خاص: حاورته- سماح عادل
“محمد الصديق بغورة” قاص وشاعر جزائري، من مدينة “برج بوعريريج” وهو خريج جامعة قسنطينة، وحاصل على دكتوراه أدب قديم، صدر له مجموعة قصصية بعنوان “موج الظنون”. له العديد من المقالات في الأدب الجزائري، كما له تحت الطبع ديوان شعري معنون ب”رسالة أخرى للبحر”، ويعد حاليا مجموعة من الكتب النقدية للطبع، وهومنتج ومقدم لبرنامج أدبي أسبوعي يبث على أمواج إذاعة “برج بوعريريج”.
إلى الحوار:
(كتابات) متى بدأ شغفك بالكتابة وكيف تطور؟
- بدأت الكتابة وأنا طالب بجامعة قسنطينة، بدأت بالكتابة الشعرية وبعض القراءات في أمسيات مخصصة للطلبة سنة 1981
(كتابات) لم اخترت أن تتخصص في الأدب العربي القديم؟
- من صغري أحب التراث العربي وأعده أساسا لأي نص جديد.
(كتابات) لك مقالات في الأدب الجزائري القديم والحديث.. ما تقييمك للأدب الجزائري وما هي التطورات التي مرّ بها ؟
- النص الأدبي الجزائري متأثر بمحيطه الحضاري والثقافي والسياسيّ، تتجاذبه عدة مؤثرات لغوية وثقافية محلية وقومية وعالمية، ومن عوامل قوته أنه حاضر بعدة لغات العربية والفرنسية والأمازيغية والانجليزية.
ولقد ارتبط تطوره بالواقع السياسي والثقافي وبالمشاريع السياسية الكبرى، وهو يستند إلى إنجازات عريقة في التاريخ المحلي كما تجلت في أول رواية في التاريخ وهي الحمار الذهبي لـ “أفولاي” المعروف عند الأجانب بـ “أبوليوس”، ولا ننسى ما قدمته كتابات القديس “أوغسطين” لفلاسفة القرون الوسطى وللفكر المسيحي القديم. ومسيرة الكنيسة الدوناتية الاستقلالية التي جسدت شعار إفريقيا للأفارقة لذلك فإن الأديب الجزائري اليوم يتطلع في عالم الكتابة إلى استعادة دوره الريادي.
(كتابات) في مجموعة “موج الظنون” ما سرّ تضمين القصص نصوصا شعرية ؟
- كنت أحلم منذ الجامعة بطبع ديواني لكن لم أجد فرصة لذلك فلما عرض علي طبع قصصي ارتأيت تهريب بعض المقاطع من النصوص الشعرية، لكنني نثرتها بما يناسب محتوى النص القصصي ومقاصده الفكرية والفنية.
(كتابات) في مجموعة “موج الظنون” من أين تستقي الشخصيات وهل لعب الخيال دور كبيرا في ذلك؟
- في “موج الظنون” وهي مجموعتي القصصية الأولى لاحظت أنني كتبت تقريبا بصوت واحد وبذلك فقد كنت أقرب إلى شاعر، واستقيت أكثر شخصياتي من واقعي القريب جدا فكانت تلك القصص لصيقة بسيرتي الذاتية، ولا يمكن أن أقول غير ذلك لأنه ليس من حقي نقديا الحديث أصلا عن نصوصي فهي ملك القارئ يقرؤها بطريقته وبكل حرية.
(كتابات) ما هي أسباب قلة انتشار الأدب الجزائري في المنطقة العربية وانتشار أسماء بعينها؟
- يتعلق الأمر بتقاليد ثقافية وبإستراتيجية ثقافية، ففي المشرق موجودة مؤسسات عريقة ترعى العمل الفكري وتروج له وتطبعه وتستغل شتى الوسائط لذلك لكننا في الجزائر نلاحظ غياب هذه الإستراتيجية.
(كتابات) ما رأيك في حال النشر وهل يعوق مسيرة الكاتب؟
- النشر جزء من سياسة الثقافة في أي بلد، لكن مع وجود الوسائط الجديدة والالكترونية خاصة فقد تمكن الأدباء من فك الحصار المضروب عليهم بسبب ارتفاع كلفة الطبع والنشر.
(كتابات) ما رأيك في النقد الجزائري والعربيّ وهل يواكب غزارة الإنتاج؟
- الواقع السياسي العربي عامة معاد للفكر النقدي لأن انتشار هذا النوع من الفكر النوعي يقود إلى مراجعة الواقع العربي الشامل ومرجعياته السياسية والدينية والاجتماعية، في نظام متميز بالتسلط والدكتاتورية والجمود المزين بالمحافظة والأصالة الزائفة.
(كتابات) تكتب الشعر والقصة والنقد ما سر هذا التنوع في الإبداع؟
- طبيعي جدّا أن تتنوع كتابات أستاذ يشتغل في مجال النصوص ويحب كتابتهن غير أنها كتابة لا تخرج عن مجال الهواية والرسالة الجمالية والحضارية العامة.
