أثار عندي الاخوة المتابعون لقراءة المقالات الفكرية التي نكتبها وتنشر في المجلات العراقية والاجنبية الثقافية ، بأعتراضات على جملة نقاط وردت بمقال سابق كتبته حول نظرية الترادف اللغوي في القرآن الكريم ،وقضية الناسخ والمنسوخ،وملاحظات عابرة حول أساطير صحيحي مسلم والبخاري وكتاب بحار الانوار للسيد المجلسي ,والمقابلة التي أجرتها فضائية العربية مع الاستاذ الدكتور محمد شحرور. أثار حفيظتي للتحدث عن أمر أصبح من الواجب التحدث عنه على المكشوف لعلنا نصل الى نتيجة تغير وجه المعرفة الدينية التي جاء بها الفقهاء قصداً والتي جعلتنا نعيش في متاهات القرون الغابرة ، لذا اصبح من الواجب علينا التحدث عن التراث وكيفية معالجة اثاره المدمرة على العقل العربي ومستقبل الامة.واليوم سنحاول ان نلقي الضوء على نظرية الترادف اللغوي في القرآن الكريم بأضافات جديدة والتي اوقعتنا في وهم الغيبيات وأدخلتنا سجنها الفكري الرهيب،وجعلت من امثال الكاتب الهندي سلمان رشدي يصف الاسلام والقرآن بالتخريف.
مصطلح الترادف أشتق من الفعل (ردف)،والردف ما تبع الشيء.،واذا تتابع شيء خلف شيء فهو الترادف، اي التتابع،ومن ذلك قول الحق:(:بألفٍ من الملائكةِ مُردفين،الانفال 9) ويقول الكسائي:ان كل قافية اجتمع في اخرها ساكنان تدخل ضمن المترادفات ،وللترادف معانٍ اخرى كثيرة خارجة عن القصد.والمتابع للسان العرب تحت كلمة ردف لا يجد مطلقا ان الكلمة تعني التشابه او المتشابهات،وهذا دليل لغوي ثبت على ان المصطلحات القرآنية خالية او بعيدة عن الترادف، لكن الفقهاء ألصقوه بالقرآن الكريم لصقاً في التفسير لعدم تمكنهم من معرفة المصطلحات القرآنية تأويلاً.
فهل نبقى نؤمن بالقديم على قدمه لانه جاء من فقهاء الدين ؟
قبل الدخول في حوار الترادف والمصطلحات القرأنية الكثيرة لابد لنا من ان نعرف ان محتويات المصحف الشريف تشمل الايات الحدية والايات الحدودية وأيات التوجيه والاشاد،والاولى ملزمة التنفيذ، والثانية ثابتة في النص متغيرة في المحتوى،قابلة للاجتهاد، والثالثة جاءت من با ب التوجية والارشاد الديني لهداية النا س نحو الاستقامة الحياتية. وهي الآيات المحكمات وهي الرسالة،والمتشابهات التي أطلق عليها صفة القرآن ، والسبع المثاني،وآيات لا محكمات ولا متشابهات وقد أطلق عليها “تفصيل الكتاب:. لكن المفهوم العام ان كل الايات ملزمة التنفيذ بحسب درجات الفهم والاجتهاد التأويلي لها ، فالالزام جاء بقناعة الناس الفكرية والقبول العقلي لها كما في سورة الكهف يقول الحق:( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر أنا أعتدنا للظالمين نارأ،الكهف 29) ولم يقل للكافرين نارا ،لأن الظلم مشترك بين الأثنين .والبقرة :(لا كراه في الدين قد تبين الرشدُ من الغي،البقرة 256).والانفال 🙁 ويريد الله ان يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ،آية7) .هذا هو مفهوم القرأن الذي اغفله المفسرون وجاؤا الينا بتفسيرات أخرى بعيد كل البعد عما قصده القرآن الكريم للناس أجمعين..وهي التفاسير الآلزامية دون نقاش الأخرين .
وهذه التعددية في الايات القرآنية جاءت من اجل معرفة تحديد الفرق بين النبوة والرسالة، فالاولى مجموعة المعلومات والتوجهات التي جاءت في بداية الدعوة لتوجيه النبي نحوها وافهامها للناس للتصديق بها وبه كمبعوث من الله اليهم( كما في سورة العلق(أقرأ باسم ربك الذي خلق) اي لتثبيت حق الاقناع في الرسالة ، والثانية كل الاوامر والتبليغات التي امر بتبليغها للناس كرسالة منه
اليهم، واجبة التنفيذ بالقناعة لا بالاكراه. وكما في سورة الأسراء آية 15 : “ولا تزر وازرة وزر أخرى . فكانت الدعوة منذ البداية قد فتحت طريقا للاختيار الحر والمسئولية الشخصية تمشيا مع ما جاء به القرآن الكريم. ،كما في قوله تعالى(ولوشاء رُبك لأمنَ من في الارض كلهم جميعاً،أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ،يونس 99). ان ما طرحته الدعوة بحاجة الى منهج جديد يختلف عن المنهج الغامض الذي طرحته الحركة الفقهية الاسلامية منذ القرن الثاني للهجرة بكل فرقها المستحدثة في الاسلام نتيجة الاجتهادات الشخصية المختلفة والتي رافقتها الظروف السياسية المتناقضة والبَستُها ثياب التشدد والانغلاقية فحسبته واجباً الزاميا علينا وكأنه هو الدين.
