المفهوم القاصر للمعاصرة والتقدم هو أن ننسى ذاتنا وننقطع عن أسس كينونتنا ومعالم وجودنا الثقافية والتراثية , ونعيش عالة على الآخرين فنستورد منهم ما يحلو لنا ونتوهم بأنه منا.
فهل قدم الشعر النثري والحر ما يغني ويثري ويبني ثقافة إنسانية ذات قيمة حضارية؟
وهل تمكنا من كتابة الملاحم الشعرية المتفوقة على قصائد الشعر العربي بقصرها وطولها؟
إننا نسمي النثر شعرا , وما أدركنا لماذا كتب الآخرون بلغاتهم الشعر بهذه الصيغ التي حاولوا بها أن يخرجوا اللغة من ضعفها ومحدودية قدراتها الشعرية.
والشعر العربي منذ بدايات العقد الخامس من القرن العشرين وحتى اليوم هو تقليد لما كتبه الشعراء الأمريكيون بلغة يعرفونها , وحاروا بضعف قدراتها التعبيرية بآليات إيقاعية منضبطة , فأخذوها إلى آفاق الإنفلات وجعلوها تنطلق بلا حدود فصار للشعر معنى غير الذي كان يعنيه.
فرواد الشعر النثري بأنواعه قد تأثروا وبإعترافاتهم بالشعراء الأمريكيين , وبعضهم كان يدرس في أمريكا في حينها وحاول التقليد , والآخرون كانوا على إطلاع بأساليب الكتابة الشعرية باللغة الإنكليزية ومتابعين للشعراء الذين عاصروهم.
وهذا الذي نسميه شعرا لا يمكنه أن يدوم ولو كتبنا آلاف الدواوين وملايين النصوص به , لأنه وبموجب طبيعة اللغة العربية وتوافقا مع نواميس الوجود المنتظمة المنضبطة , سينقرض حتما ولن يتمكن من البقاء لبضعة أجيال , لأن كل ما هو مضطرب بقاؤه محال.
فبقاء قصائد الشعر العربي المكتوبة قبل أكثر من ألف سنة , مهما كانت ضعيفة لكنها باقية بسبب المنظومة الإيقاعية الطبيعية التي إحتوتها.
فلا يمكن لأي شخص معاصر أن يحفظ نصا نثريا واحدا مما نسميه شعرا , بينما تجده يحفظ أبياتا من المعلقات وغيرها من القصائد الضاربات في العمق الحضاري.
فالنظام الكوني لا يقبل الإضطراب , فهو متناسق ومحكم , كما هي الحالة بالنسبة لأبداننا التي كل ما فيها منضبط وله إيقاعاته الفسلجية والبايولوجية المتنوعة , وأي خلل في تناسقها وإنسجامها يؤدي إلى حالة مرضية تتناسب حدتها وشدتها مع درجة الإضطراب الناجمة عنها.
والبحور الشعرية لم تكن مخترعات وإنما مكتشفات إبداعية علمية ذات تماسك تفاعلي رياضي الطباع والصياغات.
إنها رؤية في نهر الإبداع الصاخب , وتحية للأقلام!!