تترتب على الحاكمية بشقيها مجموعة من العوامل ترد متعلقاتها إلى الأسباب التي بنيت مقتضياتها على أقسام الفروع الناتجة عن التمليك الحقيقي أو الاعتباري الذي تعود مستلزماته إلى التصرف والتخويل الأرضي علماً أن الثاني لا يخرج عن الأول وإن كان الظاهر يوحي خلاف ذلك، وقد أشار سبحانه إلى بيان هذا المعنى في كثير من متفرقات القرآن الكريم كما في قوله: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك) البقرة 258. وكذا قوله: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين) المائدة 20. وقوله تعالى: (وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) القصص 76. ومن مجموع هذه الآيات نصل إلى أن أسباب الملكية تكون محكومة بالإذن الإلهي دون اعتبار المجازفات التي تؤول نتائجها إلى ما يتقارب والمنهج الذي لا يتخلف عن التمكين، كما في قوله تعالى: (ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد) إبراهيم 14. وعند تأمل التأريخ يظهر أن التمكين في الأرض لا يرجى له البقاء إلا إذا كان الإنسان المسلط عليه مجانباً للتطبيقات المنهجية التي تجعله يقع تحت وطأة المتسلط، وأنت خبير من أن المقدمات ونتائجها قد تكون بيد الإنسان المسلط عليه نفسه. ومن هنا نعلم أن قدر الأفراد أو المجتمعات لا يمكن أن يكون بيد الطغاة إلا إذا كان الجمع الأكبر منهم قد ساعد في إدخال التمكين عنوة ضمن الأسس والتشريعات الوضعية التي ترد أسبابها كما أسلفنا إلى الحاكمية الحقيقية وعلى هذا البناء تكون النتائج جزائية وليست جزافية فتأمل.
من هنا يظهر أن العلل الأولية لا يمكن أن تجانب أسس التشريع الذي تقتضيه التبعية الاعتبارية المتعلقة في الأفراد والجماعات دون الخروج عن اللوازم الثابتة التي تستمد من الباعث الأول بغض النظر عن وجود النظام العائد إلى الملكية الحقيقية أو خلاف ذلك، وبهذا تكون الملكية العامة ناظرة إلى التدبير الذي اختص به سبحانه وبموجب المشيئة التي تحيط بالنواميس والقوانين الطبيعية التي اتخذت نتائجها سلفاً من المقررات الفعلية التي بنيت على التبعات الإيجابية المتمثلة في الطاعة أو السلبية المستمدة من العصيان، وقد أشار سبحانه إلى هذه المقررات بقوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً) النور 55. أما إذا اعتمدنا الشق الثاني من الترتيب فههنا تكون النتائج ملازمة للإنسان المستخلف دون الخروج عن قوانين الطبيعة ونواميسها التي لها الأثر المباشر في تطبيق النظم الإلهية، كما بين تعالى ذلك بقوله: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) الأنفال 46.
وقد بان بما مر أن العامل الفاعل في إيتاء الملك أو نزعه يتفرع على الطاعة أو المعصية وعلى هذا يمكن اعتباره بمنزلة النتيجة التي وجد الإنسان أسبابها المتحكمة في اتخاذ المنحى الآخر الذي يستمد من المقدمات التي تكفل له التفرعات الأولية في نظم التشريع التي تتجسد في المالكية الحقيقية للنظام التكويني، والتأريخ يشهد لهذا النهج وبطرق مختلفة ونماذج لا حصر لها، وبطبيعة الحال فإن هذه الخصائص لا تخرج عن الأسباب القائمة في بناء النهج الإيجابي الذي لا يفارق المجريات اللازمة في تكوين التشريعات التي يرتضيها الإنسان وإن كان الواقع خاضعاً للأفعال المجانبة للأحداث التكوينية التي في مخيلة البعض دون الحقيقة فتأمل بلطف. من هنا نعلم أن الفعل الإنساني وإن كان لا يخرج عن مشيئة الله تعالى دون سلب الاختيار إلا أن ذلك لا يستقيم إلا بإيجاد الأسباب التي هي من صنع الإنسان، أما خلاف ذلك فإن الأمر يرجع إلى القسر وهذا ما لا يحمد الأخذ به وإن كانت الأسباب الطبيعية محكومة بالباعث الذي لا تتخلف إرادته، وأنت خبير من أن القوانين الإلهية لا تركن إلى ما يخالف الواقع المتمثل في مسيرة الإنسانية المتجهة إلى الكمال على الرغم من الاختلافات المنهجية التي أراد البعض الوقوف عندها، وقد بين تعالى هذا المعنى في قوله: (ذلك بان الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم) الأنفال 53. ويعد هذا الدليل الذي أشارت إليه الآية من أهم التطبيقات التي ترجع إلى التأثير المباشر في تبديل نعمة الله تعالى ولهذا نجد في الكبرى إشارة إلى هذا البيان الجامع وذلك في قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) الرعد 11.
