اليوميات هي الجنس الأدبي الوحيد، ربما، الذي يمنح المرء فرصة أن ينزع قناعه. أن يصفّي حسابه مع نفسه ومع الآخرين. أن يكون ذاته الحقيقية وأن يتبين موضعه في العالم بينهم. أن يقشّر بلاغة اللغة كي يُخرج لبابها إلى النور حيث تنعكس صورة الذات وصور من يحيطون بها في مرآة الوجود. واليوميات هي صوت الحاضر الأبدي، ترجمة اليومي الحميمي الحار إلى نصوص، اعتقال التاريخ في اللحظة الراهنة حيث يحضر الفرد وتحضر الجماعة وتتكشف خريطة العلاقات بأسرارها والتواءات مساراتها ومصائرها. وفي يوميات أناييس نن مدونات لافتة ومراجعات صريحة لحقيقة علاقاتها مع من ارتبطت بهم علانية من المشاهير في باريس الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. هناك، في تلك الفاصلة المتوهجة والمتوترة من الزمن كانت الثقافة تختلط بالسياسة والإيديولوجيات وبنذر الحرب واندلاعها، وبقضايا الجنس والجندر وتحرير المرأة والتمرد والعدمية والثورات الاجتماعية وغيرها. وكانت التيارات والصرعات والجماعات تتكون وتنحل متداخلة ومتعاقبة.
كانت أناييس محظوظة بصداقاتها مع مبدعي عصرها، لاسيما مع هنري ميللر. غير أنها لم تكسب الشهرة والمجد بسبب تلك الصداقات.. كانت تمتلك شخصيتها الإبداعية الفذة. تمتلك تلك الطاقة الداخلية الفوّارة التي تجعلها تنجز ما سيبقى في ذاكرة الأدب وتاريخه.
تقدّم مخطوطة كتابها عن د. هـ. لورنس لمستشارها القانوني ريتشارد أوزبورن والذي يعرضها بدوره على صديقه هنري ميللر.. يذهل ميللر بأسلوب الكتاب ويقول؛ “لم يسبق لي أن قرأت مثل هذه الحقائق الراسخة معبّراً عنها بمثل هذه الرقّة”. فيما تقرأ هي مقالة لميللر عن فيلم ( العصر الذهبي ) للمخرج الأسباني لويس بانويل فتلمس فيها كما تكتب في يومياتها: “نزعة بدائية ومادة جافية متوحشة تناقض كل ما قرأته لسواه من الكتّاب”. كان ذلك في شتاء العام 1931 ـ 1932 حيث يقوم أوزبورن بترتيب لقاء عشاء قدَرَي بينهما.. حين تراه للمرة الأولى سائراً نحوها وهي واقفة عند الباب تغمض عينيها كي تراه بعينها الداخلية. ونظراً لقدرتها اللمّاحة البارعة في وصف الشخصيات الحقيقية والخيالية فإنها تلخِّص انطباعها الأول عن ميللر بهذه الكلمات؛ “بدا مثل راهب بوذي، راهب له بشرة وردية بصلعته الصغيرة المحاطة بشعر فضي لامع وفمه الشهواني الممتلئ.. عيناه الزرقاوان كانتا باردتين ويقظتين لكن فمه كان عاطفياً وعرضة للغواية.. ضحكته معدية وصوته لطيف حميم كاصوات الزنوج..”.
كان هنري دائم العوز للنقود.. ويجد دوماً من يمد له يد العون.. زوجته جون ترسل له، عبر البحار، بعض ما تحصل عليه.. يقول “لقد بقيتْ في نيويورك لتكسب النقود لرحلتي.. لا تسألوني من أين تأتي جون بالنقود”!. ولم تبخل أناييس في إعطائه ما يحتاج إليه، وبحسب قدرتها المالية التي لم تكن هي الأخرى كبيرة: “هنري يلوذ الآن بغرفتي في الفندق وقد تركت له خمس فرنكات على المنضدة”.
