19 ديسمبر، 2024 12:59 ص

اي مجتمع نحن ؟ واي فضائيات نملك ؟

اي مجتمع نحن ؟ واي فضائيات نملك ؟

نحن مجتمع لا تزال فيه الحرية غائبة ولا يزال فيه القمع سيداً . مجتمعغير ممارس للديمقراطية وغير مثقف ديمقراطياً . ومجتمع لا يزاليمارس طقوسه القبلية ويُعاني انقساماً واضحاً , ويزدادُ تشظياً دينياًومذهبياً ومناطقيا , مجتمع تابع , مستهلك , يفقد الكثير من موروثاته . مجتمع مصاب بهزائمٍ متكررة , انكسارات تاريخية , مجتمع يعاني فيه70 ٪ من الأُمية الأبجدية  و99٪ من الأُمية الثقافية . مجتمع لا يقرأ فيهأكثر من واحد بالألف , وواحد بالعشرة آلاف من يستخدم الانترنتوالحاسوب .

 مجتمعٌ يزدادُ فقراً , و يسيطر على شبابهِ هوس الهجرة , والبحث عنارضٍ أُخرى , مجتمع آخر , وطن بديل , مجتمع تعرض تاريخياًبهجمات متكررة من الغرب ولازال , دفع أثماناً باهظة لهجماتحضارية وتاريخية لا تزال مفتوحة ولعلها الأخطر عسكرياً وسياسياًوثقافياً وإنسانياً عبر ( الميديا )  الإعلامية الموجهة.  

كل هذا يدفعنا إلى سؤال : ماذا يتلقى هذا المجتمع ؟ أي متلقٍ هو ؟أي إعلام يهيمن على توجهاته وكيف نصنع له إعلاماً ؟ ماذا حققتالفضائيات العربية ولا سيما الإخبارية للإنسان العربي ولمجتمعه ؟ هلوضعته في خضم الأحداث , فمزقت ستائر التعتيم التي حاول صناعالحدث بطريقة أو بأُخرى فرضها أو إسدالها ؟ هل ساهمت هذهالفضائيات في طرح أفكار سياسية ورؤى آيدولوجية فاعلة في الساحةالعربية ؟ علماً انها محرومة من فرص التعبير , لان أجهزة الأمنتطاردها !!

إلى أي مدى قدمت الفضائيات المعنية بدراستنا هذه الشخصياتالفكرية والسياسية الناشطة في الساحات الحزبية والنقابية أو حتىالمجتمعية والتي مورس عليها اضطهاد أو استبعاد لسبب أو آخر ؟وهل نجحت في تقديم الأفكار وشخوصها بدون مبالغة أو رتوش إلىالمجتمعات العربية الساعية لمعرفة الرأي الآخر باعتبار ان الفضائياتالتي تملكها الحكومة لم تُقصّر في عرض رأي الحاكم ومؤسساته ؟

هل اقتربت الفضائيات العربية من قضايا مجتمعاتها , وكذلكالمجتمعات الإقليمية والعالمية , وحاولت تقريب وجهات النظر في إطارما يسمى حوار الحضارات كبديل لما يروجه آخرون حول صِدامالحضارات ؟ وهل أثرت الفضائيات العربية على صانع القرار العربي؟

كثيرة هي الأسئلة المطروحة حول ظاهرة من أهم ظواهر الألفية الثالثة, وهي جزء من ثورة الاتصال أو عالم المعرفة الجديد , وهي مرتبطةبفكرة إنتاج إنسان عولمي جديد بدلاً من استنساخه , كما هي متسقةمع النمط الايديولوجي المستحدث , الايديولوجيا التي تعني في المقامالأول علاقة بين الإعلام والحقيقة , وليس بين الإعلام والايديولوجيا أوالنظام الايديولوجي , كما كان سائداً في ظل العولمة الاشتراكية فيالنصف الثاني من القرن العشرين

سطوة غير مفتوحة

   لقد نشأ في وطننا العربي بعد عام 1990 تحديداً , ما يمكن تسميتهالمجتمع الإعلامي التبعي الذي بات على علاقة شبه يومية بالشاشةتحديداً ويبني عليها قناعاته ويتحول مع تحولاتها , وصارت جزءاً منحيويته اليومية وثقافته أيضاً .

