في غزل البنات.. الحب ليس للفقراء

في غزل البنات.. الحب ليس للفقراء

خاص: كتب- يوخنا دانيال

ربما كان فلم غزل البنات واحد من أفضل الأفلام العربية. وربما كان الوحش نجيب الريحاني واحد من أعظم الممثلين العرب الى جانب أسطورة فن التقمّص الممثل زكي رستم. وإذا كان الأخير قد ذاب في تقمّصه تماماً إلى حد الاحتراق، فإن الوعي الذي يبديه – أو يشعه – الريحاني في كل لحظة أو مشهد من فلم غزل البنات يسبب للمشاهد – حتى في هذا الوقت – صدمة معرفية ممتعة وطازجة.

 

إذ من الصعوبة الفصل بين شخصية الأستاذ حمام والممثل نجيب الريحاني؛ الفنان الذي يناضل ويجاهد في فنه ليصل إلى اقصى درجات التعبير عن الحصار الذي يواجهه الإنسان المصري العادي في سبيل حياة أفضل. في الفلم … فانّ حمام محاصر بالفقر والقبح والتقاليد الصارمة لطبقة وسطى ناهضة. انه كالثور المقيدّ، يريد أن يحطم قيوده في كل لحظة، ينقل إلينا إحساسا مستمراً بالطاقة الكامنة في داخله. وإنْ كان يعمل في اشرف مهنة – حسب اعتقاده – فإنه عرضة للسخرية والفشل المستمر مع الصغار والكبار.

وعبر مشاهد الفلم … يكشف لنا عن المجتمع الرازح تماماً تحت أغلال من الطبقية والفقر، التي لا فكاك منها، كما لو كنا في تراجيديا إغريقية. وهذا مفتاح لنا، فنجيب الريحاني ممثل تراجيدي بمعنى الكلمة، وتخدمه قسمات وجهه القاسية وصوته الأجش، والسخرية السوداء من الأقدار والأوضاع الاجتماعية التي يكون هو أول ضحاياها. إنه فلم عن المفارقات، وأي مفارقات … مفارقات حياتنا القاسية الصعبة، والفشل الذي يلازم الناس في حياتهم العملية. والفلم بوجه عام، يخيم عليه ظل الطبقات الأرستقراطية وتحكمها بكل شيء، حتى بالاسم الشخصي للإنسان، فمهما يحاول “الباشا” ان يكون لطيفاً أو ظريفاً، ومهما تحاول ابنة الباشا التقرب من حمام، فإن المشاهد لن ينخدع أبدا … حمام قابل للطرد في أي لحظة من عمله الى الشارع الذي جاء منه. لكن الأستاذ حمام يعتقد – مثل معظم أبناء الطبقة الوسطى – أن الصعود الاجتماعي يكون بالعلم والعمل والأخلاق الفاضلة والصرامة في المظهر والسلوك. لكن أنور .. (محمود المليجي) يكشف لنا عن طرق “أسهل” و”أسرع” للوصول الى الأعلى، معتمداً على سحر شيطاني، وعلى معرفة أكثر عمقاً بالطبيعة (شبه الإجرامية) لمعظم المجتمعات الطبقية.

إن التجهّم والقسوة التي يبديها حمام قد تطغي على الفلم لولا وجود الساحرة الصغيرة ليلى مراد، التي تجعل من الجميع مطيّة ومركباً لتحقيق أحلامها العاطفية. فهي تتلاعب بأستاذنا في صراع أضداد مثالي، وتجعله يغادر طبيعته الصارمة لأول مرة في حياته. وعلى عكس حمام تماماً، فإن ليلى مراد؛ جميلة وشابة وغنية جداً ولا يهمها إلاّ اللّهو والبحث عن الحب. إن الاستعراضات الغنائية الرائعة تكشف لنا جمال و”سحر” الحياة الأرستقراطية، ربما بما يصدم المشاهدين في كل مكان وزمان، وليس الأستاذ حمام وحده. والنتيجة، أن كل شيء يدعو حمام لأن يفكر بالحب، فهو أهم من باقي الأشياء، إذا كانت حياتنا أو أقدارنا غير قابلة للتغيير.

إن الدعوة إلى الحب في السينما المصرية – بالرغم من كل سلبيات وسطحيات التعبير عنها – تظل نشاطاً والتزاماً دؤوبا لهذه السينما بما يخفف من شروط الحياة القاسية التي يعيش فيها الفقراء وبسطاء الناس… في الحقيقة إن هذا هو الشيء الوحيد المسموح لأن تبشر به هذه السينما. وضمن هذه الثيمة “التقليدية والمكررة” استطاع الفنان أنور وجدي مخرج الفلم، صنع عمل تمتزج فيه الرومانسية والكوميديا والنقد الاجتماعي الأخلاقي بطريقة سلسة، لذيذة، بعيدة عن الميلودراما، قريبة من نفوس المشاهدين إلى أبعد الحدود، عمل خالد سيبقى في الذاكرة السينمائية العربية لعقود طويلة. في مغامرة ليلى العاطفية القصيرة هذه، يتعلم الأستاذ حمام أو يكتشف جزءاً مهماً من حقيقة المجتمع الطبقي؛ حياة الليل وفرسانها ودسائسها، وكذلك أبطال الصدفة المحضة الذين تُناط بهم مهمة إنقاذ ليلى؛ ونقصد الضابط وحيد .. (أنور وجدي) الذي قد يرمز إلى القوة السياسية الصاعدة للجيش المصري في نهاية العهد الملكي الطويل.

وبالفعل ينجح أنور وجدي في إنقاذ ليلى … لكننا لن ننسى أبدا ما فعله حمام من أجل أن يستنهض همّته ويدفعه إلى القتال من أجلها، كما لن ننسى الضرب والإهانات والسخرية التي تعرض لها حمام من أتباع المليجي، لن ننسى قلقه “غير المعلن” من احتمال تعلّق ليلى بوحيد ، وهو محق تماما في ذلك لأنه – وكذلك المشاهدين – لن يعلموا أبداً حقيقة الضابط وحيد ، أقصد السينمائية طبعاً . يبدو الأستاذ حمام منفعلاً وغير راضٍ عن أي شيء، بعكس الانسجام الذي بدأ يسود بين ليلى ووحيد. لربما يحتاج حمام إلى درس آخر، مختلف بعض الشيء، في منـزل يوسف وهبي الفنان الأرستقراطي حيث يسجل محمد عبد الوهاب أحدث أغنياته. وقد يبدو هذا المشهد – بالنسبة لبعض الدارسين – مقحماً على الفلم، أو ما يشبه مغامرة حلمية مضافة إلى الفلم … إلاّ ان المشهد جميل جداً، والأغنية تحفة فنية رومانسية خالدة. ورغم الجو الطقوسي والرهبة في منـزل يوسف وهبي، فإن الانفعال والهياج اللذين يبديهما الريحاني ينجحان تماماً قي إلقاء الضوء على الطبيعة الأرستقراطية والنخبوية لهذا الجو الفني الخالص. وأخيراً، يستسلم حمام تماماً للصوت الآسر وللجَوق الملائكي الصادح في شبه طقوسية روحانية، يستسلم إلى كلمات الحب الخالد … وأخيراً يبكي بحرقة على كل شيء في حياته، إذ يبدو أنه قد أدرك في النهاية حقيقة الشرط أو القدر الأبدي المهيمن على حياة الفقراء! وسيظل الفقراء يزدادون فقراً والأغنياء يزدادون غنى، وسيظل للحب دوماً…. قصة أخرى.

فيلم غزل البنات..

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة