرض كوطن، كانتماء، على أرض قصيدة يضوغ تفاصيلها بأحلامه وذهنه، واقعا افتراضيّا محضًا، لا يُريد المساس به بطينه، لكيلا يفسد قدسيّة تلك التّفاصيل، حيث يُنادي الملائكة، وحيث أحجارها منغمسة في عروقه ودمه، وحيث يشتعل بأنهارها. تلك المسحة من القداسة لروح الأنثى إنّما تدلّ على نقاء تلك العاطفة، فهو يريدها فقط مجازا في سطر، لا يريد المساس بها أبدا، لكي لا يهدم مسحة القداسة التي يكسوها بها.
ثمّ في مقطع آخر نجده يقول: “عندما أرجعُ لبيتي في مساءٍ
مُثقلٍ بشَعركِ القمحيِّ
لن يكونَ ثمَّةَ برابرةٌ في انتظاري
لن أجدَ سوى يدكِ لتسندَ وجهي
الضائعَ في المدنِ والنساءِ والقصائدِ
كما تسندُ صوَّانةُ الوادي الأقحوانةَ
وكما تسندُ قطرةُ ماءٍ في صحراءَ ملتهبةٍ
منقارَ عصفورٍ متشرِّدٍ ينقرُ يدَ قلبي”
هو هنا يعود لربط الوجع بالحبّ، وبالمجاز المحض، حيث الأنثى تسير فوق سطوره، وحيث هي منغمسة في الطّبيعة بكلّ تفاصيلها، حيث قطرة الماء في الصّحراء، والأقحوانة التي تنمو في صوّان الوادي، وحيث عالم القصائد بكلّ مجازه واستعاراته، وحيث البرابرة بكلّ قسوة عيشهم يخرجون إليه من تفاصيل تلك الأنثى، مجاز يجتثّ واقعا فوق سطوره، ليخلق واقعا ذهنيّا مغايرا للعشق النقيّ فوق سطر لا يعرف الانحدار لعمق طينه، ولا يعي الشّبق المزروع في إنسانه حيال تلك الأنثى المجازيّة التّفاصيل.
فهو يقول عنها: “هيَ أختُ القصيدةِ
رميةُ نردٍ طقوسيَّةٌ
وانتظارُ الذي لا يجيءْ
صوتُها يثقبُ القلبَ..
أوتارُها النرجسيَّةُ ترتقُهُ
بهواءٍ يئنُّ..
ونثرٍ يضيءْ”
تلك الأنثى المجازيّة البحتة، تسكن السّطر والمجاز حيث تنتمي، وتمارس طقوسها فوقه، تنتظر ما لن يأتي أبدًا، وحيث لن يأتيه منها غير الوجع، عندما تثقب قلبه بصوتها، لكنّها أيضا ترتق ذلك القلب بمجازها، فهي كما ثقبته بصوتها ستعيد هيكلة نبضه بنثرها وشعرها.
ونجده في فقرة أخرى يقول: “أطعمتُ قلبي لاشتهائكِ
مثلما تُلقينَ قُبلتَكِ الأخيرةَ
للذئابِ الضارياتِ وللقصائدِ
لا مباليَةً.. كأنكِ شهرزادُ
بجيدها الذهبيِّ
والوجهِ الذي لسعَ الدماءَ بفتنةٍ تبكي
وبالشَعرِ الذي تركتهُ أقمارُ السوادِ
على سجيَّتهِ أمامَ فمي المراهقِ..
كنتِ تندلعينَ في عينيَّ
أو لغتي الصغيرةِ كالندى
لا شهريارُ ينالُ طيفَكِ في المرايا الخُضرِ
أو يرقى لكَرمكِ كي يودِّعهُ على عجَلٍ
ويغرسَ ظفرَهُ في الريحِ..
نامَ رذاذُ صيفكِ في أصابعهِ التي احترقتْ من الحرمانِ
والقلَقُ الوجوديُّ استوى في جسمهِ
شجراً من الصَوَّانِ تسرحُ فيهِ غربانُ الرمادْ
يستلُّ منكِ الرمزَ والمعنى
بلمسةِ خصركِ المُضنى
بحنَّاءِ الندامةِ والبروقِ
وتنحني أحلى زنابقهِ على سيفِ القتادْ”
هنا أيضا نجده ينسج واقعا مغايرا ما بين المجاز والطّبيعة والوجع لتلك الأنثى الاستثنائيّة التّفاصيل، حيث نجد شراسة تلك الأنثى تنبثق من بين تفاصيلها، فهي تعيش في القصيدة بكامل تفاصيل شهوتها واتّقادها كما شهرزاد تؤجّل موتها بالحكاية، وما بين لسع الدّماء، وعواء الذّئاب في تلك الدّماء، وما بين شعرها المستفزّ الثّائر الوحشيّ، وليل عينيها السّوداوين، يتشتّت فمه المراهق، بكلّ النّزق الذي يحتويه وبكلّ التمرّد في دمه وقلبه، هو يعيشها بكلّيته، بعينيه وفمه وقلبه ودمه واقعا مجازيّا يزرع فيه الوجع، وهو يدمج صورا حيّة للوجع يوظّف بها عناصر الطّبيعة بأسلوب ولا أروع، ليجسّد الوجع الذي يورثه إيّاه ذلك العشق المجازيّ الفريد فوق سطوره، وفي أحضان قصائده.
وفي نصّ آخر بعنوان: “سِفرُ المراثي VII”
نجده يقول: “طوفي بجمرةِ قلبي وانثري جَسَدي
على المياهِ.. وبيعي الحُبَّ في السوقِ
أنا رجيمُكِ.. منكِ الوردُ في عُنقي
شوكٌ ونارٌ وأظفارٌ لتمزيقي
لا أنتِ أكثرُ من ليلى ولستُ أنا
أقلَّ من شاعرٍ يبكي على النوقِ
لكي أحبَّكِ أحتاجُ الصراخَ على
حزني.. وهاويةً أنثى لتحديقي
لكي أرى دمَكِ النثريَّ يلزمني
دمٌ من الوجَعِ الشعريِّ موسيقي”
فهو هنا أيضا يصف واقعا مجازيّا مُثخنا بالوجع، حيث تنثر جسده، وحيث هو رجيمها، وحيث الشّوك والنّار والأظفار، وحيث هي ليلى وهو شاعر يركب النّاقة ويحدو حبّها، وحيث يشبّهها بالهاوية وحيث يجدها في واقعه المجازيّ الشعريّ الذي يتناسب وصورها النّثريّة التي تُثخنه بالأوجاع، النّثر هنا ينسجم ونثرها له وبعثرتها له بأوجاعها.
ونراه في فقرة أخرى يستطرد قائلا: “ليلي الخريفيُّ موشومٌ على يدها
شمساً تغنِّي.. وأشجاراً من التعَبِ
هل كنتَ وحدكَ يا قلبي على شفةٍ
من الرياحِ.. ومصلوباً على الخشَبِ؟
تسري الفراشةُ كالأفعى وأنتَ كمنْ
يضمُّ زهرةَ عينِ الحُبِّ بالهُدُبِ
بخفقةٍ في دمِ الصلصالِ موجعةٍ
وحاسَّةٍ تمزجُ الأحلامَ بالغضَبِ
لا أنتَ أنتَ.. ولا هذا الخريفُ.. ولا
خمرُ الحقيقةِ من كرمي ومن عِنَبي”
هنا أيضا نجده يحوك من المجاز واقعا مغايرًا للحبّ المثخن بالوجع، والذي يزرع الحبيبة في ثنايا الطّبيعة، لتعميق صور الوجع والألم، حيث ليل خريفه موشوم على يدها، وهي هنا صورة عميقة جدّا للوجع، فالخريف يرمز للنّهايات، والوشم رمز الوجع والكيّ، وحيث الشّمس بكلّ نيرانها تغنّي، وحيث نجد قلبه مصلوبا كالمسيح على الخشب، ونجده مبعثرا في الرّيح، وحيث النّبضات في دم الطّين والصّلصال، وهنا نجده يرمز لآدميّة تلك الأنثى، تلك التي تمتزج بها الأحلام بالغضب، كما أنّ كرمة قلبه تعصر عناقيدها، وهذا إنّما تصوير صارخ للوجع الذي تسبّبه له تلك الحبيبة بعشقها.