وبناءً على ما تقدم يظهر أن السبب المباشر في الكيفية التي يؤتى الطغاة الملك من خلالها تتجسد في المقدمات المتفرعة على النتائج التي كان للفعل أو الترك الأثر الراجح فيها، وقد بين سبحانه هذا المعنى بقوله: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) الأنعام 129. أما ما يخالف هذا النهج فقد أشار الحق إليه بقوله: (فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) البقرة 251. وكذا قوله: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً) النساء 54. وبهذا نصل إلى أن نتائج إيتاء الملك أو نزعه ترتبط جميعها بالأسباب التي تتعلق في نوعية الحاكمية الحقيقية أو خلافها وقد بين الله تعالى هذا المعنى في قوله: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) آل عمران 26. وللمفسرين في الآية آراء:
الرأي الأول: قال الطبرسي في مجمع البيان: لما ذكر سبحانه مكائد أهل الكتاب علم رسوله محاجتهم وكيف يجيبهم إذا سألوا وأجابوا فقال: (قل) يا محمد (الهم) ياالله (مالك الملك) مالك مَلِك ومُلك فكل مالك دونك هالك وكل ملك دونك يهلك، وقيل مالك العباد وما ملكوا عن الزجاج، وقيل مالك أمر الدنيا والآخرة وقيل مالك النبوة عن مجاهد وسعيد بن جبير (تؤتي الملك من تشاء) تعطي الملك من تشاء وفيه محذوف أن من تشاء أن تؤتيه (وتنزع الملك ممن تشاء) أن تنزعه منه كما تقول خذ ما شئت ودع ما شئت ومعناه. وتقطع الملك عمن تشاء أن تقطعه عنه على ما توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة واختلف في معناه فقيل تؤتي الملك وأسباب الدنيا محمداً وأصحابه وأمته وتنزعه عن صناديد قريش ومن الروم وفارس فلا تقوم الساعة حتى يفتحها أهل الإسلام عن الكلبي وقيل تؤتي النبوة والإمامة من تشاء من عبادك وتوليه التصرف في خلقك وبلادك وتنزع الملك على هذا الوجه من الجبارين بقهرهم وإزالة أيديهم فإن الكافر والفاسق وإن غلب أو ملك فليس ذلك بملك يؤتيه الله، لقوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) البقرة 124. وكيف يكون ذلك من إيتاء الله وقد أمر بقصر يده عنه وإزالة ملكه. انتهى موضع الحاجة من كلامه.
الرأي الثاني: يقول أبو حيان في البحر المحيط: الظاهر أن الملك هو السلطان والغلبة كما أن ظاهر الملك الأول كذلك فيكون الأول عاماً وهذان خاصين. والمعنى: إنك تعطي من شئت قسماً من الملك وتنزع ممن شئت قسماً من الملك وقد فسر الملك هنا بالنبوة أيضاً، ولا يتأتى هذا التفسير في تنزع الملك، لأن الله لم يؤت النبوة لأحد ثم نزعها منه إلا أن يكون تنزع مجازاً بمعنى: تمنع النبوة ممن تشاء فيمكن، وقال أبو بكر الوراق: هو ملك النفس ومنعها من اتباع الهوى وقيل العافية وقيل القناعة وقيل الغلبة بالدين والطاعة وقيل قيام الليل. وقال الشبلي هو الاستغناء بالمكون عن الكونين. ثم يضيف: فالذي آتاه الملك هو محمد “صلى الله عليه وسلم” وأمته والمنزوع منهم فارس والروم، وقيل المنزوع منه أبو جهل وصناديد قريش وقيل العرب وخلفاء الإسلام وملوكه والمنزوع فارس والروم وقال السدي الأنبياء أمر الناس بطاعتهم والمنزوع منه الجبارون أمر الناس بخلافهم وقيل آدم وولده والمنزوع منه إبليس وجنوده. انتهى موضع الحاجة باختصار منا.
الرأي الثالث: ذهب ابن عاشور في التحرير والتنوير: بعد مقدمة أن معنى مالك الملك: أنه المتصرف في نوع الملك (بالضم) بما يشاء بأن يراد بالملك هذا النوع والتعريف في الملك الأول لاستغراق الجنس أي كل ملك هو في الدنيا، ولما كان الملك أنه المالك لتصريف الملك أي لإعطائه وتوزيعه وتوسيعه وتضييقه فهو على تقدير مضاف في المعنى. والتعريف في الملك الثاني والثالث للجنس دون استغراق أي طائفة وحصة من جنس الملك والتعويل في الفرق بين مقدار الجنس على القرائن. ولذلك بينت صفة مالك الملك بقوله: (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) آل عمران 26. فإن إيتاءه ونزعه مقول عليك بالتشكيك إيجاباً وسلباً وكثرة وقلة. والنزع حقيقة إزالة الجرم من مكانه كنزع الثوب ونزع الماء من البئر ويستعار لإزالة الصفات والمعاني، كما قال تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل) الأعراف 43. بتشبيه المعنى المتمكن بالذات المتصلة بالمكان وتشبيه إزالته بالنزع ومنه قوله هنا: (تنزع الملك) أي تزيل الملك ممن تشاء. انتهى. وفي البحث بقية من أرادها فليراجع تفسير التحرير والتنوير. فإن قيل: لماذا جعلت عنوان المقال في النزع دون الإيتاء؟ أقول: السبب في ذلك يرجع إلى بناء البحث على قاعدة التخلية قبل التحلية.. وهذا ظاهر.