لو تتبعنا آيات القرآن الكريم تتبعا عقليا،بعيدا عن العاطفة ،لسئلنا أنفسنا والفقهاء معاً،هل يقع الترادف اللغوي فعلا في القرآن ويؤدي الى هذا التناقض في المعنى والقبول؟
سوف لن نجد عندهم سوى الجواب التقليدي (هكذا اجمع العلماء،او السلف الصالح) ولا ندري من هم العلما ء والسلف الصالح المعتمدون ،مادامت لدينا سبعين فرقة في النار الا واحدة كما يدعون. وما دروا ان فقه هؤلاء الاجلاء قد فات زمانه الان وأنتهى واصبح في ذمة التاريخ، وهم ونحن بحاجة الى مراجعة افكارهم فصيرورة الزمن تلعب دورا في عملية التغيير . والعالم اليوم فيه الكثير من المتخصصين الذين يستطيعون سد الثغرات والفجوات بثوب جديد دون الحاجة الى التمسك بما تمسك به رواد الترادف اللغوي القديم .نحن لسنا أول أمة لها تراث فكل الشعوب من الهنود والصينيين واليونانيين واليابانيين عندهم أكثر منا تراثا،لكنهم لا يتشبثون بالماضي السحيق كما نحن الان،وهناك الكثير من الامم تقدمت اليوم وهي بلا دين. ونحن لا زلنا نتشبث بالهمذاني والزركشي والاصمعي والبغدادي ،هؤلاء الذين يحشدون ألفاظاً كثيرة للمعنى الواحد ولا يفرقون بين الاسم وصفاته.لكنهم هم المعتمدون،بحجة ان ما اوردوه كان تراثا صحيحا لا يمس. وهنا مشكلتنا المستعصية،فهل من أختراق لها ؟.
اما الذين انكروا الترادف في القرآن الكريم من امثال الجاحظ وابن قتيبة وابو علي الفارسي وابن جني والعسكري والراغب الاصفهاني فلا مكان لهم في رأي المفسرين.
ان طبيعة الاختلاف يجب ان يستند الى قواعد اللغة العربية وادابها في الدراسات الاكاديمية الصرفة لاكما نقلته لنا المعاجم دون مراجعة او تمحيص،لان ظاهرة التطور اللغوي ظاهرة حقيقة واقعة في كل لغة من لغات العالم واللغة العربية منها.
ان اللغة العربية ليست لغة فحسب ،او وسيلة للتخاطب بين شعب من شعوب العالم بل هي ثقافة عامة لكل من يؤمن بالاسلام ويقرأ القرآن لانها لغة تحمل رسالة دينية هي اخر الرسالات وليست لغة الهملايا التي لا يعرفها الا سكانها الاصليين، أفلا يدركون؟
ولنعد مرة اخرى لنقول :ان أشكالية وجود الترادف بحاجة الى حل جذري معتمد من قبل المجامع العلمية للغة العربية ،فنحن لسنا بحاجة لان كل يوم يصدروا لنا معجما منقولا من الاخر من قبل كتاب المعاجم وعاظ السلاطين المترفون من السلطة، وانما بحاجة الى نقلة نوعية في عالم اللغة والتفسير، لان الامة حوصرت حصارا كاملا بهذا التفسير الترادفي الخاطىء،الذي تلقفته السلطة وحولته الى قوانين جائرة بحق المواطنين ،منذ عهد المتوكل العباسي (232للهجرة )والى اليوم .
لذا علينا ان نعالج القضية من جهة اشكالية المعنى والدلالة من خلال المقارنة النفسية والبعد المعرفي ودلالة الاطر والفضاءات الذهنية والتصور الفاعل الذي صاغها الفقهاء الاجلاء ولم يؤخذ بها لمخالفتها لرأي السلطة السياسية كما في أراء الامام جعفر الصادق(ت148 للهجرة ،,حركة الأعتزال الفكرية (بداية القرن الثاني للهجرة) واخوان الصفاء وخلان الوفاء (القرن الثالث للهجرة)..
لقد وردت في القرآن مصطلحات متعددة ومتنوعة كل منها يعني معنىً معين مثل،الكتاب والقرآن والفرقان والذكر وأم الكتاب واللوح المحفوظ والامام المبين والحديث واحسن الحديث وكلها حشرها الفقهاء بمعنىً واحد حين خانتهم الحجة في التأويل فجاؤا لنا بتفاسير قرآنية بعيدة عن الحقيقة والواقع وزرعوها في افكار العامة والخاصة، وها هي نتائجها المدمرة نحصدها اليوم ارهابا وعداوة وتباغضا ،فكانت السُنة والشيعة والمالكية والشافعية والحنابلة ، ومئات أخرى غيرها وكلهاما انزل الله بها من سلطان.اننا بحاجة الى مراجعة تاريخية واصدار الاحكام عليها ليحتل العقل والضمير مكانة التكريم فيها . والا سنبقى نراوح في أماكننا كما هم يريدون.