كان هنري يعيش حياة بوهيمية مفتوحة، ووقعت هي بحبه. “كان يريد كل شيء.. إنه يكاد يكون صعلوكاً، ينام أينما اتفق، في بيت صديق، في محطة قطار أو غرفة انتظار، على مصطبة في دار للسينما ، في منتزه. إنه لا يملك ثياباً وما يرتديه ليس له..”. كانت أناييس مؤمنة بموهبته وتعرف أنها متورطة في غمار صداقة فائقة الحميمية مع واحد من أبرز كتّاب الجيل.. ولروح الإيثار التي تتحلى بها تنازلت له عن آلة الطابعة خاصتها، وراحت تطهو له أطباقاً فاخرة لشغفه بالطعام: “أريد أن أمنحه بيتاً ودخلاً وضماناً ليستطيع الكتابة”. ومن يقرأ كتب ميللر، تلك التي حشّدها، غالباً، بتجاربه وذكرياته، سيعلم كم كان هذا الرجل الاستثنائي محظوظاً مع النساء.
ستتخذ علاقة أناييس مع زوجة هنري ( جون ) عندما تلتقيه فيما بعد شكلاً معقداً غامضاً حتى أن هنري نفسه سيرتاب بالأمر ويعتقد أن جون أغوت أناييس.. وهي أيضاً ستعترف بأنها كانت واقعة في فخ جمال جون وموهبة هنري في آن معاً.. “هنري يمنحني عالم الكتابة.. جون تقدّم لي المخاطرة.. كان ينبغي أن أختار بينهما.. لكنني فشلت..”. ولعلها فهمت جون أكثر مما فهمها هنري. وكانت تعرف عن جون أكثر مما يعرف هو. ولطالما سألها في رسائل عديدة عمّا تحتفظ به في قلبها من أسرار تلك الزوجة الجامحة المتقلبة المزاج..
ترد أناييس: “هل سيجديك نفعاً لو علمت أن ( جون ) امرأة سحاقية أو مدمنة مخدرات أو عصابية أو أن لها عشاقاً لا يحصون”. يقودها إصرار هنري إلى تفسير فتنته بمارسيل بروست. لكنها تظل لا تفهم رغبة بروست “في أن يعرف ويكون حاضراً عندما تقع ألبرتين/ إحدى شخصيات ( البحث عن الزمن الضائع )، في غرام شخص آخر..”!.
علاقة أناييس نن مع المسرحي أنطونين آرتو كانت من نوع آخر، تقف على الطرف النقيض من علاقتها مع هنري ميللر.. آرتو كان شخصاً مختلفاً تماماً. وقد أحبت أناييس فيه الشاعر وليس الرجل.. أناييس المغرمة بالمتع الحسّية وغوايات الجسد لم تجد في آرتو شريكاً مؤهلاً للعشق. وقد وصفته بهذه الكلمات: “كان… نحيلاً متوتراً له وجه شبيه بطائر الغاق وعيناه حالمتان مليئتان بالرؤى، قلق، ساحر، حاد، وماكر..”. لكنها شغفت بالجانب الثاني فيه؛ النبي الممرور والكاتب.. تقول: “الكتابة بالنسبة لآرتو مدعاة للألم، لأنها تجيء متوترة مهتاجة مليئة بالتشنج. إن آرتو يعيش صراعاً دائماً مع العالم الذي يستدعيه في مخيلته ويقوم بمحاكاته ومسرحته لتبدو أحداثه العنيفة أشبه بحالة تأملية، أكثر مما تقدّم كمظهر من مظاهر القسوة”.
في محاضرة له بعنوان ( المسرح والطاعون ) في جامعة السوربون يأخذ جسمه بالتعرق، وتتسع عيناه وتتشنج عضلاته.. ويشرع بالصراخ والهذيان وكأنه يمثِّل مشهد الألم والموت؛ موته الخاص.. هذه الطريقة الصادمة تجعل الحاضرين يهمهون ويضحكون قبل أن يبدأوا بالمغادرة. وأخيراً لم يبق في القاعة إلا بعض من أصدقائه المقربين. غير أنه لم يتوقف واستمر حتى النهاية. ثم سار باتجاه أناييس وقبّل يدها. ودعاها لمرافقته إلى المقهى. تكتب أناييس في يومياتها:
“سرنا أنا وآرتو في الضباب الرقيق، سرنا في الشوارع المعتمة، كان مجروحاً متضرراً، مخيَّباً مخذولاً جرّاء السخرية.. لقد نفث غضبه!
