الفرنسي العربي دانيال ريغ، المستشرق/ المستعرب، الاستاذ في السوربون ومعهد الدراسات السياسية والمعهد العالي للمعلمين. ارتبط اسمه بوجود اللغة العربية وادابها في الجامعات الفرنسية، فهو المبدع لطريقة محدثة عملية وسهلة في تعلم اللغة العربية، وهو المؤلف لقاموس السبيل من العربية الى الفرنسية، والعكس بالعكس. وكذلك لكتاب تصريف الافعال العربية الذي يتوجه الى العرب وغير العرب، وهو الباحث في العديد من الروايات والقصص العربية التي جعل منها موضوعاً لأطروحته في دكتوراه الدولة. اول من عرف بـ الطيب صالح وعبد الرحمن منيف والطاهر وطار وجمال الغيطاني ويوسف العقيد وصنع الله ابراهيم.. في ندوات جامعة السوربون والكولج دو فرانس.
يرفض لقب مستشرق او مستعرب، ويدعو نفسه بـ الفرنسي العربي، وهذا موقف جديد من الاستشراق يتجاوزه الى احضان القضية العربية، قضية لسانية وسياسية، فيدشن بذلك عهد مابعد المستشرق بلاشير، وخاصة بعد الصيحة الجريئة لـ اندريه ميكيل، بأن الاستشراق مات.
قدم ريغ للمكتبة الفرنسية والعربية العديد من الكتب نتناول اهم ثلاثة كتب هنا بالمراجعة والتحليل.
الكتاب الاول:- مختارات عربية : جولة في عالم العرب من خلال الصحافة والادب. الصادر عن دار نشر Maisonneuve et Larose بباريس، الطبعة الاولى، 1977. عنوان كتابه هذا يشي بمحتواه. ففي الكتاب عشرات من القطع المنتقاة بدقة لكتّاب عرب، انتقاهم ريغ ايضاً بدقة، تقدم في مجموعها باقة من المواضيع والافكار منذ زمن الف ليلة وليلة الى يومنا الحاضر. اي ان رغبة المؤلف الكامنة من وراء هذا العمل الانطولوجي، هي فتح ابواب التعرف على الوطن العربي كتراث خاص به. وفي الوقت نفسه له مكانته الهامة في التراث الانساني.
وقد سعى المؤلف للكشف عن هذه المكانة الى الاجيال الجديدة التي تنشأ في فرنسا وغيرها من البلدان غير العربية ـــ على حد قوله في مقدمته ـــ والتي تصبو الى ان تكتشف حقيقة هذا العالم اكتشافاً مباشراً ولو من خلال الادب والصحافة.
وفي رأينا، ان ريغ بهذا العمل يتجاوز التعريف بأدبنا وصحافته الى تقدير هذا الادب وهذه الصحافة والى تقييم مرجعي لمستوى متقدم للكتّاب العرب وللغة العربية يجدر اخذه بعين الاعتبار في الغرب، وكأننا بالمؤلف لا يكسر الطوق من حول الادب العربي فقط بل يقدم للقارئ الغربي نماذج في الكتابة العربية ليحتذى بها في تطوير وتعميق كتابته تماماً مثلما كان يفعل في الماضي الرواد العرب من الرعيل الاول حين نقلو للقارئ العربي نماذج في الكتابة الغربية.
وكان على دانيال ريغ ان لا يكتفي بنقل نصوصنا بلغتها الاصلية الى الاجيال الجامعية الجديدة التي تتعلم اللغة العربية في جامعة السوربون ـــ هكذا يتحدد قوله في تقديم كتابه اكثر ـــ بل عليه ترجمتها الى اللغة الفرنسية لتصبح في متناول يد الاجيال الجديدة بشكل عام دون هوية جامعية تلزم القارئ الغربي بتعلم لغتنا قبل الاطلاع على آدابنا، وهذا مشوار طويل من مهمة المختصين يحدد من امكانية التعرف على آدابنا ويؤجل او انه يقلل من مطامع الكتّاب في فتح ابواب التعرف على الوطن العربي امام الشارع الغربي.
ومما لاشك فيه ان كتاب دانيال ريغ، سيبقى مرجعاً هاماً واساسياً لكل مستشرق جديد ولابناء المغتربين الذين حين نسمعهم يتكلمون عن لغتهم يتكلمون عنها بمرارة تقابلها عقدة الشعور بالذنب.