كل المفسرين اصحاب الترادف اللغوي لم يفهموا ان هناك تلازما بين اللغة والتفكير ووظيفة الابلاغ منذ بداية نشأة الكلام الانساني ،فراحوا يفلسفون اللغة ومعاني الكلمات على غير هدى،ونسوا ان بعض اللغات تتمتع بخصائص بنوية معينة ومتميزة بحاجة الى تمييز في تحديد فروق معاني الالفاظ وحول التباين بين اسم الذات واسم الصفة ،فظلت معاني كلماتها الصعبة ولغة القرآن الكريم العربية منها دون تحديد. ولنأخذ مثلا في سورة المزمل(ورتل القرآن ترتيلا) هنا لا يقصد القرآن التلاوة وأنما يقصد الثقل في التلفظ والنطق لوعورة ما يشتمل عليه القرأن من علم لم يفهمه الفقهاء والمفسرون،فجاؤونا بنظرية ان بعض الايات القرآنية لا تفسير لها والحروف في اول السورة زائدة لا معنى لها وكأن القرآن بنظرهم جاء حشوا بلا معنى في بعض اجزائه الكريمة.
كما قلنا لو شكلت لجان علمية لتفحص هذه الظاهرة الخاطئة المفروضة علينا في تفسير القرآن الكريم لهدمنا التصور الخاطىء في فهم الاسلام القائم على ترادف القرآن والكتاب.ولاصبح علينا لزاما تقديم تصور جديد في فهم الاسلام قائم على تباين في المعنى بين القرآن والكتاب. نحن ندعو الى تصور جديد في فهم الاسلام قائم على المنهج التاريخي العلمي في الدراسات القرآنية والتفريق بن مصطلحاته وما قصد منها .ولنأخذ مثلا بين القرآن والفرقان كما في سورة البقرة 185 ،يقول الحق: (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان)،هنا نلاحظ ان القرآن جاء معطوفا على الفرقان،وفي اللسان العربي لا تعطف الا المتغايرات ،فكيف الامر الى ذلك لوكانت الكلمات مترادفة المعنى.وكما في سورة فاطرآية 31( والذي أوحينا اليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه ان الله بعباده لخبير بصير). لكانت كل هذه المصطلحات القرآنية متشابهة ،فما معنى تصديق الذي بين يديه؟
ان الله مطلق ومعلوماته مطلقة وعندة توجد الحقيقة الموضوعية بشكلها المطلق،لذا اخذ الله سبحانه وتعالى بالحسبان لدى اعطاء الناس ما شاء من علمه ،فكانت المصطلحات القرآنية تَدَرُجية في الفهم والمعنى لسهولة الوصول الى الحقيقة القرآنية التي لازلنا الى اليوم نجهلها . انا لا اعتقد ان القرآن كان كتابا دينيا حسب ،بل كان كتاب هداية لكل القيم الانسانية التي اغفلتها البشرية من قبل وكان توجها الى فتح الافكار الانسانية نحو العلم وربط الظواهر الحياتية والعلمية ،وليس كما صوره لنا الفقهاء والمفسرون وجعلوا من مدارسهم فكرا فيه الزامية الفرض والقبول على المسلمين فنسوا انفتاحية النص في التوجه العلمي والفكري المنفتح، يقول الحق:(قل سيروا في الأرض وأنظروا كيف بدأ الخلق،العنكبوت 20).
أنا ادعوا السادة المخلصين الذين يتزعمون حركة النقاش العلمي للنص الديني ا اليوم، ان يتبنوا الفكرة قولا وعملا ويبتعدوا عن الشعائر الدينية المتزمتة والبعيدة عن فكر الاسلام الحقيقي والذين آوهموا الناس في نظريات الأحزان الدائمة التي صبغت المجتمع بالكآبة والآنطوائية الفكرية، والتخريف وشجعوا السحر وتفسير الأحلام والكتابة على الأجساد لدرجة اصبحت لها عيادات علنية لاشاعة الجهل وتعميمه بين الناس.
. نحن ندعو المخلصين ليصبحوا عوناً جديدا لنا في الحركة العلمية الجديدة المتميزة ولنخرج الوطن العراقي الذي كنا نامل منه رفع راية الحق والتقدم ،لا رايات التشدد والتخلف والأنغلاقية ،ندعوهم الى الانفتاحية فهي ضمانة المخلصين .نعم نحن نعيش اليوم محنة المعري وابن المقفع، فهل سيسمعون….؟.
لقد حان الوقت للتخلي عن التعصب ، ويجب الأعتراف بأن الحقيقة الدينية تتغير وتتطور ، وليست مطلقة ومنقوشة فوق حجر.