لقد تحولت وسائل اعلام عربية الى قوى سيطرة على ذهنية الشارعالعربي ، وهذا ادى بدوره الى قيام نوع من التواطؤ بين قوى التفاعلالاقتصادي والسياسي من اجل الاستيلاء على النافذة الخلفية لمواقعإعلامية عربية وصولاً إلى القناعات الجديدة التي ترسخت لدى بعضالأنظمة لامتلاك المنظومة الإعلامية زالكاملة وخلق سطوة غير مفتوحةبدل الاعتماد على اقامة علاقات متأرجحة مع المواقع الإعلامية هناوهناك .

وبهذا الواقع حصل تكون ايديولوجي خاص بالإعلام المرئي العربيالجديد والذي تكاد تكون هويته شبه واحدة انطلاقاً من ملكية قوىالسيطرة .

تبدلت المفاهيم السائدة لدى الأنظمة العربية باتجاه تنظيم قوىالسيطرة بمختلف مستوياتها السياسية والاقتصادية للوصول إلىتحديد إطار العلاقة مع الرأي العام عبر شبكات التحكم من أجل فرضنوع من الهيمنة المهذبة القادرة على صناعة الرأي العام(1) .

ان نهاية التاريخ في الفقه الإعلامي الجديد تعني نهاية سيطرة الدولةعلى ادوات المعرفة وعلى وسائل الإعلام , وإذا كان الصحن الفضائيهو الدليل أو التجسيد لفكرة الفضاءات المفتوحة , فان شبكة الانترنتأصبحت البرهان على حرية تدفق المعلومات والمعارف , فضلاً عنسيولة الاتصال وسرعته .

وإذا علمنا إن هناك أكثر من أربعمائة فضائية عربية تنطلق فيالسماء العربية اليوم , فهذه إشارة واقعية إلى ان الأقطار العربيةدخلت عصر الإعلام الفضائي من أوسع الأبواب , ولم يعد المواطنالعربي محكوماً في المعرفة بوسائل تملكها دولته الوطنية ولا حكومته , فقد تعددت منابر المعرفة وفق اختلاف ملاك الوسائل بين ملاكحكوميين _فضائيات رسمية _ وملاك قطاع خاص وبين محطاتتعكس أفكار منظمات سياسية , وفضائيات يمتلكها رجال أعمال . لكنالتطور الحاصل في مجال الإعلام الفضائي لم يأت فجأة بل كانمحصلة لجهود إعلامية متراكمة حاولت فك اسر التبعية الإعلامية , ليس فقط على الصعيد التقني الذي يمثل في الأقمار التي تحمل هذهالفضائيات والتي لم يصنع منها قمر واحد في بلد عربي  وربما كانتهذه المسألة _رغم جسامتها_ اهون التحديات التي تواجه الأقطارالعربية وتنذر بوقوعها أسر التبعية للآخر الحضاري المتقدم(2) .

إن السطوة التي حققها الإعلام الغربي كمصدر مهيمن على القوىالأضعف مثل الإعلام العربي , اجتاحت كل ممتلكات الإنسان العربيمن الهوية إلى الانتماء العرقي والديني وصولاً إلى التبعية الاقتصاديةوحتى تذويب الذات العربية , وصارت حركية المجتمع العربي تتم وفققناعات جديدة تقوم أساساً على الذوبان في النظام العالمي الجديد .

هذه المشكلة ليست مشكلة المجتمع العربي وحده , فالخروق الإعلاميةالغربية تطال شعوباً كبيرة ومجتمعات مختلفة وان بشكل نسبي , إلاان اللافت هو شعور الأوربيين بان الهيمنة الإعلامية الأمريكية مثلاً قدسيطرت فعلاً على المنهج التفكيري للإنسان الأوروبي , وتمكنت منتعميم رابط بين سطوة الإعلام الأمريكي مثلاً وعقل هذا الأوروبي منخلال إيجاد مسار استهلاكي طال الهوية الثقافية الأوروبية واحدثقناعات لتستند إلى موروثات تاريخية تعاني أساسا تزييفاً مسبقاًللحقائق وتحويل نوع من الخرافات التي سادت العقل الأوروبي بُعيدالحروب الصليبية إلى أساسيات في تصنيف المنطقة , الأمر الذيساعد على قبول التعميم الإعلامي الحديث الذي عممته الوسائلالأمريكية وبعض الأوروبية , بحيث تكرست قناعات قد يكون منالصعب اختراقها بسهولة(3)  .