(كتابات)هل واجهتك صعوبات كاتبا وأستاذا للأدب، وما هو جديدك؟
- التعليم يلتهم وقت الكاتب والواقع العربي المتدهور إنسانيا وسياسيا يملأ نفسه شعورا بالخيبة والإحباط، ومصاعب النشر تعقد عملية الكتابة لذا تظل الكتابة المواجهة للواقع العاملة على تغييره جوهر كل كتابة.
في الأفق مجموعة نصوص وثلاث كتب نقدية تعالج الشعر والقصة والرواية. وفي النهاية أوجه تحياتي لكل أحرار مصر وكل الأقلام الجميلة الحالمة والمناضلة والمملوءة بروح الشعب المصري العريق الحر الطامح إلى غد أفضل.
قصة قبل الطوفان..
لمحمد الصديق بغورة
كلماتنا خفنا عليها، فقلناها
لتموت فتدفن في رحم الأيام
فتولد كلمات
أبهى
أجدى
أحلى…
الريح لم تزل كما كانت في براءتها الأولى، وحبات المطر لم تتجاوز حدود لحنها الطفولي رغم مخاوف الأصحاب. ظنوا بأن الريح ستلد عواصف لا محالة والمطر طوفانا. لذلك لم تتسرب الشكوى إلى عمق الشابة يوما، خاصة وهي تسعد كل لحظة بنغم خفي معهود صار جزءا منها ومن كل أشيائها. حتى جدارها الأبيض الذي أحاط بيتها المهيب، كادت تسمعه وهو يتباهى بنصاعته. لم يكن فيه شيء يعكر بياضه ليبقى النهار كبقية الأيام هادئا تماما هدوء ليلها الذي لم يفسد رحابته لون آخر. لكن بقدر سعادتها لهذا السيل المنتظم الذي تتوالى به الأيام كانت تحس أن لونا ما ينقص الصورة.في جيبها الأيسر خبأت صورتها بإحكام بعد أن تأملت تفاصيلها كأنما هي تراها لأول مرة ثم تمتمت: البيت جذاب أكثر هذا الصباح، وكالعادة لا بد من نظرة تمسح المكان للتأكد من بقاء النقاء على عهده، وسلامة البياض الذي يصل حد القداسة في عرفها الموروث. لكن ما عساها تقول الآن وقد رأت ما لم تر من قبل أبدا فهذه القداسة تخدش وهذا البياض يشوبه لون آخر مختلف تماما؟. تساءلت في حيرة:” ألم تشعر قبل لحظات أن شيئا ما لا بد سيحدث”؟ وصح ما توقعت. خطوط ودوائر مبهمة بألوان عدة قد اخترقت حرمة البياض وشوهت نصاعته العتيقة، فما العمل؟ لم تحاول تأمل أو فهم ما أضحى مكتوبا، نطق عمقها بيقين معتاد لا يرقى إليه ريب: ما هذا إلا عبث طفل أو حسد حاسد. ومرة أخرى حثت الخطى رتيبة محسوبة إلى حيث يجب في مثل هذه الحالات. عند بائع الأصباغ وبعد إشارة خفيفة خفية منها سأل الشاب الوسيم باحترام: الأبيض كالعادة؟ ابتسمت وهي في عجلة من أمرها: نعم.. يعطيك الصحة.في الغد خيّم على المكان كله صمت ثقيل لم ينسجم مع النضارة التي عاد إليها الجدار مرة أخرى. حتى الأشجار لم يتحرك فيها غصن ولا لحن. أقلقها هذا الشعور الجديد وتساءلت فجأة عن سر ما حدث أمس من امتزاج للخوف والارتياح، وها هي الآن ورقة في المهب. مرّ الليل كوابيس، ولم يحن الغد إلا بعد ترقّب قاس. كانت خطواتها نحو المخرج متعثرة، وبسرعة متلهف إلى محبوب جرت نحو جدارها. لم تفاجأ وتفاجأت، بل عجزت عن تحديد حقيقة حالها. مرة أخرى تخترق الغرابة عالمها، لكنها تفضل الآن حل شفرة المكتوب. كانت الحروف واضحة. هل سرّت حينها ؟ لماذا تأوهت إذن وهي تحدث الإسفلت الأصم: وماذا قيل أمس في حروف الجدار؟ فردد الصمت ببرودة صارمة صداها، لكنها قالت في إصرار: ليكتب من يكتب ولسوف أكتب أيضا. أحس البائع بشيء من الحرج حين قدم للشابة اللون الأبيض دون استئذان لكن الزبونة فاجأته: من فضلك أي لون تشاء إلا الأبيض. ثم أردفت كأنما لتطمئنه: لا بأس.. لا بأس. الدنيا ألوان. كان الرعد يدوي إلا أن لعبة الكلمات شغلتها عن كل شيء، و كادت السيول أن تأتي على المدينة بأسوارها وجسورها وكل ما فيها إلا أنها تجاهلت الأمر بجميع تفاصيله دفعة واحدة وسقطت الجدران غير أن لعبة الكلمات استمرت. القصّة صارت جزءا من وجدان المدينة، غير أنّ خيال الصغار المولعين بالإنشاء كان يحلو له دائما بأن يضيف بعد رواية الحكاية : “سقطت كلّ الجدران غير أنّ الكلمات ظلت واقفة”.