ما جرى في الواقع العربي لايزال يثير اسئلة والأجوبة مجهولة , محملة بالإتهامات والتقليل من القيمة والمعنى , ومعظم الأقلام أودعتها في صناديق المؤامرات , وحسبتها عدوانا وإنهيارا وفتكا جديدا بالواقع العربي.
لكن جوهر ما جرى لا يزال مغفولا ولم يتم قراءته بآلية سلوكية وتأريخية ذات قيمة معرفية , وقدرة على إستخلاص المعاني والدروس , شأننا في كل حادث حيث نستولده الأحاديث وحسب.
إن ما جرى في الواقع العربي في تونس ومصر واليمن وغيرها من الدول العربية هو ثورات جماهيرية حقيقية متوافقة مع معطيات العصر التكنولوجي التواصلي , وكانت عفوية بكل ما تعني هذه الكلمة , و مجردة من القادة المفكرين ويغيب عنها الفلاسفة المنظرين , ولا تمتلك رؤية مستقبلية وخارطة طريق صيروراتية.
فالثورات لا يمكنها أن تحقق أهدافها وتصل لغاياتها من دون قادة مولودين من صلبها , ومن مفكرين يطلقون فكرها ومبادءها وقيمها , ومن فلاسفة متنورين يرسمون الرؤى والتطلعات الجماهيرية بآليات إدراكية ومعرفية عميقة وواضحة.
فالثورات الناجحة في الدنيا تحققت بسبب إمتلاكها لقادة ومفكرين وفلاسفة , وهذا شأن الثورة الفرنسية والروسية والصينية وغيرها من الثورات الجماهيرية , التي غيرت مسار التأريخ وبنت دولها وإرتقت بشعوبها.
أما الثورات العربية لشدة عفويتها وعدم وضوح رؤيتها وخلوها من العقل الثوري المفكر المدبر لمفردات خارطة طريقها , وجدت نفسها في مواجهة حيرة وإضطراب , مما دفع القوى المؤثرة في الواقع إلى الإنقضاض عليها وإمتطائها مثلما حصل في مصر , فالأخوان المسلمون لم يكونوا من المشاركين فيها حتى اليوم الثالث والرابع , وقد صرحوا بأنهم لن يكونوا فيها قبل ذلك , لكنهم عندما وجدوا الثورة تائهة وبلا قيادة وتيار فاعل ومتمكن إنقضوا عليها ومرروا أجنداتههم من خلالها , وتعاونت معهم قوى ذات مصالح متوهمة , فخاب ظن الجميع , وتمكنت مصر من التحرك المصيري لإنقاذ وجودها من المفترسين المتاجرين بالدين.
وهذا ينطبق على الحالات الأخرى التي جرت في الدول العربية ومنذ ألفين وثلاثة وحتى اليوم , فالقول بأن ما جرى إنهيارات ومؤامرات وألاعيب قوى غير صحيح , وهذا الإستنتاج سببه أن الثورات التي قامت كانت بلا دليل , وما إستطاع الحراك الشعبي العفوي أن يؤسس لتيار منتظم تحت قيادات وعقول ذات قدرات معرفية ورؤى ثورية مستقبلية الحضور والإنطلاق.
ويمكن القول بأنها ثورات مسروقة , وعندما تسرق الثرورات تتحقق التداعيات المريرة ويُصاب الثائرون بالويل والثبور , وقد تنهار الدول والمجتمعات بسببها , كما حصل في ليبيا واليمن وما أصاب غيرها لأدلة واضحة على أن القيام بثورات جماهيرية عفوية يمكن وصفها بأنها مقطوعة الرأس , مما يتسبب بإحلال رؤوس لا تتنتسب للثورة وأخذها إلى حيث تريد تلك الرؤوس المحشوة بما لا يتفق ومنطلقات الثورة العفوية.
ولا تزال المشكلة في الحراك العربي أنه عفوي ومنطلق وفقا لآليات التواصل والتفاعل التكنولوجي , ويغيب عنه القائد والمفكر والفيلسوف الثوري , وهذا ما يجري اليوم في الجزائر والسودان , وأملنا أن كلا منهما قد تعلمت بعض الدروس من الثورات السابقة لها , لكنهما لا تزالان تعانيان من ذات المعضلة الثلاثية الأبعاد , والتي تتلخص بفقدان الرأس القائد والمفكر والفيلسوف , وبدون هذه الأركان الثلاثة لا يمكن لثورة أن تبلغ أهدافها مهما توهمت , وهذا هو صميم العلة العربية الثورية.
فلماذا نكرر ذات المأساة؟!!