وفي نصّ آخر بعنوان: ايماءاتُ خريفِ المعنى VIII”
نجده يقول: “لا أريدُ الكلامَ ولا الصمتَ
فيدُكِ التي أغلقتْ على يدي كزهرةِ لوتسٍ متوحشَّةٍ
أصبحتْ عصفورةً حجريَّةً في الحديقةِ العامَّةِ
وخصرُكُ المصقولُ كقمرٍ وحيدٍ
منذُ البارحةِ وأنا أسمعهُ يبكي من بعيدٍ كطفلٍ
فيصيبني بندَمٍ عظيمٍ على قصائدَ لم أكتبها
أو مزقتُها وبذرتها حولَ بيتي
لتنبتَ كالحشائشِ البريَّةِ في نيسانَ
أو لأنني لم أبُسْ في زيارتي القصيرةِ
كلَّ حجرٍ أو وردةٍ مهملةٍ في الطريقِ إليكِ
لا أريدُ شيئاً
أريدُ فقط أن أعرفَ معنى الزرقةِ”
وهنا أيضا نجد صورة صارخة للوجع والوحشيّة، حيث يدها التي يشبّهها بزهرة اللّوتس تُطبق على يده بشدّة لتحيلها إلى عصفورة حجريّة في الحديقة العامّة، وهنا نجده يلجأ للرّموز الأسطوريّة والخرافات، حيث السّحر واللّعنات، وحيث خصرها الذي يشبه القمر في السّماء يبكي كطفل ليوجع قلبه وليثير ندمه على قصائد لم يقم بكتابتها بعد، وهنا نجد ربطا صارخا بين الطّبيعة والعشق والوجع، ونراه يندمج في الطّبيعة في طريقه إليها، حيث يقبّل المعالم، وينصهر في الطّبيعة في طريقه.
ونجده في فقرة أخرى يقول: “لم يعرفوا ماذا أريدُ وأشتهي
من كُحلِ عنقائي
ومن أسرارِ تفَّاحِ الغوايةِ
فالضلالُ يقودني نحوَ البحيرةِ
مثلَ أعمى النايِ…
ما انتبهوا إلى أني مصابٌ
بالجناسِ وبالعتابا الساحليَّةِ
والرنينِ الأنثويِّ..
تأمَّلوا فيما وراءَ النصِّ من أبديَّةٍ عذراءَ
أو بجعٍ خرافيٍّ
يحطُّ على رمادِ الماءِ..
لم يتحمَّلوا عفويَّتي
بخطابِ قُبَّرةٍ.. وماتوا واقفينْ”
وهنا نجده أيضا يوظّف الرّموز والخرافات حيث العنقاء التي تُبعث من الرّماد، وحيث تُفّاح الغواية، يبعث الألم في روحه المتعبة، وحيث هو ضالّ كالأعمى الذي يعزف النّاي، وحيث هو مصاب بالجناس والعتابا والمجاز، وحيث رنين الأنثى يعيش به، وحيث البجع والقبّرات ترمز لروحه المثخنة بالعشق والوجع، فعفويّته في وصف العشق هنا لم يحتملها من حوله، لا لشيء سوى لكونهم لم يحتملوا محتواها من الوجع والانصهار في تجربة العشق المؤلمة التي أرهقته.
وفي نصّ آخر بعنوان: “أبجديَّةُ العشق” نجده يقول:
“في البدء كانت أبجديَّةُ عاشقٍ منحوتةً في الصخرِ والبرديِّ، كانَ تأخُّرُ امرأةٍ عن البستانِ أو وعدِ الحبيبِ يشتِّتُ المعنى ويربكُ طائرَ الدوريِّ، ما هذا الذي في الكأسِ؟ ما صلتي بأفلاطونَ أو سقراطَ؟ هذا اليومَ عشبٌ في الرخامِ استوقفَ المتراكضينَ إلى النهايةِ، قطَّةٌ ترنو إليَّ، وشاعرٌ يهذي، وساعٍ للبريدِ يعيدُ للصندوقِ زفرتهُ ويشردُ، لن أدورَ على مسلَّاتِ المساءِ ولن أعودَ إلى سدومَ لكي أرى تمثالَ ملحِ خيانةٍ أُخرى وكيفَ يخلِّدُ الحبَّ الجحود.”