إن الإعلام اليوم صار هو الدبلوماسية الناجحة القادرة على صناعةالتحولات , وهو القوة المؤثرة في ضرب قدرات العدو وأحداث خُروقاتفيها , وهذا أدى إلى جعل القوى المحركة للإعلام تقع مجبرة ضمنمدار كامل مالياً وتكنولوجياً واقتصادياً . لقد عبثت ( الميديا ) الإعلاميةبعقول المجتمعات , وخرقت الأسرار , وتدخلت في العادات , ولم تكنهذه الميديا الاعلامية محايدة يوماً , ولن تكون , لأن من يعتقد ان هناكإمكانية لإعلام محايد هو واهم .فالإعلام هو سطوة قوة , وصناعة رأي, وبالتالي يتسم بالهجومية ضد الآخر .

تاريخية الفضاء العربي

ولدت فكرة إنشاء قمر صناعي عربي خلال اجتماع لمجلس وزراءالإعلام العرب عام 1967 , في مدينة بنزرت التونسية , ولم تهز هزيمةحزيران / 1967 , من قناعات العرب بضرورة إيجاد جهاز إعلاميعربي مشترك يعكس القناعات العربية , وقد تبنى اتحاد إذاعات الدولالعربية فكرة الاستعانة بتكنولوجيا أقمار الاتصال في أول اجتماع لهفي الخرطوم عام 1969 . وكان الحلم عندئذٍ هو اقامة شبكة تلفزيونيةتجمع بين جميع الدول العربية على نمط اليورفيزيون والانترفيزيونالاوروبيتين . لكن الخلافات العربية _العربية لم تترك مجالاً أو فرصةلتنفيذ هذا المشروع الطموح . لكن في عام 1980 تم إطلاق أول قمرمن أقمار عربسات الجيل الأول الذي وضعته شركة ايروسبيسالالفرنسية , وقد خرج هذا القمر عن مساره وضاع في الفضاء . وقدعبرت إدارة عربسات عن أسفها لهذا الإهدار ضمن تقرير قدمته فيندوة _ الخدمات الإذاعية والتلفزيونية عبر الأقمار الصناعية _ فيتونس عام 1987 .

عربسات ضاع في الفضاء !! من هنا يمكن القول إن بداية عصرالفضاء العربي جاءت حينما أسس التلفزيون المصري مشروعاًمشتركاً مع فضائية ( CNN ) الإخبارية الأميركية , وشركة الكوابلالمصرية عام 1990 , لكي تستقبل برامج ( CNN ) وتعيد إرسالها منخلال الشبكة الأرضية المصرية .

وإذا كانت (  CNN) قد استقرت في الغرب وعند صناع القراروأصحاب المصالح المالية الكبرى في العالم باعتبارها أهم مصدرإخباري مباشر لهم , فانها ما لبثت أن فقدت بريقها في الأقطارالعربية بعد انتهاء حرب الخليج الثانية 1991 , حتى ان مشروعهاالمصري أُصيب بخسائر فادحة , ومع ذلك , فان هذا الحدث كان طلقةالبداية لكي تتابع الحكومات العربية , ثم رجال المال والأعمال إلىالفضاء الخارجي .

وكان طبيعياً أن تكون مصر هي الرائدة بحكم تراثها الكبير في مجالالإنتاج السينمائي الذي يرجع إلى بدايات القرن العشرين , وكذلكالإنتاج التلفزيوني والوثائقي والثقافي ووفرة الكوادر البشرية إعلامياًوفنياً. فبدأت الشبكة الفضائية المصرية عام 1991  في بث ( 13 ) ساعة يومياً على عربسات , تشمل الأخبار والرياضة والترفيه والبرامجالدينية والتعليمية والثقافية .. وكان الاستقبال يغطي الشرق الأوسطوشمال أفريقيا وأوروبا وجزءاً من آسيا . وسرعان ماتبعها مركزتلفزيون الشرق الأوسط السعودي       ( MBC ) بتمويل من رجالأعمال سعوديين . وقد أبدت منذ تأسيسها ميلاً واضحاً للنهج الغربيمعلنة انها ستحاول أن تسعى للمصالحة في الشرق الأوسط , وانتكون جسراً بين الشرق والغرب . وقد بدا ذلك واضحاً من سعيها إلىان تكون الطبعة العربية للشبكات التلفزيونية الأمريكية . وقد بدأت هذهالشبكة ببرنامج عربي وآخر بالانكليزية لمخاطبة عرب المهجر .

