كان أستاذنا في الجراحة يقول لنا مازحا ” كل فراغ في الجسم يجب أن يُملأ وإلا سيتقيح” , ويضرب لنا مثلا: المعدة بالطعام , والرئتان بالهواء وقس على ذلك من نجاويف البدن.
تذكرت ذلك القول وأوضاع الواقع العربي تتقيح وتتورم وتتعضل وتتطور إلى نوع من الإضطراب السلوكي الفتاك , الذي يكون فيه العربي قاتل العربي والمسلم قاتل المسلم , وفقا لإرشادات وتدبيرات ذوي المصالح والمطامع والأهداف المناهضة لوجود العرب.
ويبدو أن المشكلة الجوهرية تكمن في الفراغية المهيمنة على الواقع الذي يتمتع البشر فيه بالفراغ المطلق , فالأيام فارغة من النشاطات الإقتصادية والعمرانية والإبداعية , والشباب يعيش في عالم فارغ يتسبب له بتقيحات ودمامل متنوعة.
فالرؤوس فارغة ولهذا يتم حشوها بالأضاليل والبهتان , والنفوس فارغة فيتم إتراعها بالسيئات والرغبات السوداء والنوازع البغضاوية والعدوانية , وما يحلو للمغرضين من خمور الكراهية.
فما يميز الوجود العربي خصوصا أن حالة الفراغ مستشرية ومتفاعلة فيه , مما تتسبب بتداعيات وتواصلات متفقة وذاتها وموضوعها , ولا يمكن لفراغ أن يسلم من حالة إجتياح أيا كان نوعها وطبيعتها , ففراغ القوة الذي تأكد بعد سقوط العراق تسبب بإنبعاجات هائلة طغت على الواقع العربي وحشرته في زوايا وأنفاق مظلمة , فراح يستنزف طاقاته وقدراته فيها.
فما يدور من صراعات دامية سببه الفراغ العسكري والإقتداري الحاصل في المنطقة , مما دفع بقوى عديدة للإحلال وإبتكار المصالح وتأمين الأهداف على حساب العرب , ووفقا لحسابات تسعى للتغرير بهم وتدميرهم ببعضهم البعض.
إن الشعور بالفراغ من أخطر ما تواجهه الشعوب والمجتمعات , لأنها تتحول إلى أهداف سهلة وسوحٍ للتصارعات الإقتدارية , التي تقوم بها القوى المتنافسة على ملأ الفراغات الحاصلة في الواقع المستهدف.
ومن الواضح أن معظم القيادات العربية قد فشلت في وعي الفجوات والفراغات , بل وأسهمت في تنميتها وزيادة مساحاتها , مما دفع القوى الخارجية للإحلال فيها وإستثمارها لصالحها.
ولهذا فأن الحل الأمثل للمأساة العربية , هو القيام بتشخيص الفراغات الفاعلة في الحياة والعمل الجاد على تطويقها وملئها بما يساهم في بناء الحياة الحرة الكريمة المعاصرة , الساعية لتحقيق الوجود المقتدر المتقدم المتواكب مع معطيات الزمن الذي يكون فيه.
وهذا يتطلب تكاتف الجهود بأنواعها , والعمل كفريق عمل واحد لإنتاج الأفكار القادرة على التصدي والعلاج والتأهيل الحضاري المعاصر.