وهنا نجد النّحت يربط بين أنثاه والوجع، وهو يربطها بالرّمز والأساطير وقصص الفلسفة حين يذكر أفلاطون وسقراط، وكذلك نراه يربطها بالرّخام الذي يتعلّق بالنّحت أيضا، وهذيان الشّاعر ومجازه، وملح الخيانة والجحود، جميعها صور تعمّق الوجع وترسم معالم قاسية لقصّة عشقه المجازيّ.
وفي نصّ آخر بعنوان: “الحُبُّ خبطُ خطىً” نجده أيضا يجسّد فلسفته للحبّ بشكل صارخ:
“الحبُّ خبطُ خُطىً على وجهِ البحيرةِ، نقرةٌ أو نقرتانِ على الزجاجِ، ظهيرةٌ ورديَّةٌ، وقصيدةٌ في الصبحِ، نحلٌ في الأصابعِ والضلوعِ، ولعنةٌ أبديَّةٌ تأتي على كبَرٍ، وسبتٌ هادئٌ أو ممطرٌ، أو ربَّما لا شيءَ، محضُ فقاعةٍ بيضاءَ صابونيَّةٍ، أو رقصةٌ ليليَّةٌ في البارِ، أو شمعٌ يضيءُ الكهرمانَ وعتمةَ الـتأويلِ لامرأةٍ على بوليوودَ تخرجُ من ستائرِ شهوةٍ مثلَ الفراشةِ، أو تُعيدَ الماءَ للمرآةِ والزبدَ المنافقَ للرمادِ وللمَحارةِ، ناوليني خيطَ قلبكِ يا ابنةَ العنقاءِ يا امرأةً على بوليوودَ أو طرفَ العبارةِ، واحمليني فوق أمواجِ الضفائرِ والنداءِ العذبِ في نهرِ المرايا.”
نجده هنا يربط بين المجاز والوجع والعشق، وهو يرسّخ المعنى من خلال توظيف الرّموز في صوره، حيث السّير على وجه البحيرة كمسيح عشق، وحيث الأطراف تنطق، وحيث ترتبط الأمور بالمجاز والقصيدة، وحيث الأزيز والارتعاشات والنّحل أي رمز لزلزال داخليّ، وحيث الرّمز للبعث من الرّماد بذكر العنقاء، وحيث نساء بوليود وقصص العشق الجارفة.
وفي الختام يمكننا تلخيص فلسفة الشّاعر للحبّ بكونه يعيش الحبّ حُبّا عُذريّا مجازيّا على السّطر وفي القصيدة، هو يريده حُبّا استثنائيّا، ويربط بين جسد محبوبته وبين الطّبيعة، ويربط بين تجربة الحبّ والعشق وبين الوجع، فالحبّ يؤثّر به بشكل صارخ، وهو حالة استثنائيّة خاصّة لا تشبهها حالة أخرى، يرسّخ أوجاعها برموز لخرافات وقصص دينيّة وتاريخيّة لها أثر عميق بالنّفس، ترسّخ الوجع والعذاب، كقصّة النبيّ يوسف والمسيح والخرافات والأساطير والآلهة، والتي تتناول العشق كقصّة معاناة وألم وتعذيب. هو يرى في العشق رسالة، ويجد في جسد الحبيبة منطقة محظورة محرّمة، لا يمكنه لمسها إلّا في خياله، وفوق سطوره مجازا.
ديوان ثريّ وتصوير موغل في العُمق، وتوظيف رائع للرّمز، وثقافة عالية لدى الشّاعر، وتأثّر عميق بالفكر وبخلاصة تجارب وفلسفات لشعراء ولفلاسفة مختلفين من الحضارة الغربيّة.