وفي عام 1994 , أيضاً , انضمت إلى هذه القنوات شبكة جديدةحملت اسم ( Orbit ) , وتتكون من باقة بها (16) قناة تشمل قناتينمصريتين . بالإضافة إلى عدد من قنوات الأخبار الأمريكية من بينهاقناة ( Fox ) الإخبارية التي يرى البعض انها أكثر القنوات كراهيةللعرب وانحيازاً لإسرائيل بحكم ان صاحبها روبرت مردوخ , وهو رجلالأعمال المعروف بانحيازه لإسرائيل .

وفي وسط هذه القنوات والشبكات الفضائية  برزت قناة الجزيرةالإخبارية عام 1997 , برأسمال خاص , وجاء كادرها من مجموعةإعلامية عربية على مستوى مهني كانت تدير قناة ( BBC ) العربيـة , في شبكة ( Orbit ) , مكتسبين خبرات خلال احتكاكهم بالخبراءالأجانب , لكن اللافت هو ان قناة الجزيرة مثلت تحولاً مهماً , وكيفياًفي الإعلام العربي بصفة عامة بسبب شجاعتها في طرح الآراءوالأفكار , واختيار الضيوف , وإعطاء مساحات لمنظمات وأشخاصمهمة كانت محرومة من الإعلام الواسع الضخم , فظهرت برامج كانتحوارية جريئة وصاخبة مثل : الاتجاه المعاكس , وأكثر من رأي , وشهادات حية لمسؤولين عرب سابقين , وفتحت ملفات كانت مغلقة مثل: ملف الحرب اللبنانية , وملف الأسرى المصريين , والقيام بزيارةالمعتقلين العرب في غوانتنامو .

باختصار شكلت هذه القناة نقلة في الإعلام العربي الذي كانتتسيطر عليه الرقابة والجمود والتقليدية , وظهرت آثار هذه القناةوغيرها , لا سيما بعد  انضمام قنوات أخرى , بخاصة أبو ظبي والمناروال بي سي والمستقبل  إلى المنهج نفسه , مع اختلاف الدرجاتوالاهتمام والخلفية السياسية والايديولوجية لكل قناة . واخيراً ظهرتقناة العربية كمنافس اخباري يتسم بقدر من الهدوء لتضيف إلىالإعلام العربي رافداً جديداً ومساحة أوسع للجدل بين الأفكار والتيارات .

ومن المتغيرات الجوهرية التي حدثت في عصر الفضاءات العربيةالمفتوحة , إن وسائل الاتصال لم تعد تعمل في اتجاه واحد , منالحكومة إلى الشعب , بل أصبحت أيضاً تعمل في الاتجاه المعاكس , فقد ظهر ذلك جلياً عندما أدت التغطية الإعلامية الواسعة لانتفاضةالأقصى الثانية بما حملته من مظاهر الوحشية الإسرائيلية في قتلالأطفال العزل والتي ألهبت المشاعر العربية التي كانت قد جنت فيالعقود الأخيرة بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 , فخرجت الجماهيرالعربية تعلن غضبها ليس فقط على إسرائيل بل أيضاً على سلبيةالنظم العربية ما اضطر هذه النظم إلى اتخاذ إجراءات ارضائية وانكان ذلك لمدة مؤقتة , لكن الأمر المؤكد ان الفضائيات العربيةاستطاعت أن تنقل صور التظاهرات الشعبية من المحيط إلى الخليج , وهي صور ضاغطة على صاحب القرار ليس فقط في المحيط العربيبل أيضاً في المحيط الدولي .