ونصوصه في الكتابة تتجاوز الـ 350 نصاً، مرتبة حسب ابواب متنوعة ومتكاملة مثل ـــ الطبيعة، الحيوانات، القرية، المدينة، وسائل النقل، العلاقات الاجتماعية.. وفي الاخير تختمها نوادر جحا. وهنا لابد من ملاحظة اهمال ريغ للترتيب الزمني للنصوص بما يربك القارئ، ولكي يخفف من ذلك اتبع حين التنويع في النصوص نهجاً هو ذاته حيث التنويع في الابواب. فعن القرية مثلاً، نصوص تتناول اوصافها واوصاف ناسها من زوايا مختلفة وهي بالتالي متكاملة. وكذلك هناك تنويع في الاساليب طالما ان الكتّاب الذين اخذت عنهم النصوص يختلفون في طرق الكتابة وفي العمر وفي الاتجاه الرؤيوي وفي الجنسية. فالقارئ يجد تحت باب القرية دوماً يوسف القعيد والطيب صالح وميخائيل نعيمة وعبد الرحمن الشرقاوي وعبد الحميد بن هدوقة واحمد تيمور وجبران خليل جبران.. وهم كتّاب لا ينتمون الى بعضهم البعض. ومن ناحية ثانية يركز ريغ على الاسلوب الخاص بالكاتب الواحد فيأتي له بعدة نماذج ليلقي الضوء على اساليب الكاتب او ليكشف عن موقفه من مواضيع متعددة يعطي لكل منها عنواناً يلخص فحوها.
لكن ما يوقع القارئ في الحيرة، ان المؤلف حين اثباته نصاً لا يذكر في خاتمته الا اسم صاحبه. فما مرجعه، ومن اي صفحة فيه، ومن هو صاحب النص، اذ يتطلب عمل كهذا بيبليوغرافيا كاملة للاسماء المعروفة وللاسماء غير المعروفة خاصة. وكان من الافضل بالطبع لو شمل الكتاب على بعض نماذج في التحليل النصي ليتمكن القارئ من ضرب عصفورين بحجر واحد ـــ التعرف على الاداب العربية وتعلم الكشف عن اسوارها.
الكتاب الثاني ـــ صيد الخاطر لابن الجوزي
في هذا الجهد يخوض ريغ بروح الباحث المسؤول مغامرة الفكر والترجمة، فيقدم لكتاب ابن الجوزي (صيد الخاطر) ثم يترجم الكتاب الصادر عن دار سندباد ليقيم الجسر بين اللغتين العربية والفرنسية وبين الفكرين العربي والفرنسي بنفسه ليكسر ميكانيكية العلاقة بين الشرق والغرب وليثبت ان هذه العلاقة هي ممارسة وعمل اولاً وقبل كل شيء وبعد ذلك انفتاح حضاري.
وعبد الرحمن ابن علي ابو الفرج ابن الجوزي، ولد في بغداد في بداية القرن الساس الهجري، من عائلة تجار، وبسبب من كونه يتيماً اوكلت به امه وعمته الى معلم حنبلي هو ابو الفضل بن ناصر الذي اثر في تكوينه الفكري تأثيراً عميقاً، ودفعه نحو شتى علوم عصره. ومثلما قال، فقد تابع ابن الجوزي تعليم سبع وثمانين معلماً، وبصفته واعظاً كانت له هيبة كبيرة على الجماهير، وقد رأى فيه الخليفة احدى ادوات العودة الى الارثوذكسية، وفي الحنبلية وسيلة تدعم الاستقلال السياسي للخلافة العباسية في وجه السلاجقة، ولكن تصلب ابن الجوزي قد اودى به في عهد الخليفة الناصر، الى زوال حظوته سنة 590هـ فكانت له الاقامة الجبرية في (واسط) والعزلة الكاملة مدة خمس سنوات، قبل ان يعود الى بغداد ويتوفى سنة 597هـ.
ويرى ريغ في شخصية ابن الجوزي سمة اساسية الا وهي (حاجة بلوغ الحكمة) والوصول بالآخر اليها. من الناحية الفردية، فان هذه الحكمة مشروطة بالتوازن البيكولوجي ـــ الفيزيولوجي للرجل، وهو لهذا لديه فضول لمعرفة الطبيعة بشكل عام، وتشهد على ذلك الصور العديدة والمجازات الاخرى التي يستمدها منها. وما يشغله، على الخصوص، امر التغذية الذي دفعه الى كتابة بعض البحوث في الطب. ومن الناحية المذهبية فقد تماثلت هذه الحكمة بالحنبلية التي كان عليها ان تضمن، في السياق الاجتماعي والثقافي لعصر ابن الجوزي، حفظ توازن ما بين العلم والعقيدة، على عكس العديد من الصوفيين والمتنكسين والاتقياء الصالحين او المرائين من ناحية، واهل السلف والقضاء او اللاهوت من ناحية اخرى الميَّالين للفصل بينهما. وربما كان هذا المذهب عبر السياسة احسن حام من تهديدات المغول مثلما يواصل ريغ.
كتاب (صيد الخاطر) هو اولاً وقبل كل شيء ليس كتاباً تعليمياً مع انه يتوجه بصفة عامة الى القارئ مستمع غير مسمى، والرغبة ان يفتح له العينين فلا يهمن عليه ولا يتبناه. وهو ليس مجموعة اخبار، ومع ذلك يحتوي على افادات كبيرة الغنى عن الطبائع والمجتمع والاحداث.