ـ إنهم يريدون سماع ( ما حول ) الشيء، يريدون سماع مادة حول ( المسرح والطاعون )، أما أنا فقد منحتهم التجربة بذاتها.. الطاعون نفسه، فارتعبوا واستفاقوا.. ومضيت في إيقاظهم، لم يكونوا مدركين أنهم موتى.. وأن موتهم كان شاملاً كالصمم، كالعمى.. كنت قد جسّدت لهم الألم.. ألمي وألم كل كائن حي”.
أحبها إلى الحد الذي، وعلى حد تعبيره، كان مستعداً أن يقترف مذبحة من أجلها.. كان مجنوناً بها.. ولطالما أعلمها أنه يرى بينهما أشياء كثيرة عميقة مشتركة، بيد أنه في الحقيقة وجد فيها ما ينقصه وإن لم يعترف بذلك.. كانت تكمِّل جوانب من شخصيته. وذات مرة قالت له في حديث عابر: “أنا سعيدة بهلوساتي” فأجابها: “أنا لا أجرؤ قط على إتيان قول كهذا”. وكان يخشى أن تكون محض حلم وتختفي على حين فجأة.. وأخبرته أنه لن يفقدها. لكنه غضب عندما لم تستجب لعاطفته المتوهجة، وشغفه ذي الطابع الحسّي بها. صرخ: “أنت تريدين الهرب مني.. تريدين الاختفاء”.
آمن آرتو بالمسرح وسيلة للثورة.. الثورة التي تحطم العالم القائم الفاسد والقبيح.. وكان هناك غونزالو الرسام والصحافي البيروي الماركسي الساعي للمشاركة في الثورة المسلحة إلى جانب الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية.. غونزالو الذي دخل حياة أناييس “كان غامضاً وحالماً ومفعماً بالنبالة والعمق”. ألفى أناييس امرأة قوية، لا تشبه أية امرأة أخرى في العالم. وأفضى لها بمشاعره: “أناييس أية سطوة لديك.. روحانية وحيوية، أنت مغلّفة بالخرافات والأساطير.. إن لك تأثير السياط عليّ”. ولعله كان يعكس صورة المرأة المثال في ذهنه عليها، وليست صورتها هي.
رفض العيش في أي مكان تحكمه الفاشية، واعتقد أن الحرب العالمية الثانية ستنتهي بانتصار الشيوعية. ودعا أناييس إلى الاهتمام بالشأن السياسي وضرورة أن تمتلك وعياً طبقياً.. أما أناييس فكانت مؤمنة بالفن لا بالسياسة التي تصوّرت عالمها فاسداً وقبيحاً ولا شيء يمكن أن تفعله فيه. وها هي تقارن تأثير غونزالو عليها مع تأثير هنري ميللر: “يهاجم غونزالو عالمي الذي أحيا فيه، وكان هنري قد حطّم فضائلي البرجوازية وها هو غونزالو يسعى لتدمير عالمي الإبداعي”.
اقتادها ذات مرة في صيف 1936 إلى تجمع للشيوعيين على نهر السين، حيث يحاضر مناضلة شيوعية اسمها باسيوناريا مع أندريه مالرو.. تكتب عن تلك الأجواء: “الحشد يغني بصوت واحد.. وروح واحدة، يصرخ ويوقّع بأقدامه ويصفّق.. حاولت أن أستجيب ولكنني لم أنجح.. إنه العنف والغضب”.
انتاب غونزالو هَوَس الموت.. تمنى أن يموت شهيداً، وكانت أناييس تتساءل عمّا يمكن أن يقدمه موت غونزالو من ولادات لهذا العالم!..
غيّرت أناييس أشياء كثيرة في حياة غونزالو.. وهبته الثقة بالنفس والرغبة بالعيش بعدما كان يتسوّل ويسكر ولا يقوم بما هو نافع. وعلى وفق تعبيره: “كل هذا بفضل وجهكِ.. وجه إسبانيا القديمة”. وهي أيضاً تعلمت منه على الرغم من عدم مجاراته في خوض لعبة السياسة.. “لقد جاء ( غونزالو ) هذا التروبادور القادم من القرون الوسطى ليعيد إليّ الحياة بعد أن أتلفني غياب الرومانسية عند هنري ميللر”.
أصبح غونزالو صديقاً لآرتو وعمل في مسرحه. وكانا معاً يتقاسمان الإعجاب والوَلَه بأناييس نن.
[email protected]