ويمكن التمييز هنا بين أنواعٍ عِدة من الفضائيات العربية :

فضائيات إخبارية رسمية منها ومستقلة , تركز في شكل أساسيعلى البرامج الإخبارية والحوارية والوثائقية والثقافية أكثر مناهتمامها بالبرامج النوعية الأخرى .

قنوات نوعية إرشادية أو تعليمية ومن ضمنها أيضاً قناة موجهة إلىالمجتمع الإسرائيلي , أسستها مصر مؤخراً.

قنوات ترفيهية لبث الأفلام أو الأغنيات أو المسابقات الرياضية(4) .

اعمام المعلومات

ساهمت الفضائيات الإخبارية العربية التي لها درجة من الاستقلاليةالإعلامية وهامش الحرية الواسع مقارنة بالفضائيات الرسمية فيتحقيق أمور عدة منها :

إشراك القوى السياسية المحجوبة عن الشرعية في الوطن العربي , أووضع أفكارها وبرامجها أمام الرأي العام لكي يحكم عليها مباشرةبعد غياب طويل ظلت السلطات العربية هي المتحكم الأساسي فيالمعلومات المتداولة حول هذه المنظمات . ونلفت هنا إلى دور المحطاتالفضائية في بث أفكار تنظيم القاعدة من خلال الحوار المباشر معقادته أو عن طريق بث أشرطة مسجلة سلفاً تحتوي آراء هذه المنظمةوأفكارها وغيرها تجاه الحكومات العربية والدول الأجنبية الفاعلة فيالقرار الخاص في المنطقة .

ولولا الفضائيات مثل الجزيرة ومن بعدها أبو ظبي ثم العربية لم يكنممكناً التعرف بصورة واسعة النطاق على أفكار هذه المنظمة . صحيحان الإعلام المكتوب وأشرطة التسجيل هي أدوات ظلت المنظماتالمحجوبة عن الشرعية منذ بدايات القرن العشرين الأكثر حضوراً فيبرامجها الثقافية , ما يعني ان الفضائيات لم تستحدث فكرة نشرايدولوجيا لهذه المنظمات , وإنما ساهمت في توسيع رقعة المطلعينعلى أفكارها من خلال إيصالها بسرعة إلى مشاهد متنوع على امتدادالوطن العربي في وسائل جماهيرية ( Mass Media ) .

ساهمت الفضائيات العربية في عرض أفكار التيارات الإسلامية علىوجه الخصوص من خلال حوارات مع شخصيات ممنوعة في بلادها , فضلاً عن عدد من الرموز المتشددة والمنتشرة في بلدان أجنبية , وكانصعباً عليها توصيل أفكارها إلى المواطن العربي بل ونشر أفكارالجماعات المتشددة العربية الموجودة في أوروبا .

وبطبيعة الحال هناك نظريتان في هذه القضية , فالسلطات العربيةفي غير بلد نظرت بشكل سلبي إلى هذه الظاهرة , واتهمتالفضائيات بأنها تلعب أدواراً تحريضية على التطرف والعنف , ونالتالجزيرة القطرية القسط الأكبر من الهجوم عليها باعتبارها النافذةالفضائية الأولى للمنظمات المحرومة من الشرعيـة , وجرت محاولاترسمية عدة لمنع هذه الفضائية وغيرها من انتهاج أسلوب طرح الأفكارالتي توصف بأنها متطرفة على شاشتها , وقد أثمرت هذه المحاولاتأحياناً وفشلت في اغلب الأحيان .

وهناك نظرة أخرى تعتبر ان طرح الأفكار المتطرفة على الشاشة حتىوان كان يفيد المتطرفين أحياناً إلا انه يضع هذه الأفكار أمام الرأيالعام مباشرةً ويتيح لأنصار الرأي الآخر مقارعتها وتفنيدها , مايساهم في إجلاء الحقيقة وتجد هذه النظرية رواجاً لدى البعض منالتيارات الليبرالية والعلمانية واليسارية التي وجدت ان شعار ( الإسلام هو الحل ) الذي طرحته الحركات الإسلامية في عموم الوطنالعربي , ووجد صدىً عربياً هو شعار معتم ومبهم تستطيع الحركاتالإسلامية أن تكسب به الجماهير البسيطة أو الأغلبية الصامتة , فيحين أن الدخول في تفاصيل الأفكار والبرامج والآراء سوف يكشف عنضحالة قادة التيارات الإسلامية المتشددة ويعطي الفرصة لمناقشتهم , بل الأكثر من ذلك هو ان طرح أفكار المنظمات والأحزاب المعارضة التيمن غير المسموح لها إصدار صحف أو نشرات , سوف يخضعأفكارهم وأطروحاتهم إلى تحليل جماهيري واسع النطاق , وربما يؤديإلى انحسارها في المهد , بينما وجود نوع من الغموض حول هذهالحركات والمنظمات يساهم في تضخيمها والمبالغة في تأثيرها فيالشارع السياسي .