واخيراً، ليس الكتاب سيرة ذاتية، الا ان الكاتب حاضر دوماً، لكنه لا يتكلم عن نفسه الا باستحياء درج عليه الكتّاب العرب الذين يغطون كل ظرف له طابع شخصي دامغ.
وقد اعتبر دانيال ريغ (صيد الخاطر) مساهمة في المعرفة عامة فيما يخص تطور الفكر الاسلامي بقدر ما هي مساهمة خاصة فيما يخص الحياة الاجتماعية والثقافية في بغداد القرن السادس الهجري. ويأتي بحث المستعرب في حبكة النص المعروض عن تحديد العمل، وأحد الخيوط المؤدية الى هذا الفكر.
ويرى ريغ في (العارض) غير خاضع لقوانين التعبير، فعلامات (الفاعل) صريحة، واعية، وحاضرة في كل مكان. (انا) المؤلف علامة واضحة، وهي في وضع موافق لضمير المتكلم ليس بصفته ضميراً منذوراً لتشويش علامات النص ولكن بصفته نائباً للشخص الذي يتكلم، والذي يوضح نفسه في فعل كلامه، ويثبت في وجه شخص آخر، هذه (الأنا) من دون غموض في ادراكها لنفسها كموضوع في توجهها لروحها الجامحة او في كلامها لقارئها.
الكتاب الثالث ـــ قاموس السبيل
اصدر دانيال ريغ قاموساً وسيطاً مصغراً عن قاموسه الضخم (السبيل) نشرته دار لاروس، وهدفه ـــ مثلما يقول مؤلفه ريغ ـــ اقامة جسر بين اللغتين العربية والفرنسية، وهذا (السبيل الوسيط) في صورته العربية ـــ الفرنسية، يوجهه الى طلبة المدارس والجامعات، وبوجه عام الى كل المشتغلين بترجمة اللغة العربية الوسطى وهي اللغة الاكثر تداولاً في الكتابة الحديثة.
وبناءً على ذلك، حذف عدداً من المفردات التي قضى الدهر على استعمالها منذ زمن، وكذلك المصطلحات المستخدمة في الميادين المتخصصة الدقيقة، غير انه لم يستبعد المفردات العبارات التي قد ترد في الاسلوب الرفيع ـــ مثلما يواصل القول ـــ ولا الكلمات المسمات خطأ في بعض الاحيان بـ (العامية او الدارجة) لانها ذات انتشار بعيد في المشرق والمغرب على السواء.
لم يقتصر في (السبيل الوسيط) على مجرد تخفيف محتويات (السبيل) بل اراد سد نوع آخر من الاحتياجات وزيادة الايضاحات المفيدة والمعاني المتجددة استجابة لتطور اللغة السريع في وقتنا هذا، ثم تركيز هذا المضمون الجديد في حجم مصغر، فحافظ على التنظيم العام للمفردات، اذ انه معروف في العربية منذ عصور اللغويين العرب الكبار، كما انه ذو فعالية كبيرة في مجالي العلم والتعليم لان اساسه هو الترتيب الابجدي للاصول التي اشتقت منها المفردات.
وعلى أية حال، بذل ريغ ما في وسعه لافادة القارئ كلما كان ذلك ضرورياً بالبيانات التي من شأنها ان تعينه على اختيار الكلمة المناسبة.
دانيال ريغ، توفي في باريس 2007، بعد حياة مليئة بالعطاء الاكاديمي، اشرف على مئات الرسائل الجامعية وترك عدة مؤلفات.. لم تتطرق اليه موسوعة الاستشراق الفرنسي ولا اي كتاب آخر له علاقة بالاستشراق الفرنسي، بحيث نرى صمتاً او اقصاءاً له وللجهود التي قام بها، سواء من قبل المستشرقين الفرنسيين او من الباحثين العرب، وهو يستحق ان تنظم حوله العديد من اللقاءات والدراسات.. لانه حاول التعريف والدفاع عن اللغة العربية، كونه ألف حولها مجموعة من الكتب في النحو والتصريف والاعراب واللسانيات.. كما ان معجمه (السبيل) يعتبر من المراجع التي يعود اليها الباحثين والمهتمين بالترجمة من اللغة العربية الى الفرنسية او من الفرنسية الى العربية.
¤ التوثيق
. Daniel Reig
Morceaux choisis de la Litterature et de la press Arabes, Maisonneuve et Larose, paris, 1977.
LA Pensée vigile ( Le sayd al. Khatir – Ibn – al- Jawzi ) , Sendbad, La Bibliothèque de l Islam, Paris, 1986.
قاموس السبيل: معجم عربي ـــ فرنسي / فرنسي ـــ عربي، مكتبة لاروس، باريس ـــ 1983.