والخلاصة من كل ما تقدم هي :

 _إن الفضائيات قدمت الرأي الآخر والفكر العربي الآخر , ليس فقطعلى الصعيد الإسلامي بل من التيارات المعارضة والمناهضة كافة , بما في ذلك المتشددين في التيار القومي العربي , وساهمت فيإيجاد حالة من الجدل بين التيارات الرئيسية في الأمة : الإسلامي , القومي , الليبرالي , الماركسي , وهو جدل كان غائباً في الإعلامالرسمي العربي بل كان من المحرمات .

_قدمت الفضائيات الإخبارية رموزاً سياسية وقربتهم فكراً وصوراًللذهنية العربية العامة أو الجماهيرية . فصارت وجوهاً مألوفة بعدماعانت التجاهل لازمان طويلة , وتحولت إلى وجوه مألوفة حتى فيالتلفزيونات الرسمية . ويمكن القول ان بعض الأقطار العربية تجاوبتمع المتغير الفضائي العربي وفتح قنواته الفضائية والعربية لاستقبالالسياسيين الذين ظهروا كنجوم في الفضائيات العربية وكان ذلكمتغيراً مهماً جداً.

_اخطأ معظم الفضائيات العربية , ربما بسبب الكسل أو التأثرومحاكاة الغير من خلال التركيز على عدد قليل من الشخوص يمثلونالتيارات السياسية المختلفة , وكأنه لا توجد إلا هذه الشخصيات دونغيرها . وهذه الظاهرة السلبية ساهمت في حرمان المشاهد منالتعرف على آراء شخصيات عربية أخرى , ربما أكثر كفاءة من الوجوهالمعروفة والمحفوظة في الفضائيات . ولا تقتصر الحال هنا على الرموزالفكرية والسياسية المناهضة للحكومات العربية , وانما علىشخصيات دينية تم تقديمها في بعض الفضائيات العربية , كان قد تممنعها من التواصل المباشر مع الجماهير فتحولت إلى نجوم فضائية . وامتد الحال إلى بعض الشخصيات المختلفة مع الرأي السائد , فجرىتقديم بعض منظري السلام مع إسرائيل أو المطبعين العرب , تم عرضأفكارهم مقابل فرض أفكار المناهضين للتطبيع . وشمل الأمر الحوارمع كل من أثار مشكلة فكرية أو ثقافية في بلاده .

واقتربت المحطات الفضائية من الإشكالات الثقافية العربية وناقشتابرز رموزها حول حدود حرية المبدع , لكن هناك شكوى عامة بينالمثقفين العرب من ان الإعلام العربي لم يتبن حتى الآن الكتاب الجـدد. ولم يعلن أو يعلم عنهم ولا يهتم بالتساؤلات الثقافية الجديدة إلا فيحال اصطدامها مع المؤسسات الرسمية , حيث يتوافر قدر من الإثارةوالتشويق , وفي حين حرصت الفضائيات على الحوار مع كبارالسياسيين في أمريكا وأوروبا ولم تهتم بالقدر نفسه بالحوار معالمفكرين المثيرين للجدل من منظري الليبرالية الجديدة ولهم أفكارخاصة بالحوار أو الصدام مع المجتمع الإسلامي(5) .

مشاركة الرأي الجماهيري المختلف

لقد ظلت الرسالة الإعلامية المرئية لعقود حكراً على الدولة وعلى النخبةسواء أكانت نخبة حاكمة أم نخبة وسط التي تقوم على الرسالةالإعلامية فكرياً وتقنياً , وظل الجمهور يلعب دوراً واحداً هو دورالمتلقي , ورغم محاولات جرت منذ إطلاق التلفزيونات العربية فيإعطاء حيوية للرأي العام , والجمهور لجهة إشراكه في البرامج , إلا انهذه المشاركة ظلت محكومة بقواعد صارمة , خاصة المشاركةالسياسيـة , ولم يكن معهوداً ان يشارك مواطن برأي مختلف للتوجهاتالعامة للدولة , وكانت معظم البرامج التي يشارك فيها المواطن مسجلةأي معدة ومراجعة قبل بثها , لكن الفضائيات المستقلة أو شبه الرسمية, وبخاصة قناة الجزيرة ومن بعدها ابو ظبي وباقي الفضائيات إل بيسي , المنار , المستقبل , الجديد , العالم , المستقلة , سعت الى اشراكالمشاهد في الحوار على الهواء مباشرة ما أتاح درجة من الحيويةوالمصداقية من جهة , كما أتاح من جانب آخر فرصة عرض رأيالأغلبية الصامتة في بعض الدول , وبدا مثيراً أن يتحدث مواطنونعرب عن نظامهم السياسي , وكانت تلك احد المحرمات في القاموسالسياسي لبعض الأقطار العربية , بل وظهرت أحاديث عن الفسادوالتحلل القيمي والأخلاقي وجهها مواطنون إلى النخب الحاكمة فيغير قطر عربي , ويمكن القول أن المشاركة الشعبية في الفضائياتاتخذت أشكالاً عدة منها :

_أسلوب المشاركة المباشرة عن طريق الاتصال الهاتفي أو الفاكسوالانترنت .. في اغلب الأحيان كان رأي الجماهير مخالفاً لرأي النخبةالحاكمة .

_الاستفتاءات التي قامت بها بعض الفضائيات لرصد اتجاهات الرأيالعام في شأن القضايا المختلفة , وبخاصة في أوقات الأزمات أوحتى الإشكاليات الفكرية , وكانت قناة الجزيرة هي صاحبة السبق فيإشراك المواطن في الاستفتاءات عن طريق الانترنت وظهرت نتائجمتفقة أحياناً مع القرار الرسمي العربي , ومختلفة أحياناً , كالاستفتاءالذي أجرته الجزيرة حول رأي المواطن العربي في بقاء الجامعةالعربية أو زوالها أو رأي الشارع العربي في بقاء الفكر القومي .

واللافت ان الفضائيات العربية أعطت مساحات للمواطن العربي لمتكن معهودة في الإعلام المرئـي , وبات الفضاء أكثر اتساعاً لقبولالرأي الآخر(6) .

من جانب آخر أدرك الحكام العرب أهمية الفضائيات المستقلة عنأجهزة الدولة , بما لها من سرعة انتشار ومساحة حرية , وربمامصداقية في الأخبار , فضلاً عن الحرفية العالية في أساليب عرضالبرامج والحوارات , فلجأ عدد من الحكام الذين يعانون من قصوروضعف في أجهزة إعلامهم المحلية والفضائية إلى الفضائيات العربية. فظهر البعض منهم في حوارات فضائية اتسمت بالصراحة ووجهتلهم خلالها أسئلة وانتقادات من مشاهدين , وتولوا التفاعل معها والردعليها . بينما يلاحظ من جانب آخر , ان قيادات عربية أخرى لا تميلإلى الظهور في الفضائيات المستقلة , وتحرص على عدم إعطاء أهميةأو ثقل لها , وتعتبرها وسائل إثارة وتحريض تفتقر إلى المصداقية .

الخلاصة

نستخلص من دراستنا هذه الآتي :

_ قدمت الفضائيات العربية على صعيد تقنيات العمل الإعلاميأساليب جديدة تمثلت في ترتيب الأخبار حسب أهميتها وتأثيرها علىالمواطن العربي , وبذلك تراجعت نوعاً ما أخبار الحكام التي كانتتستغرق نصف نشرة الأخبار في بعض التلفزيونات الأرضيةوالفضائية الرسمية .

_ استضافة شخصيات سياسية وإعلامية للتعليق على خبر أو تحليلهمن وجهة نظره بغض النظر عن إذا كان هذا الرأي يتفق مع الخطالسياسي للقناة ومموليها من عدمه , وجرت لأول مرة استضافةشخصيات إسرائيلية رسمية ومستقلة للتعليق على أخبار ترتبطبإسرائيل.

_ جرى تطوير أسلوب البرامج الحوارية لكي تجمع في الحلقة الواحدةأكثر من رأي , واكتسبت هذه البرامج أهمية شديدة للشجاعة في طرحالمواضيع , واختبار الضيوف , وتسخين الحوار , وان كان يؤخذ علىهذه البرامج اعتمادها كثيراً على الإثارة والتحريض وافتعال أزماتبين الضيوف , حتى ان بعض الحلقات بدت وكأنها مشاحنات كلاميةزاخرة بالسب والشتائم والاتهامات بالعمالة والخيانة , لكن بالمقابلاستفادت الفضائيات الرسمية والتلفزيونات الأرضية من فكرةاستضافة أكثر من رأي , فكانت إضافة مهمة ونوعية .

_ جذبت بعض الفضائيات شخصيات إعلامية من حقول مختلفة , وبخاصة الحقل الصحفي سواء كمعلقين ومحللين للأخبار والأحداث أوكمعدين للبرامج والحوارات .

_ اتسمت بعض الفضائيات بالقدرة على اختراق حواجز احتكارالإعلام الغربي لتغطيات الأحداث الساخنة والمهمة . وصار هناكمراسلون عرب في مواقع الأحداث .

_ نزلت كاميرات بعض الفضائيات المستقلة إلى الشارع العربيلاستطلاع رأيه في قضايا الوطن بصفة عامة ، ونقلت صوراً حقيقية مافرض على المحطات الرسمية الاعتدال في إذاعة الأخبار المتعلقةبالنشاطات الجماهيرية ، ولم تعد السلطات العربية قادرة على وصفالتظاهرات الجماهيرية بأنها شرذمة او حفنة من الغوغاء لان الصورالفضائية كانت تكشف الحشود الجماهيرية الكبيرة , وان تنقلتصريحات جريئة تنتقد النظام الرسمي العربي .

_ ساهمت الفضائيات العربية في تجديد الخطاب الإعلامي الرسميالعربي , وإعادة النظر في المفردات والمصطلحات لجهة الاهتمام اكثربالمواطن العربي وليس فقط الاهتمام بالمسؤول العربي .

_ لم تنجح الفضائيات العربية في تحقيق اختراق للمجتمعات الغربيةوالتأثير على الرأي العام فيها بسبب إشكاليات التواصل اللغويومشكلات أخرى .. على الرغم من تنامي النداءات والدعوات لتأسيسقناة فضائية موجهة بلغات مختلفة .. إلا ان شيئاً من هذا لم يتحقق .

نقول : انه على الرغم من عدم توافر دراسات علمية ( تحليل مضمونكمي وكيفي ) لأثر الفضائيات العربية على المجتمع العربي بجوانبهالمختلفة , إلا ان المؤشرات التي يمكن رصدها كتمهيد لبحث علميأكثر رؤية وعمقاً , هي إن الفضائيات العربية مثلت طفرة حقيقية فيالإعلام العربي سواء على صعيد الخطاب الإعلامي وتحديثه أو تطويرفنون العمل التلفزيوني , فضلاً عن تأثيرات مباشرة على الخطابالإعلامي وتحديثه أو تطوير فنون العمل التلفزيوني , فضلاً عنتأثيرات مباشرة على الخطاب السياسي العربي , والتعايش السلميبين الرأي والرأي الآخر .

الإحالات :

1. رفيق نصر الله _ الأمن الإعلامي العربي , إشكالية الدور والهوية , ط1 , دار رياض الريس , بيروت , 2007 , ص 35 و 36

2. عادل الجوجري _ الإعلام الفضائي , استبدال التعتيم بالتضليل أمالتنوير ؟ مجلة النور ( لندن ) , العدد 151 (كانون الأول / 2003 )

3. رفيق نصر الله _مصدر سبق ذكره , ص 37

4. راجع المواقع الالكترونية للفضائيات التي ورد ذكرها .

5. رصد شخصي لبعض الفضائيات .

6. كذلك .

[email protected]